أزمة فيروس «كورونا» المستجد في مصر، وتجميد صدور قرارات المرحلة الثالثة لمجابهة الفيروس التي رُفعت إلى رئيس الجمهورية، هي أزمة حكم، ولا محالة لوصف ما يجرى من دون التطرّق إلى الأزمة الكامنة في أروِقة الحكم. جاء فيروس «كورونا» المستجد، ليؤجج خطوط صدع الحكم في مصر، والتحالفات، والتوازنات، التي أُقيمت منذ أربعة أعوام، بدايةً من تولّي عبد الفتّاح السيسي الحكم بعد الإطاحة بمحمد مرسي، مروراً بعملية التنازل عن جزر البحر الأحمر، تيران وصنافير، للسعودية، ووصولاً إلى مرحلة التعديلات الدستورية، التي حوّلت السيسي إلى فرعون جديد، لا مانع لديه من القبض على قادة عسكريين عارضوه.
منذ أشهر، رُفعت تقارير إلى رئاسة الجمهورية، تفيد بخطورة فيروس «كورونا»، ولكن جاء قرار إغلاق الحدود، وإتمام حظر تجوّل، بعدما قُتل لواءان في القوات المسلّحة، بعد احتكاكهما بمهندسين من شركة مقاولات صينية، تقوم بأعمال بناء في مشروع السيسي الذي كان، بحسب تقدير المقرّبين، سيكتب له عمر جديد وسيخلَّد في صفحات التاريخ، إنّه «العاصمة الإدارية الجديدة»، ذلك المشروع الذي تفوق تكلفته أي جدوى أو اعتبارات اقتصادية. ظهر «كورونا» ليقضي على طموحات السيسي، فسرعان ما تسرّبت معلومات عن رفضه التأشير على قرار إتمام حظر التجوّل، الأمر الذي تخطّته مراكز القوة في الدولة، بتنظيم تظاهرة ليلية تجوب مدينة الإسكندرية لمكافحة الفيروس، وسط هتافات من شرفات المواطنين الإسكندريين. وبتلك الحيلة، بات قرار حظر التجوّل، مطلوباً لمنع تفشّي الفيروس. بَزَغ دور المقاوِل الموالي للرئيس الذي قَبِلَ، على مضض، بتأجيل افتتاح مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، وتأجيل صرف استحقاقاته، فبَلَع الدواء المر هو والسيسي، وهما ينظران إلى الخسائر الفادحة التي بدأت تتراكم منذ العام السابق. تلك الخسائر ستتضاعف، بعد تأجيل افتتاح لؤلؤة المشاريع الرئاسية، التي كانت تضاهي أي مشروع عقاري من قبل في مصر. قرّر المقاول أن ينصاع لتوجيه الضابط، لكنّه لم يستسلم بعد، بل قرّر أن يترك هذه الجولة لعلّه يفوز في الجولة التالية.
ثم رُفعت تقارير للسيسي، تفيد بأنّ مصر يمكنها أن تتخطّى أزمة «كورونا» والآثار الاقتصادية السلبية، عبر إتمام حظر تجوّل تام، يبدأ منذ الساعة الثالثة مساءً بدلاً من الساعة الثامنة، على أن يطبّق من قبل القوات المسلّحة بدلاً من الشرطة، الأمر الذي رفضه السيسي جملةً وتفصيلاً، بل خرجت جوقة إعلامية مصحوبة ببعض رجال الأعمال، مثل نجيب ساويرس وحسين صبور، يندّدون بظاهرة الـ«كورونافوبيا» التي، بحسب مزاعمهم، يمكنها أن تقضي على اقتصاد مصر، متذرّعين بأنّ المشكلة ليست إن مات بعض الأشخاص ـــ وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ هناك فرداً من عائلة ساويريس أُصيب بالفيروس وخضع لفترة عزل وعلاج ـــ بل الأهم هو أن لا يتوقف الاقتصاد المصري. جاءت هذه السيمفونية المحسوبة، في توقيت اقتراحات إجراءات المرحلة الثالثة لمكافحة فيروس «كورونا»، بعدما ارتفع معدّل الإصابات اليومية فوق المئة حالة. عاد المقاول وكسب هذه الجولة، مقابل استمرار البناء في مواقع العمل، بعدما انسحب من الجولة السابقة.
نجح جناح السيسي في أن يؤجّل تفعيل إجراءات المرحلة الثالثة، ولعب إعلاميّوه دوراً مهمّاً وذلك تحسّباً لما كانوا سيعانونه مِن عواقب خطيرة لهم في القطاع


نجح جناح السيسي في أن يؤجّل تفعيل إجراءات المرحلة الثالثة، ولعب إعلاميّوه دوراً مهمّاً، وذلك تحسّباً لما كانوا سيعانونه مِن عواقب خطيرة لهم في القطاع. معروفٌ في مصر، وربما في العالم العربي كلّه، أنّ «موسم» أي إعلامي أو ممثّل هو شهر رمضان. لا يكاد يسلّي أيّ عربي في صيامه، إلّا عبر مشاهدة آلاف البرامج والمسلسلات التي يبدأ تصويرها وكتابتها، أحياناً قبل عامٍ من حلول الشهر المبارك، لذا يقوم ذلك الاقتصاد المصغّر على هذا الشهر وإعلاناته ومسابقاته ومبيعاته وأرباحه الطائلة. فإذا توقفت عمليات تصوير تلك المسلسلات، وهي أرض خصبة لنقل عدوى فيروس «كورونا»، ستتحمّل الشركات المنتجة، ومَن يموّلوها ويدعمونها مِن أجهزة أمنية، خسارات فادحة أكبر من الخسارات التي تحمّلتها العام السابق، حين قرّرت أن تزاحم السوق وتطرد شركات الإنتاج المدنية المنافسة، كي ترسم هي الحيّز الفنّي السياسي المُتاح لكل كاتب سيناريو. هذا هو السبب الحقيقي لكون كلّ مسلسل رمضاني يتمتّع بطابع «لزج»، وتغلب عليه سيناريوات «مسخ»، تحوم حول ضابط شرطة يحارب الإرهاب، ومجتمع لا يقدّر جهده. كل هذه المسلسلات تخضع لتوجيهٍ إعلاميٍ مبني على سيناريو سينمائي وطني ومبتذل، بدلاً مِن تناول قضايا اجتماعية أخرى، مثل تضحيات المجتمع وارتفاع تكلفة المعيشة في مصر.
بهذا، ظهر الإعلامي اللَّبِق والمهندم، في صدارة المشهد وحافظ على قوت يومه، بالرغم من كلّ التدابير الصحية والنصائح الطبية التي توصي بمنع أيّ تجمّعات يزيد عددها على عشرة أفراد. وبهذا أيضاً، كُتب عُمرٌ جديد لكلّ الإعلاميين الذين كانوا مهدّدين بعودة جناحٍ إعلاميٍّ منافسٍ، يتبع مركز قوة آخر للدولة، عبر إعلام الدولة الرسمي مقابل شركات الإنتاج التي تديرها كيانات أمنية مرتبطة برجال أعمال السيسي. ففي الوقت الذي بدت فيه شركات الإعلانات في مصر على وشك إشهار إفلاسها، نتيجة سحب عملائها عقود التسويق، بدأت الحيلة كلّها و«التربيطة» كما يقولون المصريون، تتكشّف و«الخيط يكُر».
كلّ من يسلك طريق كوبري ٦ أكتوبر، أو أيٍّ من الطرق الجديدة في القاهرة التي حُرّكت من أجلها كتائب القوّات المسلّحة الملاصقة للطرق، إن كان طريق السويس أو محور المشير، سيرى أنه تمّ بناء قواعد حديدية ضخمة لحمل الإعلانات. لكنّها اليوم أصبحت خالية مِن أي إعلانات، تماماً بعدما كانت ترفرف بإعلانات برّاقة لكل المارّة، لا سيما إعلانات عن العاصمة الإدارية أو مشاريع شركات عقارية. المثير في الأمر، هو أنّ هذا التزاحم والسوق الجديد، الذي دخلته شركة الهيئة الوطنية التابعة للقوّات المسلّحة المصرية من أجل هذه الإعلانات، أجبر هيئة الطرق والكباري، في عام ٢٠١٥، على أن تُلغي مناقصة إعلانات وتدخل في نزاع قضائي مع شعبة الإعلانات، لأنّه لم يعد هناك مكان لتسويق مساحات الإعلانات التابعة للهيئة على هذه الطرق، بعدما تمّ استبدالها بساحات إعلانية لصالح شركة الهيئة الوطنية التابعة للجيش، التي بُنيت داخل أراضي القوات المسلّحة، الأمر الذي أدى إلى خسارة كبيرة لهيئة الطرق والكباري المصرية، نتيجة تعاقدها من قبل مع عملاء سابقين.
ولأننا على حافة أزمة عقارية في مصر، وذلك قبل تفشّي فيروس «كورونا»، قامت تلك الشركات العقارية الموالية للسيسي بسحب إعلاناتها، التي كانت تدفعها كنوعٍ من أنواع الجباية مقابل حصولها دون غيرها على مقاولات من الدولة. ليس ذلك فحسب، فقد كانت كلّ هذه الشركات العقارية مجبرة على بثّ إعلاناتها عبر قنوات تلفزيونية معيّنة، من أجل رفع إيرادات تلك القنوات الجديدة، وإنجاح مسلسلات باهظة الثمن أنتجتها بعض الجهات الأمنية. كما أُجبرت على مشاركة هذه المشاريع مع مقاولين من الهيئة الهندسية التابعة للقوّات المسلّحة، بعدما خرجوا وأسّس بعضهم شركاتهم «المدنية». فكيف سيربح هؤلاء المقاولون والممثلون والإعلاميون، إذا توقفوا عن بناء مشاريع عقارية أو تصوير مسلسلات؟ أصبح المقاول والضابط والإعلامي في قاربٍ واحدٍ وسط بحر من السخط الشعبي، الذي ينظر إليهم بحقد لتحقيقهم أرباحاً من هذا الاقتصاد الصغير. فكان إمّا الاستمرار في العمل كأنّ شيئاً لم يكن، فيزداد معدّل انتشار فيروس «كورونا»، أو يغرق القارب إذا صدرت قرارات المرحلة الثالثة لمجابهة الفيروس.
ليس ببعيد القول إنّ «زيتهم في دقيقهم» وما جمعه الله لا يحلّه الإنسان، أي أنّ على السيسي أن يتحمّل تكاليف توقّف هذا الاقتصاد المصغّر بعد سنين من تربّحه. أزمة الحكم في مصر، التي طفت على السطح بعد ظهور فيروس «كورونا» المستجد، عبارةٌ عن صناعة نظام السيسي نفسه نتيجة سعيه إلى تحقيق أرباح طائلة، لكن سريعة بصورة غير مستدامة، وعدم اتّكاله على صناعات حقيقية. فكلّ الاستثمارات العقارية ـــ وهنا أعني استثماراً بالمعنى الاقتصادي والمعنى السياسي ـــ باتت مهدّدة إذا توقفت العمالة في مصر، وإذا لم يُرفع الحظر. ونحن، الآن، وصلنا إلى الجولة الأخيرة، التي سيخوضها أعضاء مجلس النواب في الأيام المقبلة، حين يجتمعون لرفع الحظر وإقرار قرارات عدّة لمكافحة «الكورونافوبيا»، وضحد مؤامرة ضرب اقتصاد مصر، الذي كان بقدرة قادر سيسبّب نقلة نوعية لولا فيروس «كورونا». هذا ما سنسمعه في الأيام المقبلة، حين يُكتب سيناريو إخراج نقاشات مجلس النواب المصري، وسط تصاعد المطلب الشعبي بالعودة إلى العمل، وهو ما يذكّرنا بالأسطوانات المبتذلة، مثل لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولكنّ مصر الآن في معركة مصيرية، ليست ضد الكورونا بل ضد مؤامرة الكورونافوبيا. لو استثمر نظام السيسي الجهد نفسه الذي استثمره للبقاء في الحُكم، لقضى على فيروس «كورونا» منذ شهر.
إن صح القول إنّ مصر كانت موبوءة بأزمة حكم، فالمشكلة ليست في التعامل مع «كورونا»، بل في شفاء المريض من فيروس مزمن ومتفشٍّ منذ عشرة أعوام، ألا وهو الخوف من الإطاحة بالسيسي من الحكم... من الداخل.

* كاتب مصري