تكتسب نظرية الاستعمار الداخلي Internal Colonialism ــــ أفريقياً ــــ أهمية كبيرة في تفسير الاهتمام الحالي بنقد ما بعد الاستعمار، ومواجهته، وتفكيكه، ومن ثمّ فهم أدق لقضية «استدامة التخلّف» في أفريقيا ــــ مدعومة بتدخّل وارتباطات خارجية ــــ رغم مرور أكثر من نصف قرن على استقلال غالبية دولها؛ وكذلك دور السياسة في المجتمعات غير المتجانسة إثنياً، والدول التي مرّت بتطوّر الإمبريالية الغربية ــــ عبر سياقات تاريخية لما بعد الاستقلال ـــ ممّا قاد إلى تكريس ما يمكن وصفه بتشوه الدولة الوطنية. وقد صاغ ليو ماركورد L. Marquard (1957) مصطلح «الاستعمار الداخلي» في تناوله للسياسة الاستعمارية في جنوب أفريقيا، وأرجع أصوله إلى استقلال جنوب أفريقيا في عام 1910، وتحقيق السيادة الوطنية في مناطق البيض، وتبنّي نظام سياسي عنصري. وفيما كان الاقتصاد الرأسمالي لجنوب أفريقيا في قبضة رأس المال البريطاني وطبقة رأسمالية بيضاء من المستوطنين من أصول أوروبية (هولندية بالأساس)، تمّ تبنّي نظام «استعمار داخلي» ضامن لاستمرار الهيمنة وتهيئة الظروف للاستغلال الرأسمالي للأغلبية السوداء من قبل رأس المال الخارجي والمحلي معاً.
ملصق كوبي يمجد نضال الشعوب الإفريقية ضد الاستعمار - مؤتمر التضامن مع شعوب آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية OSPAAAL - هافانا 1966

رغم أصول ظهوره الأفريقية، فإنّ المصطلح نما في سياقات أميركا اللاتينية، وتمّ وضع نقده في إطار فكر ما بعد الاستعمار (أو الاشتباك معه من حيث تفكيك رؤى الأخير للدور الإيجابي الذي لعبته الإمبراطورية والاستعمار في تطوير المستعمرات)، والنظرية الاجتماعية لتفكيك الاستعمار Decoloniality؛ ولا سيما أنه قائم مفهومياً على أفكار الماركسية ونقد العرقية واستجابات السكان الأصليين والنضال الوطني والمناهض للاستعمار، منذ عقد خمسينيات القرن العشرين. ويشمل الآن مجموعة متنوعة من القضايا، مثل النزعة النسوية والنقد الأهلي Indigenous Criticism (المقابل عملياً لنظرية ما بعد الاستعمار من جهة نقده الداخلي للشعوب المستعمَرة) وحركة مواجهة الحكم الشمولي. وقد صيغت نظرية الاستعمار الداخلي بشكل متصاعد، عبر الوعي بأثر التمييز العرقي والإثني والوطني على التغيّرات الاجتماعية والسياسية، في مجتمعات ما بعد الاستعمار في القرنين العشرين والحادي والعشرين.

تفكيك مفهوم «الاستعمار الداخلي»
يقدّم «الاستعمار الداخلي» إطاراً تاريخياً وأداة تحليلية رصينة، تتفادى معاملة الاستعمار على أنه «أثر بعد عين»؛ ويقود إلى التركيز على «الاستعمار» كعملية نشطة ومستمرة في «المستعمرات الجديدة». وقد تطوّر المصطلح ــــ كجزء من نقد عام للاستعمار ــــ منذ منتصف ستينيات القرن الماضي في أميركا اللاتينية (بعد نشر كتاب المفكر المكسيكي بابلو غونزاليس كازانوفا Pablo Gonzalez Casanova عن الديموقراطية في المكسيك ــــ 1965، وعمل رودولفو ستافنهغن Rodolfo Stavenhagen الذي حمل عنوان الطبقات والاستعمار والتثاقف ــــ 1963)، وكان مرتبطاً بالأساس بنظرية التبعية، واستخدم المصطلح لوصف ممارسات الهيمنة والتفرقة المكانية والاقتصادية التي شهدتها أقليات معيّنة بعد «التخلّص من الاستعمار».
ولفت كازانوفا الانتباه إلى مخاطر استخدام المفاهيم والتصنيفات الأوروبية من دون ضبطها مع واقع البلاد التي شهدت الاستعمار. وعبّر عن رؤيته أن ثمة تحدياً في محاولة تحليل العلاقات بين النظام السياسي والبناء الاجتماعي مع فئات من الدول المتخلّفة في تجاوز الاستعمار الفكري، بمعنى تبنّي موقف مغاير «من خارجه»، وأن تقدّم نقد الإمبريالية عبر فكرة «الاستعمار الداخلي» كظاهرة متكاملة بالتبادل من الدولي إلى الداخلي يمثل تجاوزاً للاستعمار الفكري. وفي ما يتصل مع شروح كازانوفا، نبّه كثُر ــــ لاحقاً في واقع الأمر ــــ إلى الفخ الدلالي لكلمة «الداخلي»، وإلى أنها لا تقتصر على وصف الصراعات داخل المجتمعات القومية في ما بعد الاستعمار، أو على نطاق جغرافي إقليمي ضيّق؛ بل تشير إلى ديناميات علائقية عبر استعمارية cross coloniality، من متغيّرات اقتصادية وغير اقتصادية متنوّعة. كذلك، يؤشر الاستعمار الداخلي، كفكر وممارسة، على التوتّرات بين الدول المستعمِرة والمستعمَرة، والتوترات بين الجماعات المهيمنة والمهيمَن عليها داخل المجتمعات الوطنية، وبين دول العالم المختلفة. وتستمر هذه العملية حتى الوقت الراهن، حيث تعيد نزعة تكوين المستعمرات coloniality إنتاج نفسها حالياً في السياقين الدولي والمحلي intra-national التابع. كما يثري الاستعمار الداخلي فهم الاختلافات وأوجه الشبه، في المصالح التي تشمل جميع القوى المنخرطة في بناء عالم ينتقل من المحلّي إلى العالمي، ومن الخاص إلى العام، يكون أقرب لعولمة قسرية.
وطوّر كازانوفا لاحقاً، ومواصلاً عمله حتى الوقت الراهن، تصوّراً للاستعمار الداخلي كظاهرة متكاملة دافعة لمقولة إنّ الصراعات التي تنتج في «الأطراف»، وما يترتّب عليها من هجرات وأزمات مشرّدين، تنقل توترات ما بعد الاستعمار نحو المركز، ممّا يعلي من شأن عوامل غير اقتصادية وغير سياسية، مثل العوامل النفسية والاجتماعية والدينية والإثنية والجندرية والقومية، إضافة إلى المكوّن الطبقي الرئيس، في إعادة تشكيل المجتمع السياسي، والمواطنة والسلطة في المجتمعات المتقدّمة، ممّا يبرّر قيمة فرضية الاستعمار الداخلي في تطور علم الاجتماع راهناً ومستقبلاً.

نظرية «الاستعمار الداخلي»: ملامح عامّة
يعني الاستعمار الداخلي ــــ بإيجاز مفرط هنا ــــ وجود القامع والمقموع، والمستعمِر والمستعمَر داخل النظام نفسه؛ وأنّ كلاً من العرق والنوع والطبقة يُستخدم كآلية لبقاء شعبٍ ما ــــ أو جماعة طبقة أو طائفة أو إثنية ــــ في وضعٍ خاضع؛ ويؤدي العرق بشكل خاص دوراً رئيساً ومتبادلاً في هذا المسار. وعلى سبيل المثال، فإنّ العرق المهيمن يؤكد دائماً تنميط هويات الخاضع، ثم منع أي تغيّر إيجابي في تاريخ المستعمِر. وبحسب مقالة شهيرة لكازانوفا ـــ نُشرت عام 1965 وكانت علامة مهمّة في تطوير أفكار الاستعمار الداخلي ــــ فإنه «مع اختفاء الهيمنة المباشرة للأجانب على الأهالي، ظهرت (والأدق تطوّرت، على الأقل أفريقياً هنا) فكرة الهيمنة على الأهالي واستغلالهم من قبل قسم منهم»؛ وإن «الاستعمار الداخلي» يصبح الأداة الرئيسة لتناول وفهم المشكلات المتعلّقة بالعنصرية والمقاومة والهوية والمجال الثقافي.
وكما خرجت فكرة الاستعمار الداخلي من تجربة حركات التحرّر في المستعمرات السابقة، أدّت تجربة الاستقلال إلى ظهور أفكار جديدة متشابكة مع الفكرة عن الاستقلال والتنمية، بحيث أصبح ممكناً وصف الاستعمار الداخلي بأنه «بناء للعلاقات الاجتماعية والاستغلال بين مجموعات ثقافية غير متجانسة». وساعدت هذه الفكرة على توضيح التصور الاجتماعي والسياسي والفكري، من داخل الرأسمالية الاستعمارية ومن خارجها، كمحدّد رئيس لعلاقات الهيمنة والاستغلال. كذلك، يقترب «الاستعمار الداخلي» بهذا المعنى، من فكرة «الصراع الطبقي»، التي كانت محورية في النقد السوسيولوجي الأوروبي قبل عقود من استقلال أفريقيا. أما في سياقات ما بعد الاستعمار، فقد تمّ تجاوز هذه الأفكار وأُعيد تشكيلها بأنماط أخرى من العمل السياسي والثقافي المرتبط بالاختلافات الإثنية والوطنية، فيما وصفه عالم الاجتماع البيروي أنيبال كويجانو Anibal Quijano بأنّ العرق قد أصبح ــــ في سياقات ما بعد الاستعمار ــــ آلية تصنيف هيراركي تنظم «استعمارية السلطة»؛ وأنّ العرق ليس مميّزاً طبيعياً (بحد ذاته)، لكنّه عملية ثقافية لتصنيف الإنسان تقوم بشرعنة «الرأسمالية الاستعمارية»، كتطوّر حتمي تاريخي لا فكاك منه.
وهكذا، فإنّ «الاستعمار الداخلي» يتّسق مع توجه فكر ما بعد الاستعمار الراهن لنقد الهيمنة والاستغلال في السياقين الوطني والدولي على نحو متبادل، وإثارة فهم أعمق بخصوص مسائل التنمية الوطنية، والتبعية، والإمبريالية، والحركات الاجتماعية والديموقراطية. كما أنه يُسهم في فهم الجوانب المعنوية للرأسمالية الاستعمارية، ولاسيما أنّ الهيمنة الاستعمارية لا تقوم فحسب على الاستغلال الاقتصادي للعمّال، لكن أيضاً على الإقلال المعنوي من شأنهم ليكتسبوا طبيعة متخلفة سيكولوجياً.

سياقات تاريخية أفريقية للاستعمار الداخلي
اكتسبت فكرة «الاستعمار الداخلي» زخماً ـــــ بطريقة غير مباشرة ـــــ من نقد «الاستعمار الجديد» التي راجت أفريقياً بعد استقلال غالبية دولها مباشرة (في ستينيات القرن العشرين)، وتفاقم مشكلات الدولة في هذه المرحلة؛ إذ رأى البعض أن ثمة مشكلة رئيسة تتعلق بالنقد الأخير، تتمثل في استبعاد العامل الأفريقي African Agency (أو قدرة أفريقيا على الاستجابة للتحديات)، وافتراض علاقة هيمنة وتبعية «مطلقة»، ومعاملة الأفارقة كجموع متشابهة تماماً، وأنهم ضحايا يتم استغلالهم وإفقارهم واستضعافهم، وأن الطبقات المهيمنة هي التي تمثل تاريخهم. وفي هذا السياق التاريخي ذاته، يلاحَظ أنّ نهاية الاستعمار في شكله التقليدي لم تحل دون إمكانية استمراره في شكل آخر.
تمثل جمهورية جنوب أفريقيا مثالاً لتغيّر نمط الهيمنة الاستعمارية، من استعمار خارجي إلى آخر داخلي. ويفنّد تاريخ جنوب أفريقيا مقولة تحقيق التقدم التاريخي عبر الانتقال من الإمبريالية الإقليمية إلى البحث عن «الهوية القومية». وبكل تأكيد، فقد لعبت الإمبريالية البريطانية دوراً في وضع أساس للتفرقة العرقية في جنوب أفريقيا، ثم الأبارتهيد لاحقاً، عبر تطوير وتطبيق «سياسات وطنية» Native Policies، كما في بقية المستعمرات البريطانية في القارة الأفريقية. ووحّد قانون الاتحاد ـــ 1910 المستعمرتَين البريطانيّتين (مستعمرة الكيب وناتال) لتكوين اتحاد جنوب أفريقيا مع جمهوريتي البوير (الترانسفال وأورانج فري ستيت)، وهو الفاصل الذي أكد اتفاق البريطانيين والأفريكانريين على حقّهم العرقي الحصري في احتلال الأراضي، والتمثيل السياسي والتعليم المنفصل، والحاجة إلى الحفاظ على «الثقافات القبلية» (كما هي؟) عبر تنمية منفصلة. وبفرض قانون أراضي الوطنيين لعام 1913، خصّص أقلّ من 10% من مساحة جنوب أفريقيا للسكان الأفارقة الذين كانوا يشكّلون الغالبية العظمى من سكان الاتحاد، في ما عرف بـ«معازل الأهالي» native homelands. وظلّت جنوب أفريقيا حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية دولة تتمتّع بالحكم الذاتي تحت مظلّة «الاستعمار الداخلي» بشكل تام، كما كانت قوة إمبريالية فرعية تعمل كوَكيل للمصالح الاقتصادية الإمبريالية الغربية في الإقليم.
اكتسبت فكرة «الاستعمار الداخلي» زخماً من نقد «الاستعمار الجديد» والتي راجت أفريقياً بعد استقلال غالبية دولها مباشرة وتفاقُم مشكلات الدولة في هذه المرحلة


ووفّرت سياسة التنمية المنفصلة مبرراً لاستمرار إنكار الحقوق السياسية للأفارقة الذين يمثلون الأغلبية. وتعزّز ذلك، في عام 1970، بتمرير قانون مواطنة Bantu Homelands Citizenship Act الذي اعتبر كل السود من العمالة الوافدة. وبدت، في منتصف الثمانينيات، رغبة الحكومة العنصرية في جنوب أفريقيا في تكوين طبقة متوسطة سوداء لها مصالحها الكبيرة في الرأسمالية العنصرية، مع مسعى تقسيم البروليتارية السوداء إلى قطاع حضري متميّز نسبياً وقطاع وافد معوز إلى حد كبير.
ورغم الانتقال الديموقراطي، منذ أكثر من ربع قرن، فإنّ تبعات «الاستعمار الداخلي» لا تزال حاضرة في الدولة صاحبة الاقتصاد الأكبر في أفريقيا، إذ تواجه حكومة الرئيس سيريل رامافوزا عقبات دستورية وعملية كبيرة، في سبيل تطبيق سياسة إصلاح أراضي وإعادة توزيع الأراضي على الأغلبية السوداء، من دون تقديم تعويضات للأقلية البيضاء قبل نهاية عام 2020، بحسب تأكيد الرئيس.
وطرح هانو برانكمب Hanno Brankamp تناولاً تاريخياً لمسألة الاستعمار الداخلي في أفريقيا، لافتاً إلى دمج إثيوبيا للسكان الكوشيين، والأقاليم الجنوبية ذات الأغلبية المسلمة، وكيف أنها حوّلت سكانها إلى رعايا لنظام من الاستعمار الداخلي، كونهم منفصلين عن «الشماليين»، عبر عوائق وحدود تقسيم سياسية واقتصادية وقانونية وثقافية.
أما في كينيا، فقد كانت النخبة الحاكمة واضحة منذ الاستقلال تماماً في تحيّزاتها، فقد سعت حكومة جومو كينياتا، مع الدعم النشط والاستراتيجي من الغرب، إلى تصوير الرأسمالية كأيديولوجيا أفريقية، والشيوعية (أو الاشتراكية) كأيديولوجيا غريبة وخطيرة، في الوقت الذي عزّز فيه حكم جماعته الإثنية: الكيكويو، ما مثّل تحوّلاً مهماً آخر في كينيا ما بعد الاستعمار. وثمّة شواهد أكثر وضوحاً على «الاستعمار الداخلي»، كمرحلة تالية ومتجاوزة لتصورات الاستعمار الجديد، وخصوصاً على الصعيد الاقتصادي، مع تطوير أفكار وولتر رودني، البالغة التنميط في واقع الأمر، والتي تنطلق من تصوّر رئيس وهو أنّ أوروبا قامت منذ أول اتصال لها بأفريقيا بالدفع نحو «تخلّفها». وبعد النظر إلى كينيا، وفق تصوّر الاستعمار الجديد، من حيث دور الملكية الأجنبية والشركات المتعدّدة الجنسيات، كمقابل لنمو طبقة وسطى أفريقية، عزّزت دراسة كولين ليس Colin Leys عن التخلّف في كينيا (1975) فكرة «الاستعمار الداخلي» فيها، حيث لاحظ استمرار سيادة الملكية الأجنبية في الوقت الذي أصبح فيه «الحكم المباشر من قبل قوة متروبوليتانية (بريطانيا) أمراً غير ضروري مع وقوع المجتمع بالفعل في شرك دوره التابع في النظام الرأسمالي الجديد عبر وسائل (محلية) جديدة»، ودفع محمود ممداني (1984) بأنّ اقتصاد كينيا ليس اقتصاداً وطنياً مستقلاً، لكنّه اقتصاد «استعمار جديد» تمثّل فيه بريطانيا القوة الإمبريالية الرئيسة.
ودعمت طلبات النظام الحاكم في كينيا الدعم الدائم من بريطانيا باعتبارها «مصدراً رئيساً للمساعدات الاقتصادية والفنية» فكرة الاستعمار الداخلي. ورأى آخرون، أبرزهم نيكولاس تشيزمان N. Cheeseman، أنه لا يمكن هذه الاستمرارية إلا على أنّها مستقاة من اختيار واعٍ لمسؤولي الحزب الحاكم (منذ الاستقلال في واقع الأمر) «كانو» KANU، لإعادة مأسسة أبنية الحكم الاستعماري. كذلك يوضح المثال الكيني أن المشروع الاستعماري برمّته، أصبح قائماً بعد استقلال أفريقيا على الوساطات الأفريقية بين الحكومات الأفريقية وحكومة المستعمر السابق، أو كما يؤكد المؤرخ البارز جون هوبكنز، فإنه خلال فترة التخلّص من الاستعمار كان الهدف الرئيس للمسؤولين الاستعماريين «صنع أصدقاء ونفوذ بين من سيشكلون السياسات في الدول الجديدة». وهكذا، فإن تكوين حلفاء ومن ثمّ ضمان استمرار النفوذ، ظلّ عنصراً مهماً في سياسات تفكيك الاستعمار ومؤثراً في تشكيل علاقة بريطانيا بكينيا بعد الاستقلال، ويقوّى أسس «الاستعمار الداخلي» على المدى البعيد.
ولا تزال محاولات نظام الحكم في كينيا لدمج الإقليم الشمالي الشرقي North Eastern Province بشكل كامل في أبنية الدولة، تواجه عقبات داخلية وإقليمية، ولا سيما في ضوء ارتباطات الإقليم ـــــ الذي كان يمثل الصومال الجنوبي واقتطع وتمّ إلحاقه بكينيا في عام 1963 رغم تصويت غالبية السكان لصالح الانضمام إلى الصومال، وتبلغ مساحته نحو 130 ألف كلم مربع ـــــ على المستويات كافة بالصومال، وتزايد التخوّفات الأمنية في الإقليم وعبر الحدود مع الصومال المجاور. لكن هذه المسألة تراجعت نسبياً، بعد تعديل الدستور في آب/ أغسطس عام 2010، وتقليل سلطات الرئيس، وبدء نوع من عدم المركزية، وإن استمر الإقليم يعاني بشكل واضح للغاية من سوء توزيع الموارد.

الاستعمار الداخلي وجدل جائحة «كورونا»
كشفت جائحة «كورونا» عن هشاشة أفريقيا البالغة تجاه أيّ أزمة دولية، وجنوح غالبية نظم الحكم فيها إلى تجاوز استحقاقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في ما يتّسق مع تفسيرات «الاستعمار الداخلي». وكما برز في تأجيل غالبية الانتخابات التي كانت مقرّرة في العام الحالي 2020، وفداحة الخسائر الاقتصادية التي ستواجهها الاقتصادات الأفريقية في العامين 2020 ــــ 2021 على الأقل، بحسب توقعات منظمات أممية، وانكشاف بنى الرعاية الصحية المتهالكة (ولا سيما في المناطق الريفية و«الأطراف»، وارتهان الاستجابة للجائحة التي شهدت أقاليم في القارة الأفريقية أوبئة أشد فتكاً منها منذ سنوات) بالمعونات الخارجية التي ترتبط بدورها، بقدرات النظام على التماهي مع سياسات المانحين، وصلت إلى حد مطالبة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد دول G-20 بحزمة مساعدات طارئة لأفريقيا بقيمة إجمالية تقدر بـ150 بليون دولار لمواجهة «كورونا»، تلتها تقديرات من مسؤولين في اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، بحاجة أفريقيا إلى مئتي بليون دولار (من الدول المتقدمة) للتغلّب على الآثار السلبية للجائحة، وهي أرقام بالغة السذاجة وغير واقعية، وتؤشر إلى خلط السياسات الوطنية بالخطاب الإعلامي «الترويجي».
بشكل عام، يعزّز الوضع الحالي لطلب معونات للاستجابة لأزمة «كورونا»، فرضية أنّ النخب الأفريقية ليست وحدها صاحبة المصلحة في استمرار الأشكال الرجعية من المعونات، لكنّ المانحين أيضاً لهم مصلحة (وفائدة اقتصادية) في الحفاظ على مثل نظم النفوذ هذه داخل أفريقيا، الأمر الذي يمكن التدليل عليه بدعم فرنسا لمساعي أفريقيا ــــ وخاصة دعمها لرئيس الوزراء الإثيوبي ــــ للحصول على المساعدات، من دون أن تقدّم هي نفسها أيّ معونات ثنائية لدول أفريقية في السياق نفسه.

في الختام
تتنوّع النظريات والنماذج، وأحياناً الفرضيات المجرّدة الناتجة من مفهوم الاستعمار الداخلي، وتستخدم ــــ على سبيل المثال ــــ في تفسير التطورات في دول أفريقية عديدة، إضافة إلى نماذج مثل إسرائيل وباكستان وتايلاندا. وقد حضر مفهوم الاستعمار الداخلي في الأدبيات الأفريقية كمجال للنضال الأفريقي ضد الاسترقاق، وفي سياق تأكيد إنسانية السود وحريّتهم ضد صور الاستعمار كافة والإساءة الإنسانية لهم.
ويمكن أن يعرف مفهوم الاستعمار الداخلي، بشكل عام، على أنه مصطلح يجمع تعقيدات التفاوت الهيكلي والسياسي والاقتصادي بين الأقاليم داخل دولة قومية واحدة. كما يصف الاستغلال الدولي لمجموعات «ثقافية» أو إثنية بعينها. كذلك، يشير المصطلح إلى خضوع مجموعة إثنية ــــ عرقية معيّنة «في موطنها داخل حدود دولة أكبر تهيمن عليها مجموعة أخرى». وبالتأكيد، هناك اختلاف مفهومي أساسي بين الاستعمار الداخلي والاستعمار الإقليمي، حيث يكون هناك إقليم كلي macro-region متخلّف اقتصادياً، ويعاني سكانه من قمع مركز الدولة، لكنّ سكان مختلف الأقاليم من الانتماء الإثني ــــ العرقي ذاته. ويمكن تجسيد الاستعمار الداخلي في صور عديدة، منها إخضاع مجموعات إثنية ــــ عرقية مختلفة وذات انتماء ديني مغاير، أو إخضاع أقاليم، أو إخضاع سكان الريف لنخب حضرية، بشكل يجعل من «استدامة التخلّف» خياراً أمثل، وإلى حدّ ما حتمياً، للقارة الأفريقية.
*باحث في الشؤون الأفريقية