قبيل أن نمضي إلى ما نحن ماضون إليه في رحلة الأسطر التالية، أرى واجباً عليّ ذكر حقيقتين اثنتين، أولاهما أنّ تجربة الحزب الشيوعي السوري ــــ المكتب السياسي ــــ هي من أنضج التجارب التي شهدتها الحياة السياسية في سوريا، على امتداد العقود الخمسة الماضية؛ وثانيتهما أنّ الأستاذ محمد سيّد رصاص هو من أبرز من تصدّوا بالتشريح والتحليل لتلك التجربة، وخصوصاً أنه كان شاهداً على العديد من المفترقات التي شهدتها هذه الأخيرة حتى باتت معلماً أساسياً في مسارها لا يفارقها، ولا مقدراً له أن يفعل، في مقبل المراحل والتجارب، انطلاقاً من معطيات عدّة، على أمل أن تنجح هذه العجالة في أن تخرج بعضها من بطونها أو من بين ثناياها.
سيرجيو إنغرافالي - ألمانيا

في أدبيات الحزب الشيوعي ــــ جناح المكتب السياسي ــــ المنشورة، يُنظر إلى قطرة «7 آذار 1972»، التي تمثّلت بموافقة الحزب الشيوعي قبيل الانشقاق بزعامة خالد بكداش، على الدخول في «الجبهة الوطنية التقدمية»، على أنّها النقطة التي أترعت بها كأس الخلافات، المترعة أصلاً بنقاط عديدة راكمتها محطات وطروحات خرجت إلى العلن في المؤتمر الثالث عام 1969، من نوع هيمنة موسكو على قرار الحزب وسطوة الأمين العام (خالد بكداش) وتفرّده بدفّة القيادة، ثمّ تجاهل إقرار أي برنامج سياسي للحزب منذ المؤتمر الثاني المنعقد في عام 1944، حتى كان بيان 3 نيسان/ أبريل 1972 الممهور بتوقيع 7 أعضاء من أصل 15 يمثلون اللجنة المركزية، وممهور فقط بتوقيع اثنين من أعضاء المكتب السياسي، هما خالد بكداش ويوسف فيصل، وبات أمر الانشقاق أمراً واقعاً ليخرج إلى العلن حزب جديد، سيشار إليه على أنه «جناح رياض الترك»، على الرغم من أنّ الأخير لم يكن منظراً أول لإديولوجيا الانشقاق، ولا راسماً للتوجهات الأساسية فيها. ولربما حدث ذلك بفعلٍ جرى تسليط الضوء عليه لدى البعض، هو عامل الكاريزما الطاغي لهذا الأخير، لكن في خلفية الصورة كان هناك استثمار في حقل مزروع بمحصول رائج آنذاك، وسيصبح أكثر رواجاً في ما بعد، وهو أنّ ضعف السياسات الراهنة في الأحزاب والتيارات، بل وحتى في الأنظمة، مردّه إلى طغيان صعود قيادات ريفية أو هي تعود في أصولها إلى بلدات أو أشباه مدنٍ، وفي هذا السياق، فقد تراجع دور أحمد فايز الفواز «الريفي» لصالح بروز دور رياض الترك «المديني». هذا المنحى سيتعمّق لاحقاً، بعد أن يقترن بنظيرٍ له أشد وطأة، ولربما كان الاثنان قد جاءا بفعل رسم السياسات بدلالة الآخر، بمعنى أنهما كانا أقرب إلى ردّة الفعل، منهما إلى الفعل.
ستبرز نظرة فايز الفواز الثاقبة، ما بعد بروزها المؤسّس لمنهجية ولادة الجسم السياسي الجديد في محطتين لافتتين، بل مصيريّتين أيضاً، بالنسبة إلى مسار الحزب: الأولى، عندما وقف وحيداً في المؤتمر الخامس للحزب كانون الأول/ ديسمبر 1978 ضد «توصيات» ياسين الحافظ التي تبنّاها ذلك المؤتمر، بعدما قرّر الخروج بمنهجية جديدة عبر لبوس جديد للديمقراطية بعيداً عن المفاهيم السابقة لهذه الأخيرة، التي كانت تقوم عادة على لصق أحد لبوسين اثنين بها هما «الثورية» أو «الشعبية». في ما بعد سيتأكد أنّ ذاك التبني كانت له تبعات خطيرة ستمهد لاحقاً، أو هي ستهيئ الأرضية، لتسويق نزعة الليبرالية الطاغية ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، والتي ستتزايد فقاعتها ما بعد سقوط بغداد عام 2003؛ وثانيتهما، استشرافه المبكر ــــ رفقة إلى جانب جمال الأتاسي الذي انضم الحزب، الذي نقصد به المكتب السياسي هنا، نسبة إلى تجمّعه الوطني الديمقراطي المولود 18 آذار/ مارس 1980 ــــ لمَيَلان ميزان القوى نحو السلطة التي كانت تخوض صراعاً مسلّحاً مع تنظيم «الإخوان المسلمين» بدءاً من نيسان / أبريل 1980. في ما بعد سيتأكد أيضاً أنّ تهميش تلك الرؤية سيكون ذا أثمان باهظة أمنياً، ولربما لو جرى تبنّيها لأمكن تفادي سلسلة الاعتقالات البادئة في تشرين الأول / أكتوبر 1980 والمستمرّة بشكل متقطّع إلى عام 1990، والتي كانت لها آثار تدميرية على هياكل الحزب وقواعده.
طاولت اعتقالات تشرين الأول / أكتوبر 1980 الأمين العام رياض الترك وجلّ قيادات الحزب، فأوكلت قيادة هذا الأخير إلى أحمد المحفل (أبو كامل) المقيم في باريس، منذ عام 1976. وعلى امتداد ثمانية عشر عاماً، انتهت بخروج الترك من المعتقل، جهد المحفل في انتهاج سياسة واضحة كانت تقوم على «تطهير» هياكل الحزب ــــ قيادات وقواعد ــــ من «العلويين»، ولم يكن ذلك سراً أو مواربة. وقد فضحت هذه الممارسات السيدة ناديا قصّار في موقع «الحوار المتمدن»، في مقال نشرته عام 2004 لمناسبة التقائها منتجاً فرنسياً على هامش أحد مهرجانات الأفلام في إيطاليا، كان على اطّلاع دقيق بممارسات المحفل الطائفية، بل إنّ المحفل نفسه كان قد صرّح في تلك الفترة لصحيفة فرنسية بأنه «إذا ما دخل في مقهى وشاهد فيه علوياً يخرج في الحال، كما لو أنه يدخل في مكان مليء بالجرب». والمؤكد، هو أنه يمكن إطلاق وسم «تسنين الحزب» على تلك المرحلة، التي نجح المحفل في رسم معالمها، عبر إمساكه بملف التنظيم في الوقت الذي كان الأتاسي فيه هو المُهيمن على رسم أدقّ تفاصيل الخط السياسي. والجدير ذكره هنا، أنّ هكذا وسماً لم يولد فجأة، بل إنّ الترك نفسه كان قد وقف معارضاً لانضمام «رابطة العمل الشيوعي» إلى «التجمع الوطني الديمقراطي» السابق الذكر، التي كان يسمّيها «رابطة العمل الشيعي» كناية عن غالبية العنصر «العلوي»، في نسيجها البادئ بالتبلور منذ عام 1973. هذه السمة ستصبح أكثر وضوحاً في المحطات اللاحقة.
بدأت حالة التحوّل ــــ التي شملت الفكر وأدواته ــــ عند رياض الترك، منذ خروجه من السجن. وفي أولى المحطات التي واجهته في مرحلته تلك، سيعلن في لقاء على قناة «الجزيرة» بعد وفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد: «كانت مشكلتنا مع الديكتاتور... والآن مات الديكتاتور»، تصريحٌ حمل نفحة من الحقد ليست خادمة في ميادين السياسة، وقد كان من الممكن تشذيبها بما تسمح به وقائع التوازنات القائمة آنذاك. ظهر الترك السبعيني المُثقل بالانهيارات، وكأنّه لم يعد لديه شيء ليخسره على الصعيدين الشخصي والسياسي، وكان من الممكن تبرير ذلك في ما لو استجمع أوراقه، وأعلن أنه ماضٍ إلى البيت.
في المحطة الثانية والأهم، سيعلن الترك من على صفحات جريدة «النهار»، أواخر أيلول / سبتمبر 2003، أي بعد ما يقرب من ستة أشهر على سقوط بغداد، عن نظرية «الصفر الاستعماري» المستولدة عنده ــــ لربما ــــ من نظرة كارل ماركس إلى الاستعمار البريطاني للهند. في ما بعد هذا الزلزال الأخير، الذي لم تتحسّسه حتى الدائرة الضيقة والمقرّبة من الترك، لترى فيه ما يجب أن تراه، سيحزم هذا الأخير حقائبه لرحلة طويلة امتدت لأكثر من شهرين، أما وجهتها فكانت صوب أوروبا وكندا، حيث الهدف هو العبور براً باتجاه أراضي الولايات المتحدة الأميركية.
لم تحصل تلك الزيارة على ما تستحقّه من ضوء، ولا جرى بحث حيثياتها التي شكّلت منعطفاً بالغ الأهمية، والراجح، أنّ الترك نفسه لم يطلع حتى الدائرة الضيقة على نتائج تلك الزيارة جرياً على عادته، فقد سبق له أن قاد القطار مراراً من دون أن يخبر ركّابه عن الوجهة التي يسير إليها، وفقاً لتوصيف الأستاذ سيّد رصاص نفسه. إلّا أن الأحداث تُنبئ عنها ظلالها كما يُقال، فبعد تلك الزيارة عاد الترك بنغمة جديدة قوامها أنّ رياحاً غربية ستهبّ على دمشق، ينبغي ملاقاتها بلبوس وزراكش مختلفة. وعليه، فقد قال بوجوب الذهاب نحو الليبرالية، كبديل عن الماركسية، ثم ضرورة تغيير اسم الحزب ترسيخاً للوجوب الأول. وعلى الرغم من أنّ الترك كان قد لاقى معارضة ضعيفة نسبياً، إلا أنّ ذلك لم يشكّل سدّاً كافياً لوقف تقدّم «البلدورز» الذي مضى نحو رسم تخندقاته الجديدة، وصولاً إلى تأسيس «حزب الشعب الديمقراطي»، مع حلول عام 2005، الذي شهد أيضاً استمراراً للحزب بجناحه الأساسي المعروف بالمكتب السياسي، مع تسجيل نقطة مهمة هنا هي أنّ الترك ظلّ مهيمناً على هذا الجناح الأخير، بدليل استقالة أمينه العام الجديد عبدالله الهوشي، في عام 2007، احتجاجاً على تلك الهيمنة.
في أتون اللبوس الجديد، بدت نزعة «التطييف والتمدين» المُرتسمة كردّة فعل على نزعة السلطة القائمة على «التطييف والترييف»، طاغية لدى الترك الذي لم تغب بصماته عن الحزب القديم، والمؤكد هو أنّها لم تتلاشَ حتى أيلول / سبتمبر من عام 2011. يروي المحامي كميل قيصر داغر، القيادي في الحزب الشيوعي اللبناني، أنه فشل عبر محاولات عدّة في جمع الترك مع فاتح جاموس القيادي في حزب العمل الشيوعي «ولو على فنجان قهوة»، والأهم في تلك الرواية، هو أنّ الرفض لم يكن بناءً على انعدام التلاقيات عند قواطع إيديولوجية أو سياسية، بل لأنه «علوي ولا يمكن الوثوق به، فهو إما أنه عميل للنظام ناشط، أو هو عميل في حالة كمون». والمؤكد أن الترك رفض في تلك المرحلة، لقاء أي معارض ينحدر من الطائفة العلوية، باستثناء نزار نيّوف بناءً على طلب ملحّ من المحامي محمد علي الأتاسي، المقرّب من الترك، والذي كان يعتمد عليه في تنقلاته وتحركاته، وما كان له أن يستطيع ردّ طلب له.
يسجّل للحزب، الذي نقصد به هنا دائماً جناح المكتب السياسي، نقطة افتراق مع زعيمه السابق في أيلول / سبتمبر 2011، بعد محادثات الدوحة التي هدفت إلى إنشاء جسم سياسي معارض، وأفشلها الترك من حيث النتيجة، وإن كان وراء الأكمة ما وراءها ممّا يمكن قول الكثير فيه هنا، باعتراضه على اسمين اثنين هما عبد العزيز الخير وأحمد فايز الفواز. مرة أخرى، برزت نزعة «التطييف» في حالة الأول و«الترييف» في حالة الثاني. السؤال الآن هو: ماذا تختلف السياقات السابقة عن نظيرة لها شهدها عام 1986، عندما نشأ الصراع بين شيوعيي اليمن الجنوبي آنذاك، حتى إذا احتدم هذا الأخير عاد كلّ من أطرافه إلى عشيرته ليعتد بالمقرّبين منها؟

* كاتب سوري