في الآونة الأخيرة، ومن ضمن سياسة انتهجتها شركة «ليبان بوست» بموافقة وزارة الاتصالات تقوم على تمجيد السلطة وأصحاب الثروات، تمّ إصدار طوابع بريدية تكريمية لأشخاص أقلّ ما يُقال فيهم إن الإجماع حولهم غير متحقّق، لا بل إنّ مسيرتهم هي موضع تشكيك متزايد. فالطابع البريدي هو تعبير عن تقدير المجتمع للدور الرائد الذي تقوم به بعض الشخصيات، وذلك تكريماً لما تكون قد قدمته في الحقول السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية، وهذا ما يفسر لماذا لا تصدر الطوابع التكريمية غالباً، إلا بعد وفاة الشخصية المعنية كون الحكم على مجمل إنجازاتها يكون قد أصبح ممكناً وغير قابل للتعديل في المبدأ؟وإذا كان إصدار طوابع لشخصيات ثقافية أو فنية ما زالت على قيد الحياة، أمراً مقبولاً لا بل قد يكون إيجابياً عندما تكون الشخصية المكرّمة محط تقدير لا يختلف عليه أحد كالطابع البريدي الذي صدر عام 2011 تكريماً للسيدة فيروز، فإنّ الأمر يصبح موضع استغراب لا بل استهجان عندما يتم تخصيص طابع بريدي لشخصيات تعمل في الشأن العام وتحتل موقعاً فعلياً في السلطة.

فإذا ما استثنينا رئيس الجمهورية الذي دأب البريد منذ عهد إميل إده على إصدار طوابع له خلال ولايته بوصفه رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن، نلاحظ أنّ جميع الطوابع اللبنانية منذ المجموعة الأولى التي صدرت عام 1925 لم تحمل صورة أي مسؤول سياسي على قيد الحياة وفي منصبه الرسمي، إلا الطابع البريدي العادي المخصّص لذكرى مرور 25 عاماً على تبوّؤ رياض سلامة منصب حاكم مصرف لبنان، والذي صدر بموجب قرار وزارة الاتصالات رقم 71/1 بتاريخ 20 شباط 2018.
أتى إصدار هذا الطابع من ضمن سياق يتّضح اليوم مدى عدم صوابيته. ففي عام 2017، أصدرت شركة «ليبان بوست» بموافقة وزارة الاتصالات، طابعاً بريدياً لرجل الأعمال اللبناني الأصل كارلوس غصن، والذي يعتبر اليوم فارّاً من العدالة وتتمّ ملاحقته بتهم متعلقة بالفساد. وبغضّ النظر عن صوابية هذه التهم، وحتى من دون معرفة تفاصيلها، مجرّد إمكانية إدانة كارلوس غصن تثبت أن إصدار طابع لشخصيات مالية وسياسية دونه محاذير كبرى، إذ لا يعقل تكريم شخص باسم الدولة كي يتّضح لاحقاً أنه لم يكن إطلاقاً يستحق هذا التكريم، لا بل إنّ الطابع سيتحوّل إلى إهانة موجّهة إلى مواطني هذه الدولة، في حال تمّ التثبّت قضائياً من هذه التهم.
جراء ما تقدم، وبما أنّ حاكم مصرف لبنان الحالي هو شخصية عامة يوجد انقسام حادّ حول دوره ومسؤوليته (مع غيره طبعاً) عن الانهيار المالي الذي يعيشه لبنان، كان لا بد من التراجع عن خطأ إصدار طوابع بريدية له جرى تسويقها تحت عنوان «حاكمية الاستقرار» وسحبها من التداول. ولا بدّ هنا من التأكيد أن هذه المطالبة هي مبدئية بجوهرها، إذ لا يعقل أن تقوم الدولة بتكريم شخصيات سياسية على رأس عملها، وتمارس نفوذها وسلطتها، كون العمل السياسي بطبيعته محكوماً باعتبارات تؤدّي إلى النيل من مصداقية من يتولّاه، حتى لو كان ذلك على سبيل الافتراء أو التضليل. لذلك، لا تصدر مثل هذه الطوابع البريدية إلّا بعد أن يكون التاريخ قد أصدر حكمه وباتت الشخصية المكرّمة في موقع محصّن إلى حد ما، أو على الأقل بعيدة عن إغراءات السلطة ومصالحها.
يصبح الأمر موضع استهجان عندما يتم تخصيص طابع بريدي لشخصيات تعمل في الشأن العام وتحتل موقعاً فعلياً في السلطة


ولا شك في أنّ الطوابع البريدية في مجملها، تعكس الشرعية السياسية لدولة ما. فحصول انقلابات وثورات مثلاً، يؤدي إلى تبديل في الشرعية ما ينعكس على الطوابع البريدية التي تجسّد أفكار السلطة السياسية الجديدة. وقد عرف لبنان شيئاً مشابهاً بعد الاستقلال، فقد أصدر الرئيس بشارة الخوري في 21 أيار 1947 المرسوم رقم 9057، والذي نصّت مادته الأولى على التالي: «اعتباراً من أول كانون الثاني 1948 تصبح عديمة النفع وغير صالحة للتخليص جميع فئات الطوابع البريدية، التي أصدرت قبل 22 تشرين الثاني 1943، والتي لم تزل صالحة للتخليص». في حين أجازت المادة الثانية استبدال هذه الطوابع لمن يقتنيها بطوابع جديدة صالحة، خلال مهلة تمتد حتى نهاية 1947. والظاهر أنّ السبب وراء هذا المرسوم كان سياسياً، إذ علينا أن نتذكر أنّ طوابع الرئيس إميل إده الخصم اللدود للرئيس بشارة الخوري، كانت ما زالت في التداول ما دفع هذا الأخير إلى إلغائها بهذه الطريقة.
وتكرّر هذا الأمر مرة ثانية، فبعد صدور المرسوم الاشتراعي 126 عام 1959 حول «تنظيم الأصول الإدارية والمالية في المديرية العامة للبريد والبرق»، انتقلت صلاحيات إصدار الطوابع إلى وزارة البريد والبرق والهاتف (وزارة الاتصالات اليوم). فقد أصدر وزير البريد في 30 آذار 1961 القرار رقم 58، الذي نصّت مادته الأولى على إيقاف الطوابع البريدية التي تحمل رسم الرئيس فؤاد شهاب باللباس العسكري، اعتباراً من أول نيسان 1961، على أن يتم تبديلها خلال مهلة عشرة أيام.
يتبيّن لنا بشكل جلي أن وزير الاتصالات اليوم، وبغضّ النظر عن الاتفاق الموقّع مع شركة «ليبان بوست»، يمكن له أن يصدر قراراً بسحب الطابع المخصّص لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، لأنّ هذا التكريم كان على أقل تقدير قبل أوانه، ولا بدّ من مطالبة الوزارة برفض أي اقتراح لإصدار طوابع لشخصيات سياسية في السلطة، مستقبلاً، كما نطالبها بإعادة إحياء اللجنة الاستشارية للطوابع التي استحدثها المرسوم رقم 9354 تاريخ 28 نيسان 1962، والتي يدخل من ضمن مهامها اختيار مواضيع الطوابع بعد التشاور مع ممثلين عن جمعيات الهواة، كي يكون التكريم لشخصيات مستحقّة تميّزت بما تركته لنا من إنتاج فكري وإبداع فني، وليس تمجيداً للسلطة والمال.

* أستاذ جامعي