قبل سنوات، قدّمت بعض المحاضرات عن المعنى، وكان باعث هذه المحاضرات أنّ المعنى أسّ الحرب والسلم والكره والحب والعشق والبغض، وهو بداية الخلاف ومحلّ المناورة بين السياسيين، وبهِ يتم الوصل أو الفصل. كانت تلك المحاضرات صعبة، إذ تفرض عليّ أن أجوب في النظريات، قديمها وحديثها، التي تناولت المعنى، واستيعاب ما كُتب عن المعنى. لكنّ هذه المحاضرات هي وليدة تفاعل وتلاحم مع ما يطرح في السوق حول اللغة على مدى عقدين من الزمن أو يزيد قليلاً، وأنا هنا لست بحاجة إلى مناقشات ما كُتب إلّا في ما يعرض أثناء مناقشتي لبعض الأفكار. طبيعيٌ أن تفرض قضية اللفظ والمعنى، أو الشكل والمضمون، مسارها على مدخل تلك المناقشات التي ترود دراسة المعنى. وسنتوقف أمام ثنائية اللفظ والمعنى، أهي وجود وهمي أم حقيقي، السؤال الذي يستدعي: هل هناك وجود للمعنى خارج اللفظ؟ أم أنّ هناك وجوداً للفظ بلا معنى؟ والسؤال الثاني، هل رفع أحد طرفي القضية يغيّر مكوّن الماهية أم لا؟ لقد ذكر بعض العلماء أو فلاسفة اللغة، أنّ الوجود هو اللغة، بمعنى أنّ اللغة هي فاعلية الحركة التي تحدّث عنها الفلاسفة، فهل تكون اللغة هي الوجود، وهي الزمن؟
المنطق والمنطق المعيّن
قبل الخوض في قضية اللفظ والمعنى، فإنّ المنطق العام يقوم على تصوّرات ومصاديق، والتصوّرات ذهنية والمصاديق واضحة للعيان. وقد يكون للحقيقة أكثر من مصداق، والسؤال الذي يفجأنا هنا: هل منطق العلم يشبه منطق اللغة؟ فإذا قُلنا إن منطق العلم على إطلاقه يقوم على ثنائية التصوّر والمصداق، فكيف يكون منطق اللغة؟ وإذا شئنا مناقشة منطق اللغة ـــــ وقد وصفته بالمنطق المعين ـــــ فهل يقبل منطق اللغة الحقيقة وما صدق عليها على نحو دقيق، أم أنّ منطق اللغة يلعب في مساحة الممكن من المعنى بين مرسل ورسالة ومُتَلقٍ؟ فهل سيجد اللغوي مندوحة عن الالتزام بحقائق المنطق الصوري؟
إنه صراع بين قياس منطقي ومساحة مجازية مضطربة، غير أنّ العالم النحوي الدكتور تمام حسان يبيّن أنّ ثوابت النحو ثلاثة: الاطراد والخفّة وأمن اللبس. وهذا يتصل ــــ كما قلت سابقاً ـــــ بالنظام اللغوي لا باللغة، لأنّ أمن اللبس آلية من آليات إنتاج المعنى متّصلة بنظام لغوي متراكم؛ فوجوب تقديم الفاعل في الاسمين المقصورين، في مثل ضرب موسى عيسى، لانتفاء قرينة الإعراب المسهمة في إنتاج المعنى، هي متصلة بالنظام اللغوي. وأمّا الخفة المتصلة بمرونة الصوت، في حذف أحد الساكنين أو تحريكه أو إدغام المتماثلين، والأول في «نحو» (وفي ذلك فليتنافسِ المتنافسون)، حيث حال تحريك سين الفعل بالكسر دون التقاء ساكن جزم الفعل المضارع بعد لام الأمر مع الألف الساكنة، وكان غرض الحيلولة هو الخفّة ومرونة الصوت. وأمّا الإيراد، فهو اطراد أحكام الظواهر الإعرابية والصرفية، ممّا أسهم في تكريس النظام اللغوي، لكنّ هذا النظام اللغوي مقدار صلته بالمنطق الصوري، هو مقدار الاطراد والقياس من دون تفسير سببي، لنشوء تلك الظواهر النحوية والقياسية، إلّا الاستعمال المطّرد الذي ألفه الناس، وصار يمثّل دلالات لغوية معيّنة. هذا على مستوى النظام اللغوي، لكنّنا سنعود إلى مستوى اللغة، الذي فرّقتُ بينه وبين مستوى النظام اللغوي.
أما المفردات فهي بمثابة كبسولات محشوّة بطاقات لغوية متغايرة وفق استخدامات متعدّدة قابلة للمزيد من الإيحاءات


ولقد حاول العلماء أن يقدّموا تعريفات حادّة للغة، ولست أسلك هذا المذهب بمقدار ما أرود اللغة إجرائياً وفق ما نفهمها، ولا بأس من أن ننظر إليها في مكان ما، على أنها أصوات تواضع الناس عليها تؤدي إلى معنى ما. غير أنّ المواضعة مفهومٌ ملتبس بين دلالة تكونية ودلالة تكوينية، فعلى سبيل التمثيل، لو أخذنا كلمة«هاتف»، فإنها تعبّر عن صوت نسمعه ولا نراه، وهي دلالة تكونية أفرزتها ظروف معيّنة من دون اتفاق، فأدّت معنى معيّناً تعارف الناس عليه. إلّا أنّ دلالة الهاتف الذي نقصد به جهاز الاتصال، فهي دلالة تكوينية أقرّتها هيئة علمية في المجمع اللغوي. ولا يشذّ عن المثل السابق ما تقرّه الدول أو الأحزاب من مفردات سياسية وأيديولوجية.
لكن الدلالة لا تُحصر في لفظ ما، فهل يكون الوجود للفظ خارج المعنى أو المعنى خارج اللفظ؟ أم أنّ هنالك ظلالاً للمعنى ـــــ كما يسمّيه الدكتور تمام حسان ـــــ وهذه الظلال هي إيحاء النحو أو التركيب أو التضام، سمّه ما شئت. وإذا شئنا الدقة، فإن مفردة اللفظ تتجاوز الكلمة المفردة، إلى التركيب، ولكن هل سيكون وجود المزية أو الفائدة خارج اللفظ؟ أم أنّ المعنى واللفظ مندك كل واحد منهما في الآخر؟ أو كما يعبّر عنهما فيردنيان سوسير وجهان لعملة واحدة؟ والحق إذا رفعت أحد وجهَي العملة، اختلّ تركيب الماهية، وآلت إلى حقيقة أخرى.
ومن المفيد أن نؤسّس على هذا التصوّر أساساً مهمّاً، وهو أنّ اللغة هي اللغة التي تنتج وليست المتصوّرة، وذلك جعلنا في مقالات سابقة نتحمس أكثر إلى لفظ التنقيح، لأنّ مؤدّى التنقيح هو تقديم وتأخير وحذف وإثبات. أما دلالة الغياب والحضور، فهي منوطة بالنص الذي يتلقّاه المتلقّي، ولعلّ سائلاً يسأل عن المخزون الذهني الجماعي، الذي تحدّث عنه سوسير، وربما يمكنني الإجابة عنه بجهود تشومسكي في التوليد والتحويل، حيث فرّق بين الكفاءة والأداء، وهو ما يخصّ بنية النظام اللغوي الأساسية، وهي قواعد عامّة في اللغة، تراكمت بحكم التقادم والاهتداء، إلى قوانين يفرزها المزيد من الوقائع اللغوية، في لغة طال أمد بقائها.
وأما المفردات، فهي بمثابة كبسولات محشوّة بطاقات لغوية متغايرة، وفق استخدامات متعدّدة قابلة للمزيد من الإيحاءات. ولعل هذا الوضوح في هذه السمة اللغوية، يجعلنا نزعم أنّ مقولة «الأصل في اللغة الحقيقة» هي مقولة قابلة للنقض، ولقد أشبعتُ هذه القضية، غير مرة، في مقالات متعدّدة، بحثاً وتأمّلاً، على أمل أن أعود إليها مرة أخرى.
واذا أردنا العودة إلى المعنى من جديد، فإنّ المعنى باعتباره الرسالة لا باعتباره ما استقر في الأذهان، وهو أحد ركني ثنائية اللفظ والمعنى وإنما المعنى هو النص، والنص إذا عُزل عن الزمن صار أشبه برسالة تحرّكها الرياح من دون ثبات، والزمن هو الفاعلية التي يدور بواسطتها النص من مكوّنات صانعة لتاريخ ما. وإذا شئنا التأمّل في النص أو تاريخ النصوص، فكثيراً ما عبثت بها الأيدي وفق سلطة ما، أو إذا غاب مراد النص أو غيّب وحلّت اقتناع المتلقي مكان صاحب النص، أي إنّ القارئ يستطيع العبث بالنص على نحو يشبه الإغارة عليه وسلبه مضامينه وإحلال ثقافة أخرى فيه، حتى يستحيل ذلك النص استحالة تؤدي به إلى معنى آخر، وهذا النص أُسمّيه النص المستحيل، لأنّ النص المعيّن يخضع لقراءات متراكمة تحيله إلى معنى آخر.... إنه نص يعبّر عن بيئات لا بيئة واحدة.
ويمكننا أن نصف النصوص المكتوبة في عالم أدب الرواية أو الشعر وتقادم عليها الزمن، بأنّها نصوص ميّتة بمعنى أنها كأرض خصبة بارت، يحييها من آمن بصلاحيتها من جديد، حتى في حياة المؤلّف، لأن المؤلّف الذي أماته رولان بارت، قد فقد ملكية نصه يوم أن رهنه بأيدي الجماهير.
إنّ صناعة المعنى الذي تخلقه لغة يبدعها فنّان يتجاوز بشطحاته ما ألفت الجماعة من مضامين لغوية، هي مساحة واسعة مبذورة بمجازات خلّاقة تموت فتشكّل واحات من التراث اللغوي، الذي سرعان ما يتحوّل إلى معاجم نستعير منها بعلاقة جدلية بين القديم والحديث، ما يعيد إفراز لغة جديدة.

* كاتب وناقد بحريني