تسريبٌ لتقريرٍ من أكبر جهاز أمني في الدولة الصينية (أمن الدولة)، قيل إن رئيس الجمهورية الشعبية (شي جين بينغ) قد اطّلع عليه شخصياً، يفيدُ بأن «المواجهة» قد باتت «حتمية» مع واشنطن نتيجة لسياساتها العدائية. هذا لا يحدث في الصين عادةً! وسواء أكان قد تم التسريب بالفعل، أم كان بمثابة رسالة غير رسمية موجهة إلى الولايات المتحدة والعالم ككل، يبقى السؤال الأهم: ما الذي قد يعنيه هذا التسريب وما هي هذه «المواجهة الحتمية»؟
الفرضية الأولى: مجرّد تصعيد في الحرب الكلامية
منذ أن تحوّلت الولايات المتحدة إلى بؤرة وباء فيروس «كورونا»، لم يتوانَ الرئيس دونالد ترامب، هو ووزير خارجيته مايك بومبيو، عن توجيه الاتهام إلى الصين وإلى منظمة الصحة العالمية بالوقوف وراء تحويل الولايات المتحدة إلى بؤرة وباء الفيروس. ومع أنّ حرب الرئيس ترامب ضد منظمة الصحة العالمية قد تعدّت القول إلى الفعل (تجميد التمويل الأميركي للمنظمة) إلّا أنّها، مع الصين، بقيت حرباً كلامية حتى اليوم. في الصين يكون «الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية» هو المسؤول عادةً عن الرد على ما يُقال في هذه الحرب الكلامية، ومن الواجب ألا يصدر أي تصريح إلا من خلاله، لكنّه يبقى من غير اللائق، من حيث البروتوكول المعمول به في الصين، أن يصعّد الناطق باسم وزارة الخارجية إلى حدّ «التهديد بالمواجهة»، فمثل هذا النوع من التصريحات يتم عادة من قبل وزير الدفاع، إلّا أنه وفي الوقت نفسه يُعتبر هذا التصريح من قبل وزير الدفاع بمثابة إعلان للحرب، ولذلك قد تختار الصين أن يأخذ هذا التصريح بالتصعيد هيئة تسريبٍ غير مقصود.

الفرضية الثانية: إضعاف موقف ترامب في الحرب الانتخابية
من بعد فشل ترامب في اتّباع سياسة ناجعة للحد من انتشار فيروس «كورونا» المستجد، وصولاً إلى الحرب النفطية التي أُشعلت بين السعودية وروسيا، والتي أدّت إلى خسائر فادحة لحقت بكبار منتجي النفط في الولايات المتحدة، ومن بعد التهديد الروسي بالرد النووي على أي عدوان أميركي صاروخي، وبعد طرد مدمّرة أميركية من المياه الصينية الإقليمية، يبدو الرئيس ترامب في موقف غير مناسب لدخول الانتخابات الرئاسية المقبلة. قد يكون هدف هذا التسريب هو المساهمة في زيادة التراجع الذي لحق بشعبيته في السنوات الأخيرة، فهذا التراجع لم يكن بسبب سوء سياساته المتبعة فقط، بل بسبب «القلق المتزايد» عند الشعب الأميركي من «الآفاق المستقبلية للولايات المتحدة» في ظل سياسات ترامب، هذا بحسب استطلاع للرأي أجرته صحيفة «ذي واشنطن بوست» وشبكة «إيه بي سي» في العام الماضي. وقد يكون الهدف من إعلان الصين عن «مواجهة حتمية» مع الولايات المتحدة، كمساهمة في زيادة القلق عند الشعب الأميركي ممّا ستواجهه بلادهم في المستقبل، لو بقي ترامب في منصبه الرئاسي.

الفرضية الثالثة: المواجهة الحتمية والفعلية
باستثناء «الكتاب الأبيض»، الذي صدر عن مجلس الدولة الصيني عام 2019، كانت جميع «الأوراق البيضاء» السابقة، التي تفصح فيها الصين عن آرائها حول القضايا العالمية، مُطَمئِنَةً لجميع دول العالم. أما في «الكتاب الأبيض» الأخير (كُتيّب من 51 صفحة)، فقد صعّدت الصين لهجتها تجاه الولايات المتحدة «التي تحوّلت استراتيجيتها من التركيز على مكافحة الإرهاب في العالم إلى المنافسة والصراع مع بكين وموسكو»، ما دفع الصين إلى «تحديث وتوسيع القوات العسكرية الصينية بالكامل»، أي أنّ حتمية المواجهة مع الولايات المتحدة كانت أمراً متوقعاً منذ العام الماضي، وليس هذا التسريب إلا تأكيداً لما ورد في الكتاب الأبيض.
منذ أن تحوّلت الولايات المتحدة إلى بؤرة وباء «كورونا» لم يتوانَ ترامب وبومبيو عن توجيه الاتهام إلى الصين وإلى منظمة الصحة العالمية


تستشرف الدراسات العسكرية الصينية أربعة أنواع من النزاعات التي تهدّد مستقبل الصين: «1 ـــــ حرب دفاعية، على نطاق واسع وكبير وكثافة عالية، ضد دولة مهيمنة تسعى لتثبيط أو إعاقة صعود الصين. 2 ـــــ حرب ضد الانفصال، ذات نطاق كبير نسبياً وكثافة مرتفعة نسبياً، ضد قوات الاستقلال في تايوان. 3 ـــــ حرب دفاعية، ذات نطاق متوسط إلى صغير وكثافة متوسطة إلى منخفضة، ضد العمليات، خلال النزاعات الإقليمية، في حال انتشار حالة اللااستقرار في الدول المجاورة عبر الحدود الصينية. 4 ـــــ عمليات ذات نطاق ضيّق وكثافة منخفضة، لمواجهة الهجمات الإرهابية والمحافظة على الاستقرار و حماية النظام» (1). إنّ الحروب الأربعة السابقة، التي تهدّد مستقبل الصين، دفاعية بالمطلق. الصين تتبنّى مفهوم «الردع الاستراتيجي المتكامل» (2)، الذي يدعو إلى وضع «مجموعة شاملة ومتناسقة من قدرات الردع الاستراتيجية، وعلى وجه الخصوص القدرات العسكرية المتعددة الأنواع ـــــ بما فيها القدرات النووية والقدرات التقليدية والقدرات الفضائية وقوات الفضاء الإلكتروني ـــــ التي تشكل مكوّنات مهمة للردع الاستراتيجي الجدير بالثقة» (1). من الواضح إذاً، بالنسبة إلى الصين، أنّ الحرب التنافسية مع الولايات المتحدة ستتعدى المجال الاقتصادي لتصل إلى حدّ إعاقة صعود الصين بشكل عسكري مباشر، أو قد تتحوّل الاستفزازات الأميركية المتكررة في قضية النزاع حول مضيق تايوان (فورموسى) إلى تدخل مباشر من قبل الولايات المتحدة تتبعه أعمال عدائية، أو قد تُستهدف الصين عن طريق إحلال الفوضى في المناطق المجاورة ذات التركيبة السكانية المعقّدة، مثل دولة باكستان التي تعتبر شريكاً مهماً في مبادرة «الحزام والطريق»، نظراً إلى أهمية ميناء «غوادر» الاستراتيجي، أو قد تتم المواجهة عن طريق التعرّض لهجمات إرهابية من قبل مجموعات متطرفة في بلدان الجوار كاستخدام (أو تشكيل) بعض الجماعات المتطرّفة في أفغانستان.
يستبعد الخبراء العسكريون في الصين، احتمال المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة، على اعتبار أنّ أسلحة الدمار الشامل لدى الطرفين تشكل رادعاً حاسماً لأي منهما، فإذا ما تعرّضت العاصمة بكين أو أي مدينة حيوية في الصين لهجمات صاروخية فهذا سيؤدي إلى الرد بالصواريخ النووية مباشرة (1)، قبل أن تصل صواريخ المعتدي إلى أهدافها. لذلك، تهتم غالبية الدراسات العسكرية بالاحتمالين الثاني والثالث (التدخّل عبر تايوان أو الإخلال باستقرار البيئة الأمنية الخارجية)، والرد على هذا النوع من التدخّلات سيكون بالقدرات العسكرية التقليدية التي تمتلكها الصين والقدرات المعلوماتية.
في النهاية: أخيراً، أطلَّ الرئيس ترامب (اليوم الواقع في 12 / 5 / 2020) في مؤتمر صحافي، ليصرّح بأنّ الصين تحاول إعادة فتح النقاش حول الاتفاقية التجارية بينها وبين الولايات المتحدة. وفي الأيام التالية، ردّت الصين على التهديدات الترامبية بفرض عقوبات صينية «انتقامية». قد يكون هذا التسريب مجرّد تصعيد في الحرب الكلامية، التي قد تصل إلى حدّ المواجهة، أو قد يكون له سبب آخر. القادم من الأيام سيحدّد لنا ما حقيقة هذه «المواجهة الحتمية».

مراجع:
(1) مايكل إس تشايس، آرثر تشان / نهج الصين المتطور إزاء «الردع الاستراتيجي المتكامل» / نشر من قبل مؤسسة RAND في سانتا مونيكا، كاليفورنيا عام 2016.
(2) للتأكيد: لا يحتوي القاموس الرسمي للمصطلحات العسكرية لجيش التحرير الشعبي الصيني على أية معلومات حول «الردع الاستراتيجي المتكامل»، ولكنه يشمل مفاهيم الردع العسكري القتالي والاستخباري والمعلوماتي، والردع الاستراتيجي مع تقسيم الأخير إلى أنواع هجومية ودفاعية وتقليدية ونووية وشاملة، أما كلمة ردع باللغة الصينية Wēishè) 威慑)، فتعني «ردع» و«إرغام» في آن معاً، وبالمعنى العسكري: «إجبار الخصم على الجلوس حول طاولة الحوار».

*جامعي سوري مقيم في ووهان