في 25 أيار من عام 2000، أشرقت الشمس من الجنوب، وبدأ تقويم جديد بتوقيع المقاومة التي قدّمت نموذجاً لحرب التحرير الشعبية، وهي القوة الذاتية التي تهابها إسرائيل، ونقطة ضعفها. حطمت المقاومة مقولة «الجيش الذي لا يُقهر»، ما أدّى إلى انقلاب في المعادلات الأمنية والاستراتيجية، وفق مدرسة تحرير جديدة مختلفة عن النمط الغربي والشرقي. وهي اليوم تفتّش عن أجوبة لأسئلة جديدة، منها: ما هو مستقبل المقاومة؟ رغم الإنجازات، مازال فريقٌ من اللبنانيين يحاول وضع المقاومة أمام الخيارات التالية:
الأول: التخلّي عن قوّتها العسكرية لمصلحة حكم ـــ هو عملياً ضعيفٌ وفاسدُ ومفكّك.
الثاني: تماهي المقاومة مع الحكم لتدجينها في كنف الدولة، وإغراق قواها بالفوضى والفتن والعقوبات.
الثالث: لم تتمكّن القوى الداعمة للمقاومة من خلال إدارتها للحكومة، من تقديم نموذج صالح للحكم، يضمن مستقبل الدولة والمقاومة معاً.

عقدة الثأر الإسرائيلية؟
رغم مرور عشرين عاماً على حرب تحرير الجنوب، ما زالت مراكز الأبحاث والصحف الإسرائيلية تتداول دراسات وتقارير عن حرب كبرى قادمة على لبنان ثأراً لهزيمة إسرائيل. تشكّل هذه المعلومات أيضاً حرباً نفسيّة على السكان. إنّ إعلان إسرائيل الحرب المفتوحة على المقاومة والمجتمع في لبنان هو محاولة لضرب تضامن الدولة والمقاومة والشعب وهو نقطة الضعف في الجبروت الإسرائيلي. المسائل الأساسية التي أشعلت المواجهات في أيار لا تزال بلا حل. لذلك، انهمكت المقاومة وإسرائيل، منذ أن صمتت الجبهات في استخلاص العبر ودروس الفشل والنجاح، لاعتقادهما بأنّ الدخول في جولة أخرى من القتال هو أمر لا مفرّ منه.
بالنسبة إلى إسرائيل، أيقظتها الحرب على حقيقة واضحة هي أنّ فصلاً جديداً من الصراع العربي ـــ الإسرائيلي قد بدأ. تقارير لجنة القاضي إلياهو فينوغراد انتقدت بشدة أداء القيادتين العسكرية والسياسية خلال الحرب. وعلى إثرها أجرت إسرائيل تدريبات واستعدادات لتجاوز الأخطاء. وأكّد إيهود باراك أنه «لا تزال حرب لبنان الثانية جاثمة على الوعي الجماعي الإسرائيلي كهزة تفتح الأعين». ورغم محاولات الترميم، ما زالت إسرائيل تعاني من ثغرات بنيوية عسكرية وسياسية ومجتمعية.
هل سيولّد هذا الوضع مخرجاً لمأزق المقاومة في لحظة أصبح فيها لبنان أسير سقوط «الطائف» داخلياً و«سايكس بيكو» مشرقياً؟


بالنسبة إلى حزب الله، فقد نجح بإعادة تسليح نفسه، وعمل على تجنيد وتدريب جيل جديد من المقاتلين. وتشير تقارير إلى أنّه شكّل وحدات مضادّة للطائرات ويمتلك أسلحة متطوّرة. يعتقد بعض المؤرّخين والمفكّرين المختصّين بتاريخ اليهود ونفسيتهم أنّ الإسرائيليين لن يغفروا للبنان حربَي أيار وتموز. إسرائيل لن تسامح، وهي تترقّب حتى تتمكّن من معاقبة لبنان، لإزالة فعلته المدمّرة من الذاكرة الإسرائيلية، قبل أن تتّخذ الشعوب العربية لبنان المقاومة مثالاً لها، وقبل أن يتمكّن اللبنانيون من تعزيز قدراتهم. عقدة الثأر قد تسرّع وقوع حرب الانتقام. لكنّ تداعيات العدوان قد تلهب المنطقة كلّها، وقد تتطوّر إلى حرب إقليمية، تهدّد بتدمير غير مسبوق، لأنّها تُقاد بعقيدة الأرض المحروقة، وحتى المجتمعات المحروقة. مخاطر الحرب والظروف الدولية والإقليمية، تشكّل حالة ردع للمغامرة الإسرائيلية.

صمتُ الجبهات أم تحضيرٌ لحربٍ ثالثة
إلى جانب طبول التحضير لحرب الثأر وحساباتها، أدت نتائج حربَي أيار وتموز إلى نشر قوات اليونيفيل المعزّزة، وصمت الجبهة العسكرية منذ توقّف العمليات الحربية في آب 2006، ما كرّس خطوطاً حمراً وتوازنات رعب وردع على طرفي الحدود. التاريخ لا يعيد نفسه، لكنّ أحداثه تتشابه، فالحروب التقليدية التي خاضتها قوى عربية نظامية ضد إسرائيل والتي اختتمتها في حرب تشرين عام 1973 أدّت إلى حالة من اللاحرب واللاسلم مع دول الطوق، سرعان ما أعقبها انقسام عربي أدّى إلى معاهدات سلام منفردة مع مصر ثم الأردن، وجبهة حذرة وممانعة في الجولان. حروب تشرين وأيار وتموز، أسفرت واقعياً عن جبهات صامتة، سلماً أو ممانعة؛ وإلى أمرٍ واقعٍ مشابهٍ، من حيث النتائج، بسبب توازن الخوف من التدمير المتبادل؟ وهكذا، تفرض التوازنات وموازين القوى حالة الـ«ستاتيكو» الهشّة والمستمرّة. فهل حرب أيار وأختها حرب تموز قد أغلقتا باب الحروب العربية الإسرائيلية، لتصبح الجبهة اللبنانية كشقيقتها السورية؟ أم فتحت المقاومة الباب أمام حربٍ من نمط جديد؟

حروب تدمير ومقاومة وتحرير
حرب تشرين، هي آخر حرب كلاسيكية للجيوش النظامية العربية. وحرب أيار آخر حرب للمقاومة المعروفة، ما يضع الصراع مع العدو الإسرائيلي أمام الاحتمالات التالية:
1 ـــ حرب تدمير شاملة تشنّها إسرائيل على المنطقة الممتدة من غزة إلى إيران، مروراً بلبنان وسوريا والعراق، وما بينهم من قوى ممانعة رافضة لمشروع الهيمنة الأميركية الإسرائيلية.
2 ـــ حرب تحرير شعبية، تحشد لها حركات المقاومة وقوى التحرير كلّ الطاقات العسكرية والإمكانيات الشعبية المتاحة في حرب طويلة الأمد ضدّ إسرائيل وحماتها، ما يحوّل المنطقة المحيطة بإسرائيل إلى جبهة شرقية بالمعنى العسكري والشعبي، مهيّأة لخوض حرب وجود مصيرية لتحرير كامل التراب الفلسطيني. غير أنّ هذه الرؤية الاستراتيجية دونها عقبات بسبب الانقسامات الحادّة.
3 ـــ حرب التدمير دونها مخاطر، وحرب التحرير دونها صعوبات، أمّا حرب المقاومة، فقد استنفدت بعد أيار وتموز معطياتها الاستراتيجية التي كانت قائمة على أساس دولة تحمي ومقاومة تقاتل، وغالبية من القوى الشعبية تحتضن. هذه الاستراتيجية وصلت إلى طريق مسدود، من خلال تطويق المقاومة في الداخل بالخوف من الفتنة، بالإضافة إلى خطر الصدام بين الدولة والمقاومة.
لقد تغيّرت الحالة الاستراتيجية بعد حرب تموز، حيث توسّع التماهي بين الدولة والمقاومة، فأصبحت المقاومة جزءاً من الدولة. و هي الآن جزء من الحكومة، وعملياً دخلت في إطار العمل ضمن كنف الدولة.
في الخلاصة، المنطقة في حالة حرب باردة، بانتظار تغيّرات استراتيجية شاملة ترجّح احتمالات اللا حرب التدميرية الشاملة، ولا حرب تحرير لأنها مؤجّلة، ولا حرب مقاومة، ما يفسح المجال أمام استمرار الـ«ستاتيكو» السائد اليوم. وفي كلّ الحالات، تبقى المقاومة قوة ردع لجبروت إسرائيل وعدوانيّتها، وهي قوة استقرار سلبي في المنطقة. ما العمل حتى تتحوّل المقاومة إلى قوة تحرير إيجابية؟ سؤال بحاجة إلى الكثير من التعمّق، سنحاول الإجابة عنه من خلال بعض المعطيات التالية:

الجبهة المشرقية
نشأت وتطوّرت المقاومة في لبنان في ظلّ غياب الدولة. والآن، نشهد سقوط الدولة المركزية مع سقوط حدود «سايكس بيكو» وسقوط الوحدة الوطنية والسلم الأهلي، مع انتشار الحروب الأهلية على امتداد المشرق العربي. من أولى تداعيات الحرب على سوريا تطوّر جيشها من كلاسيكي إلى ميداني، يعتمد نهج مقاومة جيش وشعب، أهّلته لاتّخاذ قرار استراتيجي أفسح المجال أمام تأسيس خيار المقاومة في الجولان، وهذا الاتّجاه سوف تكون له تداعيات بنيوية ومصيرية على المقاومات والدول والمجتمعات في الإقليم.
تشهد المنطقة اهتزازاً في الجغرافيا، وأبلغ من عبّر عن هذا الخطر السفير البريطاني طوم فليتشر، الذي صرّح بأنّه يخشى انفجار الوضع وتبدّل الخريطة السياسية. و«لا شك في أنه ستأتي لحظة وتحلّ محل اتفاقية سايكس بيكو خريطة أخرى. عندها لن يكون هناك البريطانيون والفرنسيون، قد يكون هناك الإيرانيون والسعوديون أو الروس والأميركيون». يدلّ هذا التصريح وغيره على أنّ القوى التي صنعت «اتفاقية سايكس بيكو»، في بداية القرن الماضي، باشرت بتدميرها بنفسها. وذلك رغبة منها في إعادة تقطيع وتوصيل المنطقة بالطريقة التي تتناسب مع مصالحها الجديدة. ولقد بدأت أميركا بتهديم هذه الاتفاقية من العراق. في هذه اللحظة التاريخية التي تشبه في بعض الجوانب لحظة نهاية الحرب العالمية الأولى، علينا أن نعيد طرح أسئلة تأسيسية: هل ندافع عن الكيانات الموروثة من «سايكس بيكو»، أم نقف متفرّجين على أميركا وهي تشكّل المنطقة من جديد، أم نستغلّ فرصة تهديم أميركا لـ«سايكس بيكو» كي نعيد تشكيل المنطقة على أساس هويّتنا ومصالحنا واستراتجيتنا؟
إنّ المشرق العربي هو قلب العالم العربي وقبلة الشرق، فإذا نهض شكّل قاعدة بشرية غنية في الثروات والقدرات، تحوّله إلى محورٍ كفيلٍ بتغيير ميزان القوى في العالم. وهنا تكمن أهمية تنامي محور المقاومة، ولا سيما التقارب السوري ـــ العراقي. ولنتذكّر أنّ تحرير فلسطين من الفرنجة، قد بدأ من هذه المعادلة، فمن الموصل انطلق آل الزنكي واستولوا على حلب ثم دمشق، وبعدها أكمل صلاح الدين مسيرتهم، فوحّد بلاد الشام، وهذا الأمر كان كفيلاً بخنق ممالك الفرنجة وزوالها.
هل سيولّد هذا الوضع المستجد مخرجاً لمأزق المقاومة في لحظة أصبح فيها لبنان أسير سقوط «اتفاق الطائف» داخلياً وسقوط «اتفاق سايكس بيكو» مشرقياً؟ إنّ دعوات الجهاد، وتوحيد «نصرة الشام» مع «قاعدة العراق» ودعم جبهة الجولان، مواقف متناقضة لكنّها تؤكّد سقوط حدود «سايكس بيكو»، التي أصبحت جبهات متداخلة؛ وأنّ الصراع بات على ساحة واحدة ونتائجه تقرّر مصير المنطقة ككل.
سبق وأعلن السيد حسن نصر الله صراحة، أنّ المقاومة على استعداد لتحرير الجزء الشمالي من أراضي فلسطين المحتلّة في أي حرب مقبلة، طارحاً «معادلة الجليل» ردّاً مباشراً على وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك، حين تحدّث عن اجتياح لبنان مجدداً. كذلك، سبق وأعلن دعمه للمقاومة الشعبية في الجولان، ردّاً على محاولات تطويق المقاومة وعزلها في الجنوب. فإذا أصبح تحرير شمال فلسطين المحتلّة هدفاً ممكناً في أيّ مواجهة مقبلة، وإذا أصبح تحرير الجولان جبهة مفتوحة للمقاومة، فلا بدّ من إعادة رسم مشهد هذه المواجهات، من خلال تصوّرات استراتيجية، منها احتمال قيام «جبهة شرقية» مقاومة تساعد وتضمن نجاح العمليات التحريرية في الجليل والجولان، وما تبقّى من جنوب لبنان تحت الاحتلال.
صيغة «الجبهة الشرقية» عادت إلى العلن مع رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، الذي سبق أن طرح في أكثر من مناسبة، أنّ بلاده تواجه خطر انبعاث «الجبهة الشرقية» من جديد، وأنّ هذا الخطر سيتفاقم خصوصاً بعد استكمال سحب القوات الأميركية من العراق. لذلك، سبق أن دعا للاحتفاظ بغور الأردن لغرض مجابهة «الجبهة الشرقية»، التي تمتدّ من إيران إلى غور الأردن كما يقول. والآن، يعمل على ضمّ المستوطنات ومناطق من الضفة من أجل تعزيز جبهته. في ظلّ هذه التطوّرات، هل ستعود «الجبهة الشرقية» إلى الواجهة، وتدخل المنطقة مرحلة جديدة وهي الانتقال من المقاومة إلى حرب التحرير القومية؟ أسئلة جديدة للمقاومة تنتظر أجوبة غير تقليدية. ويبقى مستقبل المقاومة مفتوحاً على كلّ الاحتمالات، بما فيها فرصة استكمال تحرير الأرض والإنسان بجبهة المقاومة والتغيير.

* كاتب وناشر لبناني