استكمالاً لما نشرته «الأخبار»، عن مسألة التعيينات في بعض المؤسسات التابعة لـ«الجامعة الأميركية في بيروت»، هناك مجموعة ملاحظات تطرح نفسها:أوّلاً: لا أهمية للصفات «الأكاديمية» في اختيار الأشخاص لهذا النوع من المناصب. في جميع الحالات المشابهة، وعلى تفاوت نوعيّتها ومستواها، توظّف السيَر الذاتية المسمّاة «أكاديمية» لإضفاء صدقية، وشرعية ما، على مواقف أيديولوجية وأفعال سياسية.
ويمكن أن نعطي في هذا السياق، أمثلة لا حصر لها. نذكر منها على سبيل المثال «المستشرق» البريطاني ــــــ الأميركي ــــــ الصهيوني برنارد لويس، الذي انتهى مستشاراً للبنتاغون ومرشداً ملهِماً للأجهزة الإدارية والعسكرية والإعلامية، التي قادت حرب تدمير العراق. آلية اختراع الشرعية هذه، نشاهدها دورياً هذه الأيام، في زمن الـ«كورونا»، عبر توظيف الموقع المعنوي الذي يتمتّع به بعض الحائزين على جائزة «نوبل»، في حقل معيّن ضيّق، للاستعانة بهم في المواجهات الشرسة القائمة بين المختبرات، التي تتسابق وتتزاحم على جبهة الوباء.
ثانياً: في ما يخصّنا نحن في المشرق العربي والإقليم، لدينا بعض «المنتجات» التي تنبتها مؤسسات «أكاديمية» من مخلّفات حقبة الاستعمار الانتدابي، ثم تسلك المسار الوظيفي والتوظيفي المذكور. من هذه المؤسسات مثلاً، «المعهد الفرنسي للشرق الأدنى» في بيروت.
«الأهمية» التي تُضْفَى على بعض منتجات مؤسسة من هذا النوع، أو أخواتها، لا تنبع من شخصية هذا أو ذاك أو تلك، بل من المواقع التي سيسمّون فيها من قبل المشغّلين، أصحاب المرجعية والقرار. ولا تناقض أبداً في مواقف هؤلاء المُتبَدِّلة، أو بعبارة أدق «المُبَدَّلة»، لأنّ مفتاح فكّ ألغاز التبدُّلات الظاهرية هذه، هو مدى تطابقها مع توجّهات المُشغّلين المذكورين، أكانوا مرجعية واحدة أم تقاطع مرجعيات ومصالح.
لنأخذ مثلاً عملياً: إن التحوّلات المفاجئة في مواقف بعضهم، بعد عام 2007، وقد سُمّيت «استدارة»، هي في الحقيقة مواكَبة دقيقة، وترجمة عملية أمينة، لسياسة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي آنذاك، وكانت تهدف إلى محاولة استدراج الدولة السورية إلى خارج بيئتها وتحالفاتها الإقليمية والاستراتيجية الدولية. تلك الحقبة تميّزت بالتلويح بمكاسب برّاقة، ووعود واهية أثبت الأيّام أنّها محض سراب، مقابل تنازلات استراتيجية جوهرية «قد» تدرُّ على سوريا منافع مادية. حقبة سنسمّيها مجازاً بـ«الدردرية»، نسبة إلى أحد الوزراء الذي حمل هذه المشاريع، وقد انتهى موظفاً في منظمة دولية إقليمية تساهم في إدارة آليات التبعية.
لاحظنا في الحقبة المُشار إليها أعلاه، «استدارة ظرفية» للعديد ممن امتهنوا «معارضة» سوريا من باريس وعواصم أوروبية أخرى، وآخرين ممّن كانوا يدورون علناً أو بـ«تقيّة» في فلك «الإخوان المسلمين» السوريين. وعندما عجزت فرنسا ساركوزي عن تحقيق مآربها، واستدارت مع الولايات المتحدة للمشاركة في إطلاق الحرب على سوريا، «استدار» هؤلاء أنفسهم مجدّداً، بحسب كوريغرافيا ضَبطت الأجهزة المعنية إيقاعها ورقصاتها مجدداً.
لذلك، لا أهمية لما يكتبه أو يقوله أو يفعله هذا أو ذاك، تلك الفئة نفسها المجبولة في معجن الانتهازية والتبعيّة والخضوع، سوى أنهم مؤشر إلى توجهات الأسياد. بمعنى آخر، وبكل صراحة، لا حاجة إلى تضخيم دورهم. إنهم، وبكل صراحة أيضاً، خدم لدى أسيادهم، وهم تفصيل صغير في معركتنا الكبرى مع هؤلاء الأسياد الذين يخوضون الآن معارك مؤخّرة للحفاظ على فُتات هيمنتهم.
معركتنا تتجسّد في العملية التاريخية الهادفة إلى تفكيك آليات استلاب الشخصية الوطنية وترسيخ التبعية، وهي جزء من مواجهاتنا الشاملة على طريق التحرّر الوطني من الهيمنة الصهيو ــــــ أميركية بكامل أوجهها وأطرافها.
أما المواجهة على جبهات «الحرب الناعمة»، فجزء لا يتجزّأ من ديناميات حركة التحرّر الوطني.

* عالم اجتماع