يتردّد في أدبيّات حزب الله، لا سيّما في الآونة الأخيرة، أنّ تقديم النموذج أهمّ من تحقيق الإنجاز، وهو ما أكّده الأمين العام السيّد حسن نصر الله، في لقائه الأخير مع الإعلاميّة بثينة علّيق، في إطار شرحه السّياسات الحاكمة لخطوات الحزب في مقاومة الفساد. وهذا الأمر ينطلق من المنهجيّة التي يعتمدها الحزب في فكره السياسي، وهي ما أحاول مقاربته من خلال بيان منهجَين فلسفيّين هما المنهج البراغماتيّ والمنهج الأيديولوجي في ما يأتي:1- المنهج البراغماتي (pragmatism): الذي يمكن ترجمته بالمنهج النفعيّ، وهو منهج معاصر أطلقه ونحت مصطلحه «تشارلز ساندرس بيرس» (1839 ـــ 1914)، وهو يبتني على عدم الاعتراف بالمبادئ والقيَم حتى الأخلاقيّة منها، بل تُقاس الأشياء في هذه الفلسفة بمدى النفع الناتج منها، فالبراغماتي لا يقوم بفعل لا ينتج منفعة له، فمصلحته ومنفعته هي الأساس، حتى لو كان فعله على حساب المبادئ كالدينية والوطنية منها، فهو متحرّر من كلّ أيديولوجية أو موقف مسبق، ويتصرّف بما ينفعه وفق الظرف والحال. فالحقيقة عند البراغماتي، كما يعرّفها أحد أهم فلاسفة البراغماتية وليم جيمس (1824 ـــ 1910) هي «مطابقة الأشياء لمنفعتنا، لا مطابقة الفكر للأشياء». لذا فإنّ المقابل للبراغماتي هو الأيديولوجي.
2- المنهج الأيديولوجي (Ideology): إنّ كلمة الأيديولوجيا معرّبة من مقطعين هما (Idea) بمعنى فكرة، و(logic) بمعنى علم أو منطق، وعليه فمعنى الأيدولوجيا بالأصل «علم الأفكار». وهذا التعريف اللغوي الاشتقاقي العام تمّت مواكبته بتعريفات عديدة، كان للقبلية الفكريّة أثرٌ في نشوء هذه التعريفات التي منها ما ذكره المفكّر الإيطاليّ أنطونيو غرامشي (A.Gramsci) (1891 ـــ 1937) بأنّها «وحدة بين نظرة فكريّة شاملة للوجود وقواعد السلوك المرتبطة بها»، وقريب من هذا التعريف عُرّفت الأيديولوجيا بأنّها «النسق الكلّي للأفكار والمعتقدات والاتّجاهات العامّة الكامنة في أنماط سلوكيّة معيّنة». وعليه، فإنّ الأيديولوجي ينطلق في سلوكه من قبليّة سابقة، فلا يكون سلوكه صحيحاً إلّا من خلال الانسجام بين هذا السلوك وتلك القبليّة. وعلى أساس هذا التعريف العام للأيديولوجيا يمكن تقسيمها إلى نوعين:
2-1- الأيديولوجيا الجامدة، وأعني بها الأيديولوجيا التي تتميّز بثبات القبليّة، وعدم قابليّتها لأيّ تغيير، ولو كان على أساس تأويلي يحافظ على ظاهرها، ويتصرّف في مضمونها ومحتواها، وعليه تكون تلك القبليّة هي الحاكمة المطلقة في السلوك الفردي أو الاجتماعي، فإمّا أن يتحقّق ما يوافقها، وإمّا يُلقى «الحُرُم» على السلوك من دون أيّة مواربة. وبناءً على هذا، فإنّ الأيديولوجي الجامد قد يعيش منكفئاً عن الواقع حينما لا تسمح الظروف بتطبيق تلك الأيديولوجيا. بانتظار تهيّؤ البيئة والشروط المناسبة لتطبيقها.
2-2- الأيديولوجيا الحركيّة، وأعني بها الأيديولوجيا التي لا تمنع المعتقد بها من مواكبة التطوّرات والتحوّلات الخارجية، ولا تفرض عليه الانكفاء عن الواقع، بل تكون هي المبدأ لسلوكه الحركي الحيوي. وهذه الأيديولوجيا يمكن تقسيمها إلى نوعين:
2-2-1- الأيديولوجيا الحركيّة المتغيّرة، وأعني بها الأيديولوجيا التي تتغيّر بحسب الظروف الخارجيّة، وذلك من خلال تأويلها بما يتواءم مع الواقع، فحامل هذه الأيديولوجيا وإن كان يصرّ على أيديولوجيّته، إلاّ أنّ إصراره على متابعة الحركة والسلوك الذي يخالف ظاهر الأيديولوجيا يجعله يؤولها لصالح السلوك، فيتحوّل الانسجام بين القبليّة والسلوك، إلى انسجام ينطلق من السلوك إلى القبليّة، بدل انطلاقه من القبليّة إلى السلوك، فيكون ناتج ذلك:
I- المحافظة على الأيديولوجيّة بالشكل دون المضمون.
II- الاستمرار في السلوك باعتباره الحاكم على تفسير الأيديولوجيّة.
2-2-2- الأيديولوجيا الحركيّة الثابتة: وأعني بها الأيديولوجيا التي تتميّز بثبات القبليّات الأساسيّة، وعدم قابليتها لأيّ تغيير مضمونيّ منبعث من الواقع الخارجيّ، وفي الوقت ذاته فإنّها، في حال عدم توفّر بيئة وشروط تحقيقها، لا تأمر بالانكفاء عن الواقع، بل من منطق واقعيّتها تدعو لبقاء الحركيّة والسلوك تحت عنوان الاستثناء والضرورة على قاعدة كون الميسور لا يسقط بالمعسور، لكن بشرط أن يكون ذلك السلوك وتلك الحركة يقعان في مسار التحقيق المستقبليّ لمشروع تلك الأيديولوجيا. وعليه، فإن هذا السلوك الاضطراريّ، الواقعي غير المنسجم بالأصل مع الأيديولوجيا، وإن كان لا يُلقى عليه «الحُرُم»، إلّا أنّه لا يتحوّل باضطراريّته من القبح إلى الجمال، بل يبقى على قبحه الأوّليّ. فيكون ناتج ذلك:
I- المحافظة على الأيديولوجيّة بالشكل والمضمون.
II- الاستمرار في السلوك بالعنوان الاضطراريّ المشروط بخدمة مشروع الأيديولوجيا.

منهجيّة حزب الله في الفكر السياسيّ
من الواضح أنّ حزب الله أيديولوجي لا ينطلق في فكره وممارسته السياسيّة من محض المنفعة، بل يراعي الانسجام بين سلوكه والقبليّات العقديّة والشرعيّة التي يؤمن بها، فالبحث في منهجيّته يدور حول الأنواع الثلاثة من الأيديولوجيّات السابقة: الجامدة، والحركيّة المتغيّرة، والحركيّة الثابتة. كما من الواضح أن أيديولوجيا حزب الله ليست جامدة، فهو في تعريفه الرسميّ: حركة إيمانيّة جهاديّة، وهو يؤكّد في ثقافته أنّ معنى انتظاره للإمام المهدي (عج) الذي سوف يحقّق حكومة التكامل الإنسانيّ الاجتماعي هو الانتظار الإيجابي الذي يدعوه للتحرّك من أجل تمهيد الأرضيّة المناسبة لظهور القائد العالمي المنتظَر، بل إنّ أمينه العام أكّد مراراً أنّ الروايات المهدويّة حول علامات الظهور ليست في مقام الحثّ على مراقبتها فقط، بل هي تشكّل دعوةً لصنع العلامات من قبل المجتمع المنتظِر، فالحديث عن الخراساني واليماني هو لأجل صناعتهما عبر تهيئة الأرضيّة المناسبة لهذه الصناعة، وفي السياق ذاته يكون الحديث عن أمن جبل عامل دعوةً لصناعة القوّة التي تشكّل المناعة المحقّقة لذلك الأمن.
وهذا المنهج ينطلق ممّا يُصطلح عليه في الحوزة العلميّة الشيعيّة بالمدرسة الأصوليّة التي تعطي للعقل القطعي، لا سيّما الموضوعي منه، الموقع الأوّل في الدليلية والحجيّة، بحيث تُعدُّ الرواية المطابقة لهذا العقل في مقام الإرشاد لحكمه، وبالتالي تقع في المرتبة الثانية بعد العقل، وهذه المدرسة هي الرائجة والسائدة في الحوزات الشيعيّة في مختلف البلدان، ومنها انطلق الإمام الخميني (قده) (1902 ـــ 1989) في فكره السياسي مؤكداً ضرورة مراعاة المنظومة المعرفيّة الدينيّة المتناسقة التي تهدف لصناعة التمهيد لدولة التكامل الإنساني الاجتماعي العالمي. وفي مقابل المدرسة الأصوليّة، وُجدت في تاريخ الشيعة مدرسة أخرى هي المدرسة الأخباريّة التي اندثرت بغالبيّتها، إلّا أنّ بعض آثارها بقيت في جانب من الخطابات الدينيّة التبليغيّة، وهي مدرسة لها موقف سلبيّ من العقل الذي تقدّم الحديث عليه إجمالاً، ولا تراعي تناسق المنظومة المعرفيّة الدينيّة، وبسبب ذلك فإنّها تأثّرت ببعض الروايات الدينيّة التي تناهض المنهج الحركي السياسي في عصر الغيبة كالتي تفيد بأنّ كلّ راية تخرج قبل الإمام المهدي (عج) هي راية ضلال، وأنّ المؤمن في عصر الغيبة يجب أن يكون على الصعيد الاجتماعي السياسي حِلساً لبيته أي ملازماً له، وهو ما فسّرته المدرسة الأصوليّة في ضوء المنظومة المعرفيّة الدينيّة بما يتناسب مع الظروف السياسيّة لزمن تلك النصوص الذي شهد صراعات لفئاتٍ لا يشكّل أيّ منها فريق حقٍّ ينطلق في حركته لأجل صنع مجتمع التكامل الإنساني الاجتماعي.
يبقى تحديد منهج حزب الله بين المنهجين الأيديولوجيّين الحركيّين المتغيّر والثابت، والذي يمكن مقاربته من خلال ملاحظة المباني الفكريّة للمذهب الشيعي الذي يعتقد بحجيّة العقل العملي الذي يُدرك ما ينبغي أن يُعْمَل كإدراكه حسن العدل وقبح الظلم، وتشكّل قضيّة العدل حسن وقبح الظلم، في هذا المذهب، أمّ قضايا هذا العقل، كما تشكّل قضية استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما أمّ قضايا العقل النظري الذي يُدرك ما ينبغي أن يُعْلَم، وبالتالي وبناءً على ما سبق من أوليّة دليل العقل القطعي، في المدرسة الشيعية الأصوليّة، وتقديمه ومرجعيّته في تفسير أيّ نصّ ديني، فإنّ ذلك يعزّز الثبات في مباني القراءة للنصوص الدينيّة التي أكّد الإمام الخميني (ره) أن تكون مبنيّة على المنظومة الدينيّة المعرفيّة التي يعتبر الانسجام في ما بينها وبين العقل أساساً في صحّة الاجتهاد الذي لا بدّ في رأيه أن يراعي الزمان والمكان في النظرة إلى النصّ الديني وتطبيقه على الموضوعات الخارجيّة بما لا يخرجه من دائرة الثبات.

صفاء النموذج في منهجيّة حزب الله
وقد نتج عن هذه المنهجيّة الاجتهاديّة الخمينيّة ما اصطلح عليه بـ«خط الإمام الخميني» (ره)، الذي أكّد على قضيّة استراتيجيّة كبرى في الطرح الديني يجب السير دائماً في طريق تحقيقها، وهي إقامة مجتمع التكامل الإنساني الاجتماعي العالمي الذي يحقّق العدالة الاجتماعيّة بأبهى حللها، وهي ما يعبّر عنها بالقضيّة المهدويّة المستقاة من قوله عزّ وجلّ «هُوَ الّذيْ أَرسَلَ رَسُوْلَهُ بِالْهُدَىْ وَدِيْنِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَىْ الْدِّيْنِ كُلِّهِ». فإنَّ دين الحقّ يمثّل نموذج المبادئ والقيم والقوانين التي يحتاج إليها المشروع المحمّدي المهدوي، والهُدى يمثّل نموذج القيادة الاجتماعيّة المحدّدة لأولويّات المجتمع في سبيل تحقيق تلك القضيّة الاستراتيجيّة الكبرى، ويُشكّل صفاء ونقاء وكمال نموذَجي القيادة الهادية ودين الحقّ الأساس في جاذبيّتهما إلى الاتّباع الاختياري عند ظهورهما.
من هنا، كان الأساس في المسار المؤدّي إلى تلك القضيّة الاستراتيجيّة المحافظة على صفاء هذين النموذجين، وهذا ما جعل المنهج المهدوي في مدرسة الإمام الخميني (ره) هو الأبعد عن البراغماتيّة، وهو ما يجعله أيضاً، مع ملاحظة المنظومة المعرفيّة الدينيّة بعيداً عن الأيديولوجيا الحركيّة المتغيّرة، فالظلم الذي يدرك العقل قبحه لا يمكن أن يتحوّل إلى جميل، والعدل الذي يدرك العقل حسنه لا يمكن أن يتحوّل إلى قبيح؛ إلّا أنّ الهدف الأساسي المتمثّل في القضيّة الاستراتيجيّة الكبرى تقتضي الحركيّة، وترفض الانكفاء، وبالتالي تنطلق هذه الحركيّة من سلّم الأولويّات التي تخدم تلك القضيّة، وهذا ما قد يعدّد وينوّع الأدوار باتجاه الوصول إلى الهدف الواحد، وهو ما عناه المفكّر الإسلامي الكبير الشهيد السّيد محمد باقر الصدر (قده) (1935ـــــ 1985) في قراءته لأدوار أئمّة الشيعة المتنوّعة بين الصلح مع الظالم والشهادة في محاربة الظلم، وما بينهما لتحقيق الهدف الواحد، وفي هذا السياق تمّت تسمية كتابه التاريخي بـ«أهل البيت، تنوّع أدوار ووحدة هدف»، وهذا أيضاً ما عناه الإمام الخامنئي في قراءته لأدوار أئمّة الشيعة (ع) في كتابه الجامع لسيرهم تحت عنوان: «إنسان بعمر 250 سنة». فإبقاء بعض الأمور غير المطابقة للصلاح في عهد الإمام علي (ع)، في هذا المنهج، لم يحوّلها إلى صالحة، بل بقيت على ما كانت عليه، وصلح الإمام الحسن (ع) لم يحوّل الظلم إلى عدل، والظالم إلى عادل، بل بقي الظلم ظلماً والظالم ظالماً، وعدم قيام الإمام الحسين (ع) مدةً تُقارب عشر سنوات قبل حكم يزيد لا يُشكِّل رضا عن الحاكم وحكمه، بل بقي السخط قائماً على ذلك الفساد، وهكذا الأمر مع بقيّة الأئمّة (ع). فإنّ تنوّع تلك الأدوار قام على أساس دراسة الظروف الموضوعيّة في ضوء المصلحة الإنسانيّة العامّة في المسار المؤدّي إلى تحقيق القضيّة الاستراتيجيّة الكبرى. كما أنّ عدم دخول الإمام علي (ع) وأبنائه في خيارات عمليّة تحقّق إنجازات مرحليّة لهم كان على أساس المحافظة على النموذج الذي بدونه لن يتحقّق الهدف الإلهي الإنساني العام.
إنّ هذه المنهجيّة التي اصطُلح عليها بالأيديولوجيا الحركيّة الثابتة هي التي يعتمدها حزب الله في ممارسته السياسيّة، فالعدوّ الإسرائيلي يبقى عدوّاً مغتصباً وغدّة سرطانيّة سواء أثناء ممارسة عمليّات المقاومة فعلاً، أو أثناء الترقُّب القائم على الجهوزيّة المناسبة، والفساد يبقى فساداً والفاسدون فاسدين، بغضّ النظر عن توفّر الظروف الموضوعيّة للاستئصال السريع لذلك الفاسد والمحاكمة الفعليّة لأولئك الفاسدين، وَمَن ينطلق من قراءته للعقبات الكؤودة في محاربة الفساد والفاسدين بتبرير فسادهم يكون خارجاً عن هذه المنهجيّة، ومندرجاً تحت منهج الأيديولوجيا الحركيّة المتغيّرة. فمنهج الأيديولوجيا الحركيّة الثابتة لا يغيّر في قبح القبيح، لكنّه يتحرّك في ضوء دراسة الإيجابيّات والسلبيّات في السلوك العملي الواقعي الاضطراري، الناظر للمصلحة العامّة، المنسجم مع الهدف الأساس والقضيّة الاستراتيجيّة الكبرى التي لا تتحقّق إلّا في ضوء صفاء النموذج القيادي والنظري في مبادئه وقيمه، وفي ضوء ذلك يخطّط ويبرمج، ويجيب عن سؤال كيف؟ الذي قد يختلف فيه مع الآخرين، من دون أيّ تغيير بالإجابة عن سؤال: ما هو؟ باعتبار الإجابة هنا تنطلق من الثابت المتّفق عليه عند العقلاء. فالباطل والظلم ذاتي لا يمكن تحسينه، ولا يصحّ تبريره، والحق والعدل حسنهما ذاتي لا يمكن تقبيحه، ولا يصح تشويهه بإنجاز على حساب النموذج.

* أستاذ جامعي وحوزوي