ما كاد البيت الأبيض ينتهي من أجواء زيارة نتنياهو قبل أسبوعين، حتى فتحت أبوابه من جديد لاستقبال رئيس السلطة محمود عباس في خطوة جديدة، أرادت بها الإدارة الأميركية، بقمة هرمها، التدخل في إنعاش المسار الذي رسمه وزير الخارجية جون كيري منذ أكثر من سبعة أشهر، لحركة سياسية نشطة بين الطرفين: حكومة المستعمرين الصهاينة وقيادة سلطة رام الله المحتلة، في مفاوضات ماراثونية، من أجل الوصول لصيغة عملية، لحل «الأزمة المستعصية»، كما عبر عنها أكثر من مسؤول وناطق أميركي، من خلال موافقة الطرفين على «اتفاقية الإطار».
لم تكن الأجواء التي نتجت من زيارة نتنياهو لواشنطن ولقائه بالرئيس الأميركي، توحي بأن حكومة العدو لديها أي تفكير بالتراجع عن الشروط الصعبة التي تفرضها على وفد السلطة المفاوض، والمتتبع لكل أحاديث نتنياهو خلال شهر آذار الحالي، يلاحظ تصعيده الممنهج ورفع سقف مطالبه، وهذا ماتضمنه خطابه في المؤتمر السنوي في الأسبوع الأول من هذا الشهر، أمام المنظمة اليهودية – الأميركية - الصهيونية «ايباك» الأبرز حضوراً، والأكثر فاعلية وتأثيراً في صانع القرار، والرأي العام الأميركي، وفي تصريحاته المتتالية لوسائل الإعلام، التي يحدد من خلالها الإطار الذي وضعه لحركته السياسية ولشروطه داخل مسار المفاوضات: الموافقة على يهودية الدولة، التنازل عن حق العودة، القدس الموحدة عاصمة للكيان، الاحتفاظ بكتل المستعمرات الكبيرة، والوجود العسكري في منطقة الأغوار. مع الذهاب خلال فترة زمنية طويلة لبحث القضايا الأخرى.

ثوابت عن ثوابت... «بتفرق»

ما بين جدران المقاطعة في رام الله المحتلة، ومن على منصة أكثر من مؤتمر، أطلق رئيس السلطة مواقف عدة، رسمت مسار لقاءاته المقبلة في واشنطن. في مساء السادس من آذار/ مارس، تحدث عباس أمام الشبيبة الفتحاوية في الجامعات الفلسطينية، مؤكداً تمسك السلطة بـ «الثوابت»، مصرّاً على عدم تقديمها (السلطة) «أية تنازلات منذ إعلان الاستقلال عام 1988».

أوباما لم ينس الإشادة بأبي مازن باعتباره مسؤولاً نَبَذَ على الدوام العنف


وشدّد على أن السلطة لا تزال تطالب بالانسحاب الإسرائيلي من جميع الأراضي الفلسطينية على حدود 1967. أما موقف السلطة من حق عودة اللاجئين، فقد أعلنه من خلال التذكير بـ«ثوابته»: «إنه حق شخصي لكل لاجئ ولاجئة، وهو حر في اختيار الحل الذي يريد من بين الحلول الممكنة، والتي بينها العودة إلى الأراضي «الإسرائيلية» والحصول على جنسية «إسرائيلية» وتعويض مالي»! بعد بضعة أيام، أعاد أبو مازن الإعلان عن مواقفه المتضمنة رفض الشروط التي يضعها نتنياهو والتي تعني الموافقة عليها «الانتحار السياسي» له. وهذا ما أكده في كلمته أمام أعضاء المجلس الثوري للحركة «الحزب الحاكم في رام الله المحتلة»، قبل بضعة أيام من توجهه للقاء الرئيس الأميركي «بلغت الآن 79 عاماً ولن أتنازل عن حقوق شعبي ولن أخون شعبي وقضيته».

أوباما في مديح رجل السلام

في الاجتماع الأخير بالبيت الأبيض طالب أوباما عباس بضرورة اتخاذه «قرارات سياسية صعبة... والتقدم نحو مجازفات، إذا أردنا إحراز تقدم»، ومن المؤكد أن تلك القرارات والمجازفات، ليست فقط من أجل إحراز التقدم، بل لتليين موقف نتنياهو وطاقم حكومة المستعمرين. لكن الرئيس الأميركي لم ينس خلال لقائه الصحافيين الإشادة بأبي مازن باعتباره مسؤولاً «نَبَذَ على الدوام، العنف وسعى باستمرار إلى حل دبلوماسي وسلمي يتيح الوصول إلى دولتين تعيشان جنباً إلى جنب بسلام وأمن». من ناحيته، شدّد أبو مازن على أهمية الزمن «ليس لدينا وقت لنضيعه لأنه ضيق جداً، خصوصاً أننا نعيش في الشرق الأوسط بظروف صعبة للغاية، ونأمل أن تستغل هذه الفرصة للوصول إلى سلام». وأضاف «منذ عام 1988 نمدّ أيدينا لجيراننا «الإسرائيليين» من أجل سلام عادل، ومنذ ذلك الوقت اعترفنا بقرارات الشرعية الدولية وكان ذلك موقفاً شجاعاً من القيادة في ذلك الوقت، وفي عام 1993 اعترفنا بوضوح بدولة إسرائيل».

تمديد جديد ومعاناة مستمرة

رغم كل ذلك، وصف صائب عريقات في كلمة له أمام «مركز ويلسون للدراسات» في واشنطن، لقاء أوباما - عباس بـ «أنه كان صعباً وطويلاً»، مضيفاً «خلافاً لما كان متوقعاً، لم نخرج من هذا الاجتماع بوثيقة رسمية يقترحها الأميركيون... ما زلنا في مرحلة المباحثات، للتوصل إلى «الاتفاق الإطار»، الذي يعدّ له وزير الخارجية الأميركي جون كيري منذ أشهر، والذي من المفترض أن يقدم في نهاية شهر نيسان المقبل». لكن المؤكد، أن طلباً أميركياً طُرِح بتمديد المفاوضات المقرر لها أن تنتهي في 29 نيسان/ابريل المقبل، لنهاية العام الحالي، طالما أن الاستعصاءات الحادة ما زالت تعترض المسار التفاوضي، ولأن «التنازلات الكبرى» لم يقُدم عليها أحد - المقصود: الطرف الفلسطيني -. وبالرغم من تنامي شعبية أنصار الموقف الرافض للمفاوضات، في صفوف الحركة الجماهيرية، وداخل القوى السياسية والمجتمعية والفصائل، فإن «لوبي» العمل والاستمرار في المفاوضات في ظل الشروط التي تفرضها حكومة المستعمرين، مازال قادراً على التحرك والتأثير. ولهذا، تقدم أبو مازن بطلبات تتضمن ضرورة «وقف الاستيطان وإطلاق سراح الأسرى المرضى وكبار السن والقادة السياسيين، مروان البرغوثي وأحمد سعدات وفؤاد الشوبكي»، والنساء والمعتقلين الإداريين، من أجل الموافقة على التمديد.
ما كاد الإعلان عن هذه الطلبات يظهر في وسائل الإعلام، حتى جددت حكومة العدو منح التراخيص لبناء وحدات جديدة بالمستعمرات، وشنت حملة اعتقالات واسعة، وتحدثت بعبارات واضحة عن إمكان تأجيل إطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى المتفق عليهم بعد بضعة أيام.
في ظلّ هذا المشهد، ورغم التصلب الراهن في بعض المواقف، فالثابت الوحيد هو أن حكومة المستعمرين وداعميها، لا تفهم سوى لغة واحدة ووحيدة: صلابة الموقف في الدفاع عن الحقوق الثابتة والتمسك بنهج المقاومة، المسيّج بوحدة سياسية وثقافية ومجتمعية، لحماية الأرض والشعب والثوابت.
* كاتب فلسطيني