وصلت جائحة الفيروس التاجي إلى أكثر البقع الأرضية سخونة في هذا الكوكب، هذه البقعة الغارقة منذ وجودها في أزمات غيّرت مسارها مرات عدّة، وفي كلّ مرة كانت الخسارات مدوّية. هذه البقعة التي أضعفتها، أخيراً، التناقضات الداخلية وأغرقتها الحروب الأهلية وعملية التدفّق الكبير للاجئين، وتراجع أسعار النفط وزيادة مستوى الفقر وحالة الاستياء العارمة لدى الشعوب، التي أنهكتها هي الأخرى السياسات المحلية والصراعات الإقليمية والمطامع الدولية، هي اليوم مبتلاة بما ابتُلي به العالم، ولكن حتماً سيكون تأثير الفيروس التاجي في العالم العربي أكثر خطورة وأكثر فتكاً ومرارة. لقد استطاع الفيروس التاجي أن يقود المرحلة، فأوقف الصراعات الإقليمية مؤقتاً، لكنه عزّز شراسة الهدوء الحذر بين الخصوم التقليديين، كما أبقى في الوقت نفسه على التناقضات الطائفية التي يبلغ عمرها من عمر هذا الشرق المحموم.
يحتاج المواطن العربي إلى جهود جبّارة من أجل العيش، وإلى عملية تأقلم دائمة لكلّ المتغيّرات التي تحصل بسرعة، وحتى من دون سابق إنذار، وسط ما ابتُلي من فساد مستشرٍ لدى السلطات الحاكمة، وما جائحة «كورونا» اليوم، سوى عملية انتقال عسيرة من مرحلة إلى مرحلة قد تكون أقسى وأصعب، ولا سيما على الصعيد الاقتصادي. ولكن على الإنسان العربي أن يدرك أنّ التحولات الجديدة يجب أن يعتاد عليها، فما هو جديد اليوم سيصبح تحصيلَ حاصلٍ غداً.
منذ بداية الأزمة الكورونية، تصاعدت خطابات المتفائلين باحتمالات تغيّر إيجابي على مستوى العالم، ولكن حتى أشدّ المتفائلين بدأت تختلج في صدورهم العديد من الصور والمتغيّرات التي تدلّ على مسارات مستقبلية متضاربة وسوداوية إلى حدّ ما. ومن المؤسف أنّ العالم العربي غير مهيّأ لانتهاز الفرص والخروج بما يريده الشعب فعلاً، فالإنسان العربي غارقٌ حتى العظم في تحديات العيش، وفي كسب الرزق وطلب الحياة بأبسط معاييرها، في ظلّ حالة الانكماش العالمي التي وصلت إلى حدود الـ11 في المئة، وخسارة حوالى 25 مليون وظيفة وانخفاض معدّلات الدخل المحلّي الإجمالي، وهذه المؤشرات في ارتفاع متزايد. فماذا عن العالم العربي الذي يعاني في الأساس من تحديات اقتصادية واجتماعية صعبة وخطيرة، والخارج لتوّه من موجات التحركات الشعبية التي بدأت عام 2011، والتي لا تزال تداعياتها حتى اليوم؟ كلّ ذلك وسط غياب فعلي لأيّ معالجات تُخرج العالم العربي من عنق الزجاجة، بل على العكس لا ينام المواطن العربي على أزمة إلا ويصحو على ما هو أقسى وأشد منها.
في الحقيقة، من غير المرجّح أن يُغيّر الوباء ميزان القوى في المنطقة، كما أنّ الصراعات الطائفية ستبقى على حالها، بل من المتوقّع أن تزيد مع كل مستجد أو متغيّر سياسي، فقد اجتهد أصحاب العلاقة في جعل الصفيح الطائفي ساخناً بشكل دائم، بحيث يصعب لجمه بسهولة. من جهة أخرى، فإنّ الحروب الإقليمية، باردة كانت أم ساخنة، ستحافظ على وجودها وفقاً لما تقتضيه المصالح، وهذا من شأنه أن يزيد الحمل ثقلاً، وخصوصاً أنّ طريقة التعاطي مع الفيروس التاجي ربما ستخرج عن السيطرة في المراحل المقبلة، وهذا الافتراض مرهون بقدرة الحكومات العربية على الإبقاء على حالة التعبئة والإقفال العام.
من غير المرجّح أن يُغيّر الوباء ميزان القوى في المنطقة كما أنّ الصراعات الطائفية ستبقى على حالها


ومن الواضح أن جائحة «كورونا» ستثير شهية الصراعات الصامتة وتزيد من حدّتها، فالمملكة العربية السعودية مثلاً، لا تزال غارقة في اليمن، حيث لم تستطع تحقيق مكاسب فعلية لها، وقد تكون الهدنة الكورونية المؤقتة فرصة لأخذ النفس والانقضاض من جديد، وسط ما يصل إلينا اليوم من دخول «اليمن السعيد» في صراع خطير مع الفيروس التاجي، وانتشاره السريع والخطير في أكثر من منطقة يمنية، هذا إضافة إلى معلومات غير رسمية عن ارتفاع في عدد الوفيات وسط عجز صحّي لبلد منهك ومدمّر لم يخرج بعد من صراع المصالح على أرضه.
ولعلّ تاريخ الأوبئة يعيد نفسه في أكثر من مسار، شأنه في ذلك شأن المتغيّرات السياسية أو الصراعات أو الحروب، لكلّ تداعياتها وجبهاتها التغييرية. وما جائحة «كورونا» سوى مرحلة شرسة من مراحل الحرب والصراع من أجل البقاء على قيد الحياة، والدورة الحياتية بعد أي متغيّر من هذه المتغيّرات يكسر الجمود الحاصل ويعيد ترتيب الأمور وفق مصالح الأقوى. فلو استعدنا المشهد السوري، اليوم، لاستطعنا فهمَ مزيجٍ من الصراعات في العالم العربي على المستويين السياسي والعسكري، بينما ستستمر اللعبة الدولية في الداخل السوري على حالها مع تغييرات فقط في التفاصيل. ولا يمكن النظر إلى الدول العربية الأخرى إلا من العين الأميركية التي ستزيد من استخدام قوتها في العراق وفي ليبيا، مع كل ما وصلت إليه هاتان الدولتان، بانتظار ما ستؤول إليه الأمور بعد التغيّرات السياسية الداخلية الأخيرة في البلدين. ولا يبدو الواقع أفضل حالاً في مصر أو السودان المغلوب على أمره والخارج من عملية أميركية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، والذي كان الهدف الأبرز وراء كل ما تعرّض له منذ سنوات لضغوطات أتت نتائجها بحسب ما تشتهي الرياح الأميركية، التي ستعصر من جديد في كلّ مكامن العالم العربي وسط غفلة عربية معروفة النتائج، فلا صوت يعلو فوق صوت الولايات المتحدة التي عرفت كيف تروّض أدواتها المحلية لتستمر في بسط سلطانها.
وإن اختلفت في المضامين الخصوصيات السياسية لكلّ بلد عربي، لكن ما بعد مرحلة «كورونا» وحتى قبل أن ينتهي هذا الوباء الذي على ما يبدو أن نهايته غير معروفة، سيذهب العالم العربي إلى مزيد من الانكماش الاقتصادي. وقد بدأت فعلاً بعض الدول العربية بالدخول في مرحلة الضغوطات المعيشية القصوى والغلاء الشديد، وسط ضعف خطير في القدرات الشرائية لدى المواطن. ولعلّ لبنان اليوم مقبلٌ على مرحلة اقتصادية هي الأخطر بعد انتهاء الحرب الأهلية، ولا سيما أنّ رئيس الحكومة حسّان دياب حذّر، أخيراً، من أنّ لبنان معرّض لمواجهة أزمة غذائية كبرى، وأنّ عدداً كبيراً من اللبنانيين قد يجدون صعوبة قريباً في توفير ثمن الخبز بسبب الأزمة المالية الحادّة التي تعيشها البلاد، وتداعيات جائحة «كوفيد ـــــ 19».
إذن، نحن أمام مرحلة اقتصادية خطيرة، والجوع يقبع على أبواب غالبية الدول العربية، وسط تورّط هذه الدول في محاور صراع كثيرة، والقابعة على ما يشبه الأرض الرملية المتحرّكة التي تتسابق عليها الأحداث، والتي في الغالب تُغرق أصحاب هذه الأرض التي لم تعرف الاستقرار بعد. فأيّ مصير سيكون عليه عالمنا العربي؟

*أستاذة جامعية متخصّصة في علوم الإعلام والاتصال