بات واضحاً في المشهدَين المحلّي والإقليمي أنّ الحصار الأميركي المفروض على دول وقوى محور المقاومة، لا يصبّ في مصلحة الإدارة الأميركية على المدى البعيد. لأنّ هذا الحصار دفع أطراف المحور إلى فتح مسارات جديدة كانت مغلقة، بحكم قواعد اشتباك الصراع، وكانت تشكّل خطوطاً حمراء عند الإدارة الأميركية، لم يترك الحصار خياراً آخر لها غير كسرها وتجاوزها.بالنسبة إلى الجمهورية الإسلامية في إيران وسوريا، الدولتين الأساسيّتين في المحور، فإن تداعيات الحصار هي نفسية وإعلامية بنِسب كبيرة. أوّلاً، إن إيران وسوريا دولتان تتمتّعان باقتصاد منتج، دولرته منخفضة إلى أدنى المستويات، يحقّق اكتفاءً ذاتياً وشبه اكتفاء ذاتي في العديد من القطاعات. لذلك، فهذا الحصار المفروض منذ سنين، والذي وصل إلى ذروته بإقرار قانون «قيصر»، لم يؤتِ أُكله حتى اليوم برفع كلفة الصمود عند الشعبين الإيراني والسوري، إلى حدِّ يدفعهما إلى الاستسلام والخضوع لشروط سياسة الإدارة الأميركية.
ثانياً، هذا الحصار دفع بالجمهورية الإسلامية إلى تخطّي محظور أميركي تاريخي، عبر كسر الحصار المفروض على فنزويلا من خلال إرسال ناقلات النفط إلى البحر الكاريبي، أخيراً، وسفُن على متنها مواد غذائية إيرانية في الأيام القليلة الماضية. والأمر عينه شهدناه عند الموانئ السورية، عشيّة بدء تنفيذ قانون «قيصر». هذه الخطوة، هي بمثابة فتح مسار جديد وخطير على الإدارة الأميركية لم يجرؤ على اللجوء إليه سوى الاتحاد السوفياتي، حين كسر الحصار المفروض على كوبا في زمن نظام القطبين. حيث إنّ رسالته كانت قوية ومدوية جدّاً، مفادها أنّه كلّما حاصرتم أكثر وشدّدتم الخناق أكثر، كلّما دفعتم الدول المحاصرة إلى التكامل مع بعضها البعض، وتحقيق اكتفاء ذاتي محوري في العديد من القطاعات في ما بينها على المدى البعيد.
أمّا لبنان المحاصر منذ سنوات والذي وصل الحصار المفروض عليه في نهاية عام 2019 إلى ذروته، صحيح أنّ اقتصاده مشلول، شبه عديم الإنتاج ومدولر بنسبة عالية جدّاً، لكنّ النفوذ الأميركي فيه هو الأكبر. فانهيار الهيكل اللبناني، هو بطبيعة الحال انهيار للنفوذ الأميركي، وبالتالي أول الخاسرين من الانهيار الكبير في لبنان، إذا ما حصل، هو الإدارة الأميركية. وحتى الآن، إنّ سهام الحصار لم تُصِب أهدافها، وواقع الحال في البلد يشير إلى أنّ أقلّ المتضرّرين هو حزب الله. وكما في إيران وسوريا، إنّ اشتداد الخناق على أعناق اللبنانيين يدفع بوتيرة متصاعدة، إلى تبنّي الحلّ الذي يدعو إليه حزب الله، عبر فتح مسار الشرق الذي كان مُغلقاً طوال السنين الماضية بفعل الفيتو الأميركي، والذي باتت تعبّر عنه بعض القوى السياسية الأساسيّة في البلد، بأنّه سيصبح الخيار الوحيد بعدما كانت رافضة له، تخوّفاً من انفلات الشارع والزعزعة الأمنية نتيجة التحوّل الاجتماعي الحاصل. هذا كلّه بالإضاقة إلى قدرة المقاومة على فرض معادلة جديدة، مقابل معادلة التجويع أو تسليم السلاح، كان قد أشار إليها الأمين العام لحزب الله في خطابه الأخير، ألبسها لبوساً عسكرياً بتلميح أقوى من التصريح. لربّما الأمن التجاري البحري الإسرائيلي يقع في صلب هذه المعادلة.
هذا المسار الجديد، الذي يفتحه محور المقاومة على الصعيدين الإقليمي والدولي، بالتأكيد سيدفع بالإدارة الأميركية إلى التراجع عن حصارها، ووضعه فقط في خانة ورقة ضغط ليحاول استثمارها في تسوية مقبلة في المنطقة. في هذا الإطار، جاءت الاستجابة الأميركية لدعوة الرئيس الروسي سابقاً، لعقد قمّة تضم رؤساء الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، كانت قد أبدت الولايات المتحدة الأميركية عدم استجابتها لها في مطلع العام الحالي، وعلى جدول أعمالها العقوبات الأميركية. وهذا المسار سيجبر الإدارة الأميركية أيضاً، في المدى المنظور، على تفعيل القناة الإيرانية ـــ السعودية ـــ الأميركية التي تشير بعض المعلومات المتداولة إلى وجودها.
إذاً، لا أفق للحصار الأميركي المفروض على منطقتنا، واستمراريته ستكون لها نتائج عكسية على المدى البعيد. وموازين القوى على الأرض استثمرتها دول وقوى محور المقاومة في فتح مسارات جديدة خلاصتها تشبيك الساحات بين الدول المحاصرة، والتي بدأت في مجال التعاون والتبادل التجاري، وقد تنتقل إلى تعاون وتكامل على مختلف الأصعدة بين هذه الدول على المدى البعيد. باختصار، ينتقل المشهد تدريجيّاً من واقع مواجهة العقوبات الأميركية كلّ على حدة إلى مواجهة جماعيّة من قبل كل الدول والقوى التي لا تدور في الفلك الأميركي، ما يضيّق هامش تأثير العقوبات الأميركية.

*باحث اقتصادي لبناني