في يوم الأربعاء 9 تشرين الثاني / نوفمبر 2011، وأمام مبنى الجامعة العربية في القاهرة، هاجم حشد من السوريين يُقدّر بالعشرات، وفد «هيئة التنسيق» الذي كان مدعوّاً لمقابلة الأمين العام لجامعة الدول العربية، للبحث في موضوع تشكيل وفد مشترك للمعارضة السورية بين «الهيئة» و«المجلس الوطني»، لمفاوضة وفد السلطة حول تنفيذ بنود المبادرة العربية لحلّ الأزمة السورية، التي كان قد وافق عليها مجلس الجامعة في الثاني من الشهر المذكور. قام أفراد الحشد المذكور بضرب عضوَي الوفد، الدكتور عبد العزيز الخير والمحامي رجاء الناصر، وقام بعضهم برميهما بالبيض. كان قادة الحشد المذكور ثلاثة: شخص ينتمي إلى تنظيم «جماعة الإخوان المسلمين»، وشخص آخر من خلفية شيوعية سابقاً ينتمي إلى «إعلان دمشق» (تأسّس في عام 2005) الذي كان من مكوّنات «المجلس الوطني»، فيما كان الشخص الثالث من عائلة صناعية في حلب، وهو كان في السبعينيات من تنظيم «الطليعة المقاتلة لجماعة الإخوان المسلمين»، وخرج من سوريا في الثمانينيات، وعاش في اليمن، كما كان مقرّباً من المهندس رياض الشقفة، مراقب عام «جماعة الإخوان المسلمين»، في فترة إقامة الأخير في صنعاء، بعد خروجه من العراق عام 2003. تعرّف عبد العزيز إلى الشخصين الأولين أثناء الحادثة وميّزهما، بحكم معرفته الشخصية بهما، فيما أعلن الشخص الحلبي بصراحة لوسائل الإعلام عن مشاركته وتبنّيه للحادثة بخلاف زميليه المشار إليهما. كان المنتمي إلى «اعلان دمشق»، المشار إليه، قد كتب مقالاً في إحدى الصحف ضد مقرّرات مؤتمر حلبون الذي عقدته «هيئة التنسيق» في 17أيلول / سبتمبر 2011، اتهم فيه «الهيئة» بأنّها «تحاول إنقاذ النظام» من «السقوط المحتوم»، من خلال دعوتها إلى «مرحلة انتقالية تتولى السلطة التنفيذية فيها حكومة وحدة وطنية، تتمتّع بكل الصلاحيات اللازمة لقيادة مرحلة الانتقال نحو النظام الجديد». عندما عاد عبدالعزيز ورجاء إلى دمشق، بعد أيام من الحادثة، لم يكن يبان عليهما غضب أو رغبة بالانتقام بل حزن عميق، وقد أصرّ المكتب التنفيذي للهيئة على أن يكونا في وفد الهيئة، الذي تفاوض لمدة أربعين يوماً مع وفد المجلس، لإنشاء ورقة مشتركة وقّعها في مبنى الجامعة العربية، كلّ من رئيس المجلس الدكتور برهان غليون، ونائب المنسّق العام للهيئة الدكتور هيثم منّاع في 30كانون الأول / ديسمبر 2011، قبل أن ترفضها قيادة المجلس في اليوم التالي.يمكن هنا الاستناد إلى هذا المشهد القاهري من أجل تشكيل صورة المعارضة السورية: تحالف التيار الإسلامي مع شيوعيين سابقين اتّجهوا نحو «الليبرالية الجديدة»، وقد ظهر هذا التحالف على أنه يشكل عماد «المجلس الوطني» الذي اتّجه بعد إعلانه في اسطنبول، يوم 2 تشرين الأول / أكتوبر 2011، نحو «اعتبار نفسه ممثلاً للشعب السوري»، ونحو «طلب الحماية الدولية»، و«تسويغ العنف المعارض»، ونحو رفض أيّ حلّ تسوويّ للأزمة السورية، بما فيها مبادرة الجامعة العربية. في المقابل، كان عبدالعزيز الخير، مع إحدى عشرة سنة من الملاحقة الأمنية بين عامي1981و1992واعتقال بين عامي1992و2005، وهو الماركسي المعارض للسلطة والمحتفظ بماركسيّته، وكذلك رجاء الناصر، اليساري العروبي الناصري الذي عاش الملاحقة الأمنية، بين عامي 1986و2000، يمثّلان نموذجاً تسووياً من خلال طرحهما، عبر «هيئة التنسيق»، فكرة الانتقال السياسي نحو نظام ديمقراطي عبر عملية تشاركية يُتفق عليها بين السلطة والمعارضة.
هذا النموذج التسووي في المعارضة السورية كان ينطلق، ومنذ أسابيع بعد درعا18آذار / مارس2011، من فكرة أنّ ما جرى في القاهرة من إسقاطٍ لحسني مبارك في 11 شباط / فبراير 2011، لن يتكرّر في دمشق بحكم توازنات داخلية قائمة وأنّ هناك استعصاء توازنياً بين السلطة والحراك المعارض، لن يستطيع أحدهما تكرار ما جرى في مصر، ولا تكرار انتصار السلطة السورية الأمني على المعارضة بشقّيها الإسلامي والديمقراطي في أحداث 1979 ــــــ 1982، وأنّ الأفضل البحث عن حلّ انتقالي داخلي سوري، لتفادي مؤشرات أقلمة وتدويل الأزمة السورية، التي بانت ملامحهما في خريف 2011، ولتفادي الدخول في دوّامة العنف المتبادل بين السلطة والمعارضة، الذي كان عبدالعزيز يقول بأنه «سيقود إلى الأسلمة، والأسلمة ستقود إلى تطييف المجابهة»، وهذا كلامه منذ أيلول / سبتمبر 2011، عندما بدأت ملامح «العنف المعارض المنظّم».
هذا النموذج التسووي في المعارضة السورية لم يلاق ترحيباً في الخارج، سوى عند الأمين العام لجامعة الدول العربية الدكتور نبيل العربي، فيما كرهه رجب طيب أردوغان وأمير قطر، وهما مدعومان من واشنطن وباريس، آنذاك، كما أنّ طهران نظرت إلى هذا النموذج بعداء ولو حذِر (لم يحضر عبدالعزيز ورجاء توقيع ورقة 30 كانون الأول / ديسمبر 2011، لأنهما كانا في زيارة إلى العاصمة الإيرانية بناءً على دعوة رسمية)، بينما كانت موسكو تنظر إلى هذا النموذج باعتباره محاوراً مقبولاً، ولكن تشعر تجاهه بمسافات تبعد وجهات نظرها تجاه الأزمة السورية عن وجهات نظره. لم تحب الرياض هذا النموذج التسووي إلا بعد عام 2017، في مرحلة ما بعد صدام السعودية مع الاتّجاه الإسلامي الإخواني وقطر. في الداخل السوري، كانت السلطة تشعر، ومنذ صيف 2011، بخطورة النموذج التسووي في المعارضة السورية، أكثر من خطورة النموذج المتطرّف الذي كان ينادي بـ«إسقاط النظام» و«دعم المعارضة المسلّحة» و«استدعاء التدخل العسكري الخارجي». كان المعارض السوري التسووي يتلقّى سهام «السلطة» و«المجلس» في اللحظة نفسها، وكان اتفاقهما لافتاً للنظر آنذاك. يضاف إلى ذلك، ما يمكن تسميته بـ«المعارضة الموالية»، التي صبّت كل جهدها ضد «هيئة التنسيق». وقد أتت هذه «المعارضة الموالية» من معارضين سابقين، وجدوا أنفسهم في فترة ما بعد18آذار / مارس 2011، في حالة أقرب للسلطة من قربهم للمعارضة، وشكّلوا «يسار السلطة السورية»، مثلما شكّل جورج صبرة وميشال كيلو «يسار جبهة النصرة».
يمكن لمآلات محدّدة أن تكون كبيرة الدلالة: القادة الثلاثة لذلك الحشد القاهري، بحثوا لاحقاً عن لجوء سياسي في أوروبا، ولم يذهبوا إلى مناطق سيطرة المعارضة المسلّحة، سواء في شرق حلب عند سيطرتها على تلك المنطقة بين عامي 2012 و2016، ولا إلى إدلب، وقاموا عملياً باعتزال العمل السياسي، وخصوصاً في فترة ميَلان ميزان القوى لغير صالح المعارضة، في فترة ما بعد عام 2015. عبدالعزيز الخير تم اعتقاله من قبل السلطة في دمشق، يوم20أيلول / سبتمبر 2012، ورجاء الناصر اعتقلته السلطة في دمشق، يوم 20 تشرين الثاني / نوفمبر 2013.
من جهة أخرى، هناك زاوية صعبة يجد فيها نفسه المعارض السوري التسووي: سأتحدث في نصّ مقالي هذا عن تجربة شخصية، وهذه أول مرة أفعل ذلك، منذ بدايتي في الكتابة الصحافية في جريدة «السفير»، يوم 5 حزيران / يونيو 1998. قبل أشهر، كتبت إحدى الشخصيات الموالية للسلطة السورية عن أنّها تعتب على جريدة «الأخبار»، وتستغرب كيف ينشر فيها معارض سوري مثل محمد سيد رصاص. في الجانب المعاكس من الصورة، هناك كثير من المعارضين السوريين، وخصوصاً ممّن يعيشون في الخارج، وبعضهم أصبح معارضاً بعد خروجهم من البلد، وهم لم ينبسوا ببنت شفة تقول بأنهم في المعارضة عندما كانوا في الداخل، بل كان بعضهم ضمن السلطة ولهم مناصب فيها، يتحدّثون عنّي ويهاجمونني بسبب نشري مقالات في جريدة «الأخبار»، التي يعتبرونها حليفة وقريبة من السلطة السورية. أرى أنّ هذا يسجّل لجريدة «الأخبار»، التي أنشر فيها منذ صدورها عام 2006، ويثبت أنّها أكثر استيعاباً للتعدّد في الآراء من معارضين سوريين ومن منابر إعلامية معارضة سورية، ما دام القائمون على الجريدة يعرفون بأنني في موقع قيادي في «هيئة التنسيق» السورية المعارضة، التي تتلاقى في موضوع فلسطين، مع السياسة العامة للجريدة، ولكنّها تختلف معها في مواضيع عديدة منها الرؤية للأزمة السورية، بما فيها الوجود العسكري لحزب الله في سوريا منذ عام 2013. ما يؤلم في الموضوع، أن يزاود في المعارضة أناس، هم من «معارضي ربع الساعة الأخير» لم ينبسوا ببنت شفة في دمشق، ولكنّهم يجاهرون بالمعارضة بعدما أصبحوا خارج الحدود السورية، على شخصٍ قضى في السجن السياسي خمسة عشر عاماً، وما زال من سوريا يقوم بنشاطه السياسي داخل جسمٍ معارض يطرح منذ عام 2011، سياسة تغييرية جذرية، ولكن عبر رؤية تسووية تقول بمرحلة انتقالية نحو نظام ديمقراطي، تتشارك خلالها السلطة والمعارضة في جسم حكومي انتقالي، للوصول إلى النظام الديمقراطي، وهو ما تبنّاه المجتمع الدولي مع «بيان جنيف» عام 2012، والقرار 2254 عام 2015.

* كاتب سوري