«نعم نحن حزب المصارف»، اعترف نائب رئيس البرلمان اللبناني. وهكذا تجلّت المعركة حول أرقام خطة الحكومة الاقتصادية، التي أريد لها أن يكون ظاهرها تقنياً، ولكن في جوهرها الحقيقي إنه الصراع الذي تقوده الطبقة الريعية دفاعاً عن مصالحها، ودفاعاً عن النموذج الاقتصادي القديم الذي بدا وكأن أرقام خطة الحكومة تهدّدهما. لكن اليوم، وعلى الرغم من الانتصار الذي حقّقه هذا «الحزب»، إلّا أنّ الطبقة الرأسمالية الريعية، ومعها كلّ الرأسماليين، في حالة من التراجع، بينما تخوض أشرس معركة يائسة للدفاع عن النفس، منذ انتصارها الكبير الذي حقّقته بدءاً من عام 1992. فالنموذج الاقتصادي القديم، الذي بُني آنذاك مع علاقاته الطبقية ينهار، مع أو بدون خطة الحكومة.
الأزمة والخطر على الرأسمال المالي 
إنّ الأزمة التي تعصف بالاقتصاد اللبناني، تؤدّي فعلياً إلى نهاية «النموذج الاقتصادي القديم»، الذي اعتمد على العلاقة الخاصة بين ترويكا مصرف لبنان والمصارف التجارية والدولة. فنهاية ربط العملة اللبنانية بالدولار، ووقف سداد الديون على سندات اليورو، أدّيا إلى بداية نهاية دخل الريع الناتج عن الدين العام، كما أنّ ذلك أتى مرتبطاً مع تضخّم مرتفع سيؤدي إلى تراجع الدخل الحقيقي للريعيين (عبر تحوّل الفائدة الحقيقية إلى فائدة سلبية)، إذ كان يعتمد هذا الدخل في السابق على معدّلات الفائدة الاسمية المرتفعة والتضخّم المنخفض نسبياً. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ تجميد الحسابات بالدولار، ومن بينها مخزون الثروة المتراكمة سابقاً في أيدي القلّة (أكثر من 50٪ من الودائع مملوكة بنسبة 1٪ من المودعين)، يعني أنّ قيمة هذه الثروة مهدّدة بالانخفاض، إمّا من خلال الأسعار بشكل أوتوماتيكي بحكم التحوّل إلى الليرة، أو من خلال آلية «كمية» عبر إفلاس المصارف أو عدم قدرتها على الدفع. هذه النتائج الفعلية للأزمة على مداخيل وثروات الريعيين على الأرجح لن تكون مؤقتة، إذ أن الأزمة هي بعمق ما جعلت «إعادة التشغيل التلقائي» لنظام التراكم القديم المعتمد على الترابط بين المصارف والدولة، بعيداً عن التحقّق.

خطة الحكومة والخطر على الرأسمال المالي 
في هذا الإطار، فإنّ خطة الحكومة لحلّ الأزمة تحمل أيضاً في طيّاتها مخاطر «كمّية» على مداخيل وثروات الريعيين، وعلى المنظومة التي أنتجتها كل الفترة السابقة. فهنا، تكمن إحدى معضلات الرأسمالية، إذ أنها عندما تجد حلّاً لإحدى أزماتها، فإنّها تحضّر الأرضية لأزمة أخرى؛ فالحل «الكمّي» الذي حملته الخطة، من حيث تحميل المصارف تبعيات الخسائر عبر رأسمالها، تدفع إلى نهاية الريع أيضاً. ففي الخطة إعادة هيكلة الدين العام التي تنطوي على خفض نسبة الدين إلى الناتج المحلّي الإجمالي من 175٪ إلى 102٪ في عام 2020، من خلال خصومات كبيرة على قيم سندات اليورو وسندات الخزينة بالليرة اللبنانية. كما تدعو الخطة إلى تخفيض أسعار الفائدة على كلا النوعين من أدوات الدين إلى 3٪. ومن المؤكّد أنّ إعادة هيكلة الدين العام وتخفيض الفائدة سوف تتطلّب حسماً كبيراً على الودائع في القطاع المصرفي، وستؤدي إلى انخفاض كبير في المداخيل الناتجة عن المخزون المتبقّي من الديون. في الواقع، من خلال الشروع في الحاجة إلى إعادة هيكلة مصرف لبنان والقطاع المصرفي وتقييم الخسائر المالية في القطاع المالي الناجمة عن إعادة هيكلة الديون، والتخلّف عن سداد قروض القطاع الخاص، والخسائر في مصرف لبنان، تعلن الخطة بشكل لا لبس فيه أنّ الترويكا وصلت إلى نهايتها. ففي النهاية، كان لانهيار عملية البونزي (أي لعبة الاستثمار الهرمي) التي أمنّت في السابق التدفقات في عروق الترويكا، الأثر في إحداث خسائر مالية كبيرة تحتاج إلى معالجة من خلال إعادة هيكلة كاملة للقطاع المالي.
في هذا الإطار، تتوخّى الخطة تمويل «الإنقاذ» من خلال رأس مال البنوك التجارية، ومن خلال شكلٍ من أشكال قَصّة الشعر للمودعين الكبار الذين استفادوا تاريخياً من معدلات الفائدة الفائقة، وإن كان وفقاً للخطة «إن السلطات مصمّمة على حماية الغالبية العظمى من المودعين، إن لم يكن جميعهم، إذا أمكن». وقد دفع ذلك جمعية مصارف لبنان إلى شنّ حملة معارضة شرسة ضد خطة الحكومة. وأطلقت الجمعية في 20 أيار/ مايو خطة بديلة أشعلت «معركة الأرقام» التي وصل صداها إلى لجنة المال في البرلمان اللبناني، والتي أعلن تقريرها نهاية خطة الحكومة وأرقامها وإجراءاتها لصالح الحفاظ على مصالح الرأسمال المالي حتى لو تطلّب الأمر الصدام المحتمل مع صندوق النقد الدولي الذي يبدو حتى الآن مقتنعاً بأرقام خطة الحكومة اللبنانية. والأمر الأخير قد يعزّز الحاجة إلى حكومة جديدة تتبنّى خطة المصارف ولجنة المال، وتعيد التفاوض مع الصندوق من موقع الدفاع عن مصالح الأرستقراطية المالية.

الأزمة والصراع السياسي
طبعاً، إنّ نهاية طبقة و/أو صعود طبقات لا يحصل فقط في الحقل الاقتصادي، والصراع الطبقي هو صراع سياسي. كما أنّ الصراع السياسي هو صراع أيديولوجي. وفي الأخير، تروّج بروباغندا المصارف اليوم أنّ الذي يواجهها هو «حزب الإفلاس»، وقد التصقت هذه التهمة في أذهان الكثيرين لأنها سهلة وشعبوية، وتحاول أن تقول إنّ الدفاع عن المصارف هو الدفاع عن المودعين. في نهاية الأمر، نجحت هذه السياسة الانتهازية لأنّ خطة الحكومة ظهرت تقنية ويدعمها بضعة أشخاص، ولا تمثّل موقفاً طبقياً أو اجتماعياً أو سياسياً، بينما تقف في صف «حزب المصارف» أكثرية القوى السياسية لنظام الطائف.
وهنا، تأتي أهمية مثال بعض الدول التي واجهت المعضلة ذاتها من أزمات مصرفية، سأذكر ثلاثاً وهي السويد والنرويج وأيسلندا. بأشكال مختلفة، رفضت هذه الدول الانصياع لما يمكن تسميته «حزب المصارف» هناك، وقامت بوتائر مختلفة بتأميم بعض المصارف وإعادة الهيكلة والحفاظ في الوقت نفسه على أموال المودعين، فتحمّلت المصارف ومساهموها ومدراؤها تبعيات الأزمة، ولم تُحمّل الدولة أو دافعي الضرائب. الأهم، إنّ هذا الحلّ لم يكن اعتباطياً، فهذه البلدان لم تصل إلى هذا الخيار في مواجهة المصارف، ورفض «تأميم الخسائر وخصخصة الأرباح»، لأنّها توصّلت إليه عبر خطة تقنية أفضل أو أرقام أفضل. ولكن كان الخيار اقتصادياً ـــ سياسياً في دول ديموقراطية اجتماعية، وصلت إلى هذا الموقف من الانحياز إلى المجتمع والطبقات العاملة بوجه الرأسمال المالي، عبر الصراع الطبقي الذي حصل منذ عشرات السنوات.
من هنا، فإنّ مواجهة الأزمة اليوم ومواجهة التحالف الطائفي الرأسمالي في لبنان الذي يحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، كما البحث عن بديل، لا يمكن أن يتمّ عبر خطط تقنية فقط، بل عبر آليات سياسية تعيد تنظيم وتصميم الاقتصاد والمجتمع من أجل الأكثرية وليس للقلّة. إنّ الفرصة، الآن، متاحة لفتح جبهة الصراع الطبقي من أجل إلقاء القديم جانباً، وهذا يتطلّب تحويل الانتفاضة إلى معركة سياسية قد تمتدّ حتى الانتخابات المقبلة، لنزع الشرعية عن القوى الطائفية والرأسمال المالي. وهذا يتطلّب جبهة سياسية عريضة يكون الحزب الشيوعي اللبناني، الذي يمثّل التقدّم والديموقراطية والاشتراكية، أساسياً فيها تضع برنامجاً يحمل في طيّاته إرهاصات «معركة الأرقام»، ولكن في أفقه التغيير نحو بناء الاقتصاد والمجتمع الجديدين.

* افتتاحية مجلة «النداء» الصادرة اليوم