لم يسبقْ أن حظي قائد شيوعي عربي (سابق) بتكريم من قِبل اليمين الرجعي العربي كالذي حظي به محسن إبراهيم أخيراً. تسابقت كلّ وسائل إعلام اليمين اللبناني والعربي على إسباغ المراثي والمدائح عليه. سلطة أوسلو اليمينيّة نكّست أعلامها حداداً. وحتى مواقع وإعلام «القوّات اللبنانية» شاركت في التأبين المعنوي له. هذه المفارقة تختصر المسيرة الطويلة لرجل ساهمَ ـــ إيجاباً أو سلباً ـــ في صنع التاريخ اللبناني والمشرقي المعاصر (حتى في اليمن لعب دور المستشار للقيادة هناك، ويرد في كتاب فواز طرابلسي «جنوب اليمن في حكم اليسار» أنّ إبراهيم نصح علي ناصر محمّد بالانفتاح على السعوديّة، ص. 129). مسيرة إبراهيم السياسيّة تعكس الخطّ البياني لصعود وهبوط تيّارات سياسيّة عربيّة من القوميّة العربيّة (المُطالبة بالثأر من إسرائيل) إلى الماركسيّة ـــ اللينينيّة (المُطالبة بحرب التحرير الشعبيّة)، ثم إلى الليبراليّة اليمينيّة (المتصالحة مع الكيانيّة الإسرائيليّة من خلال اتفاق أوسلو المشؤوم).
«النبي المزيّف»، كولاج، 2012 - فرانتز فالكنهاوس وكاسبر كياتش (بولونيا)

لا يمكن اختزال شخص محسن إبراهيم بمحطة واحدة. رافق الرجل الحركة القوميّة العربيّة ثم اليسار العربي منذ الخمسنيّات حتى الثمانينيّات، عندما انكفأ عن العمل السياسي العلني، عائداً إلى العمل السياسي السرّي (إلى جانب وليد جنبلاط و14 آذار، وإلى جانب ياسر عرفات في مرحلة الإعداد لأوسلو). محاسبة أو مراجعة سجلّ إبراهيم، تنقص لو كانت مراجعة لشخص واحد بل هي مراجعة لجيل شبابي عربي، انخرط في العمل القومي العربي، ثم انخرط في العمل اليساري العربي، قبل أن تؤدّي خيبات الحرب الأهليّة والاجتياح الإسرائيلي إلى انهيار بدأ مع منظومة اليسار اللبناني والفلسطيني، ثم اكتمل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. الحكاية التي تروّج في لبنان أنّ اليسار كان صاعداً، لكنّ حزب الله منعه في الستعينيّات، هي كذبة مضحكة، لأنّ الانهيار حصل قبل اجتياح 1982، عندما كانت حركة «أمل» قد بدأت تتمدّد شعبياً في قرى ومدن الجنوب على حساب الحركة الوطنية. والمنافسة بين قوى اليمين والرجعيّة في لبنان (من فؤاد السنيورة إلى كتلة «المستقبل» إلى فارس سعيد ووليد جنبلاط، ووصولاً إلى «القوّات») في مديح إبراهيم، تكاد أن تمحي ماضي طويلاً للرجل في مواقع سياسيّة مناقضة لمواقع هؤلاء. لكن، كما يظهر في مرثيّة توفيق سلطان عنه (وهو كان تقدميّاً اشتراكيّاً قبل أن يُلهمه رفيق الحريري ويُصوِّب مساره، كما صوَّب مسار قطاعٍ كبيرٍ من الكتّاب والمثقّفين والصحافيّين اليساريّين السابقين) في جريدة محمد بن سلمان «الشرق الأوسط»، فإنّ محسن إبراهيم قادَ تجربة العمل الوطني في لبنان منذ تشكيله التنظيمي في عام 1967 عبر جبهة القوى والأحزاب التقدميّة. وبالرغم من أنّ كمال جنبلاط قادَ الحركة الوطنيّة حتى اغتياله، فإنّ إبراهيم كان قائداً مشاركاً معه، كما أنه الوارث الحقيقي لكمال جنبلاط في قيادة الحركة الوطنيّة، لأنّ وليد جنبلاط لم يكن مكترثاً البتّة بمسؤوليّات قيادة الحركة (ولم يحضر اجتماعات المجلس السياسي إلّا لماماً)، وكان موقعه الطائفي (في حزبه ذي الاسم الشديد الالتباس) أهمّ إليه. حمل محسن إبراهيم لقب «الأمين العام التنفيذي» للحركة الوطنيّة، وكان هو صاحب القرار الأوّل فيها، بعد انتقال الحركة تنظيميّاً إلى المبنى في وطى المصيطبة (وبتمويل من القذافي). لكن قرار إبراهيم كان دائماً غير مستقل لأنه رهَنه لياسر عرفات.
المراثي عن إبراهيم شابَها الكثير من المبالغات والفبركات، فقط من أجل تعظيم شأن «اليسار المُلائِم»، واليسار الملائِم ليس سوى يسار سابق يستخدمه اليمين ضد اليسار وضد حركات المقاومة في العالم العربي، من أجل تقويض الفكر والممارسة المقاوِمة. مراثٍ عدّة عن إبراهيم جعلت منه الرجل الذي عرَّف ياسر عرفات على جمال عبد الناصر، فيما من المشكوك فيه أنّ إبراهيم كان يعرف عرفات في ذلك الحين، بحكم موقع الطرفَيْن (كان إبراهيم أقرب إلى تلك الفصائل الفلسطينيّة التي انطلقت من حركة القوميّين العرب). ويقول الصديق كمال خلف الطويل ـــ وهو المرجع في ذلك ـــ إنّ أوّل لقاء بين «فتح» والنظام الناصري، كان في النصف الأوّل من عام 1966، أي قبل اللقاء «المُدبَّر» من إبراهيم، عندما زار وفد من لجنة «فتح» المركزيّة القاهرة والتقى بكمال الدين رفعت. أما اللقاء بين عرفات وعبد الناصر، فقد تمَّ بترتيب من محمد حسنين هيكل في تشرين الأول/ أكتوبر 1967. لكنّ إعلام الرجعيّة الخليجي يريد إبراز حركة مقاوِمة (سابقة)، كي تنافس تجربة حزب الله و«حماس»، لكن ليس هناك من منافسين اليوم (وللأسف، طبعاً، إذ يا حبّذا لو أنّ هناك فصائل يساريّة تمارس المقاومة بدلاً من التعكير على المقاومات غير اليساريّة). يقوم إعلام الرجعيّة بالغرف من مخزون التاريخ المعاصر ورفع شأن حركات يساريّة لم تعُد موجودة، أو أنها تقلّبت وتغيّرت ولم تعد منبوذة من تلك الأنظمة، كي يشهرها بوجه المقاومات الإسلاميّة من منظور العلمانيّة. المفارقة أنّ هذه السلالات الخليجيّة نفسها، كانت تلجأ إلى الخطاب الإسلامي في حربها ضد «الكفّار» في الحركات اليساريّة عندما كانت فاعلة (إلى حدٍّ ما).
وطبعاً، تسابقت المراثي كي تعطي لإبراهيم (ولجورج حاوي) الفضل الأكبر في المقاومة اللبنانيّة وفي تحرير الجنوب، للأسباب عينها التي تقلّل من شأن نصر تمّوز في عام 2006. الهدف، ليس الثناء على المقاومة، بل ذمّها عبر الثناء على مقاومة لم تعد موجودة أصلاً. أي أنّ الذين يستعينون بالماضي يقصدون دفع لبنان دفعاً نحو زمن لم تكن لديه فيه قوّة ردع بوجه إسرائيل. واتّفاق نيسان في عام 1996 (الذي يُسجَّل خطأً رفيق الحريري دوره فيه، برغم أنه لم يخفِ معاداته لمقاومة إسرائيل، منذ أن دخل السياسة اللبنانيّة من باب اتفاقيّة 17 أيّار، مبعوثاً من الملك السعودي)، كان أوّل اعتراف إسرائيلي، منذ عام 1948، بوجود قوّة ردع لبنانيّة. طبعاً، لا يمكن نكران دور منظّمة العمل الشيوعي وفصائل الحركة الوطنيّة ـــ وبدرجات متنوّعة ـــ في قتال الانعزاليّين وفي قتال إسرائيل (وإن كان دور المنظّمة صغيراً بحكم حجمها). لقد سقط لمنظّمة العمل الشيوعي بين عامي 1982 و1987 نحو 26 شهيداً في عمليّات سجّلتها «بيروت المساء» في حينه. في 17 حزيران/ يونيو هاجمت مجموعة من وحدة فضل سرور موقعاً لقوات العميل لحد على تلّة الحقبان قرب ياطر، واعترف العدو بجرح اثنيْن من جنوده (راجع، أمين مصطفى، «المقاومة في لبنان، 1948 ـــ 2000، ص. 350). وأعلنت المنظّمة تنفيذ 29 عمليّة في تشرين الأول/ أكتوبر 1985، و12 عمليّة في عام 1986، ثم 11 عمليّة في عام 1987.
لقد أجمعت قوى اليمين على شكر محسن إبراهيم والتنويه به، لأنه مثل جنبلاط وباقي قادة الحركة الوطنيّة اعتذروا عن أدوارهم وتنصّلوا منها وتنصّلوا ـــ عمليّاً ـــ من شهدائهم: عندما تقول إنّ دور الحركة الوطنيّة كان خطأً بخطأ، فإنك بذلك تُنكر شهادة الذين سقطوا في الحرب دفاعاً عن الشعارات والبرامج التي صاغها إبراهيم وصحبه.
تخلّى محسن إبراهيم، مثل كثير من الشيوعيّين في لبنان عن الماركسيّة وقال: «إنّ التاريخ لم يحكم للماركسيّة كمشروع للتغيير الاجتماعي بالنجاح، بل حكم عليها بالفشل»


وبالرغم من أنّ إبراهيم صمت طيلة السنوات التي تبعت «الطائف» (باستثناء المهمّات التي أوكلها إليه إلياس الهراوي للتواصل مع ياسر عرفات في تونس)، فإنّه نطق في أربعين جورج حاوي في عام 2005 عندما قدّم اعتذاره الشهير بالنيابة عن الحركة الوطنيّة (والتي كان هو مع وليد جنبلاط من المسؤولين عن حلّها مباشرة بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، ممّا أضعف القدرة القتالية المقاومة للحركة: كيف تتوّقع انطلاق المقاومة عندما تُحلّ الجبهة السياسيّة التي كانت تدير العمل السياسي لكلّ القوى التقدميّة؟). وهو اعتذر عن مسألتيْن: استسهال الانخراط في الحرب من قبل الحركة الوطنيّة، ثم تحميل لبنان أعباء الثورة الفلسطينيّة. وهذان الاعتذاران كانا أكبر خدمة قدّمتها الحركة الوطنيّة لقوى الانعزال اللبناني، منذ نهاية الحرب. ما فعله إبراهيم، أنه شرعن السرديّة الكتائبيّة ـــ القواتيّة للحرب، وأفرغ الحركة الوطنيّة (التي أسّسها ثم حلّها) من مشروعيّتها السياسيّة. وسيادة السردية الانعزاليّة للحرب تعود إلى تمنّع القوى اليمينيّة عن تقديم أي اعتذار، ليس فقط عن إشعال واستمرار الحرب (الذي تتحمّل المسؤولية الكبرى عنه) بل لأنها لا تعتذر حتى عن معصيتها الكبرى، أي التحالف الذيلي مع إسرائيل.
لا، كان يمكن لمحسن إبراهيم أن يعتذر، لكن في غير سياق وعن غير مواضيع. وهو يتحمّل المسؤوليّة عن ذلك أكثر من غيره من قادة الحركة الوطنيّة الملتحقين بالحريريّة والفريق السعودي الرجعي، لأنّه كان العقل المُدبّر في مرحلة كمال جنبلاط ومرحلة وليد جنبلاط، وهو الذي أشار عليه بضرورة التحالف مع النظام السوري، بعد اغتيال كمال جنبلاط. ينسى البعض أنّ اليسار كان في حالة عداء شديد مع النظام السوري، بسبب انحيازه إلى قوى «الجبهة اللبنانية» الانعزاليّة، ثم وافق إبراهيم على العداء اليميني (العنصري حتماً) ليس ضد النظام السوري فقط، بل ضدّ كل ما هو سوري في لبنان، ولن يطمس جرائم خطف وقتل مئات عمّال سوريّين بعد اغتيال الحريري، التصنّع المقيت لأزلام النظام السوري على مدى عقود (مثل جنبلاط وأكرم الشهيب والحريريّين) في تأييدهم «الثورة السوريّة» على النظام. وكشف فارس سعيد عن علاقة وثيقة بين إبراهيم وبين «قرنة شهوان» (أي التجمّع الطائفي اليميني الرجعي العنصري)، لا بل أضاف أن إبراهيم كان وراء تسميته أميناً عاماً لـ14 آذار. أي أنّ إبراهيم كان صامتاً أمام الجمهور، ولكنّه كان فاعلاً في تحالفه مع 14 آذار، وقد روى طلال سلمان عن علاقة ربطت بين رفيق الحريري وبين إبراهيم، لكنّها انتهت بقطيعة. كيف لا تكون هناك علاقة وقد أعارَ إبراهيم للحريري ولليمين اللبناني معظم كوادره وأبواقه؟
الاعتذار في السياسة، كما في الحياة الشخصيّة، ليس عيباً. لكن الاعتذار يكون أصعب بكثير عندما يكون عن الأخطاء الحقيقيّة.
أولاً، منظمة العمل والحركة الوطنيّة لم تستسهل الانجرار إلى الحرب أبداً. هي جُرَت إليها جرّاً واستفزازاً من قبل قوى اليمين الانعزالي، الذي كان ينفّذ أوامر خارجيّة (إسرائيليّة وأميركيّة وسعوديّة وشاهنشاهيّة وأردنيّة وغربيّة). من يعُد إلى صحف تلك الفترة من أوائل عام 1975، عندما بدأ استيراد السلاح إلى مرفأ جونية على المكشوف، كان جورج حاوي ومحسن إبراهيم يردّان على تفجير الحرب بالدعوة إلى... الحوار. كيف ومتى استسهلت الحركة الوطنيّة الانجرار إلى الحرب؟ على العكس، كان على إبراهيم أن يعتذر عن تردّده في الذهاب إلى الحرب مبكراً. لو أنّ قادة الحركة الوطنيّة باشروا في الدفاع واستعدّوا للحرب مبكراً (وكان للكتائب جولات مبكرة في عام 1969 وفي عام 1973، وبالتزامن مع اعتداءات إسرائيليّة منسّقة) لكانت الحرب قد انتهت مبكراً، ولكُنّا وفّرنا ضحايا أبرياء ماتوا على يد مجرمي حرب بيروت الشرقية. هذا هو الاعتذار الذي لم يقدّمه إبراهيم. قوات «الكتائب» كادت أن تصل إلى شارع الحمراء والمصرف المركزي، لولا تدخّل قوات المقاومة الفلسطينيّة التي صدّتها. لا، نحن لم نحمّل لبنان أوزار المقاومة الفلسطينية: لولا المقاومة الفلسطينيّة، لكان الحكم الكتائبي تشكّل في عام 1975 وليس في عام 1982، عبر اجتياح شامل للبنان.
ثانياً، لم يشرح، أو يعتذر، محسن إبراهيم عن ولائه الطويل لياسر عرفات. وإرث ياسر عرفات كان كارثياً في لبنان وفي فلسطين. ياسر عرفات في لبنان رفض أن يردّ على كلّ استفزازات الكتائبيّين في عام 1975، وكان ـــ خلافاً لسرديّة «الكتائب» ـــ معارضاً لمشاركة المقاومة في الحرب، لأنّه كان متفرّغاً للعمل الديبلوماسي (الذي أثبتَ فشله، فكان عرفات ـــ كما قال عنه برجنسيكي ـــ فاشلاً في المقاومة العسكريّة وفي الديبلوماسيّة). كان أبو صالح يستغلّ غياب عرفات في أسفاره، كي يسمح لمدفعيّة المقاومة بالمشاركة في الدفاع عن بيروت الغربيّة. لو أنّ عرفات شارك مبكراً في الحرب، لكانت قوات المقاومة قادرة على أن تُفشل المؤامرة في مهدها ـــ والمؤامرة عينها تجسّدت في عام 1982 في طرد المقاومة من لبنان، ثم أدّت إلى استسلامها في أوسلو. وكان عرفات مسؤولاً عن تفريخ عدد هائل من الدكاكين الطائفيّة والإجراميّة (زعران أحياء)، ما ساهم في تحويل بيروت الغربيّة إلى غابة، وهذا ساعد في تمهيد الأرض للاجتياح الإسرائيلي (لم يتحدّث عن ياسر عرفات بصراحة وأمانة كلية، إلّا محمد دلبح في كتابه الشجاع، «ستون عاماً من الخداع»). عن ياسر عرفات هذا يقول محسن إبراهيم: «إنني لن أتزحزح عن رأيي في ياسر عرفات، بصفته واحداً من أشجع وأوعى القادة الوطنيّين العرب، وإنني من خلال معايشتي الحميمة له في هذه الحرب، فهمت جيداً لماذا وضعت الثورة الفلسطينيّة بين يديه مقود سفينتها التي تمخر بحار العرب والعالم وسط أمواج متلاطمة» (محسن إبراهيم، في «الحرب وتجربة الحركة الوطنيّة اللبنانيّة»، ص. 139). أين انتهت سفينة عرفات، لو أنّنا نسأل إبراهيم. واستمرّ إبراهيم في ولائه لعرفات أثناء أوسلو (وكان من القلّة من مستشاري عرفات الذين شاركوا فيها) واستمرّ في مرحلة محمود عبّاس، الذي تخلّى بالكامل عن خيار الكفاح المسلّح الذي أدرك عرفات، وإن متأخراً، أنه سيؤدّي إلى هزيمة كاملة لو أنه تخلّى عنه. وولاء إبراهيم لعرفات أثّر على كل مسلك الحركة الوطنيّة: لأنّ مشروع عرفات في النشر غير المنظّم لقوى المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنيّة في جنوب لبنان، كان لاستغلال هذا الوجود في الاستثمار الديبلوماسي فقط. ولهذا، فإنّ العدوّ استغرق ساعات فقط في اجتياح الجنوب في عام 1982، فيما عصي عليه على مرّ ثلاثة وثلاثين يوماً في حرب تمّوز عام 2006. هل أدرك إبراهيم أنّ عرفات هو الذي فرّط بالقوى الماديّة التي كان يمكن أن تشكّل قوة مقاومة حقيقية ضد إسرائيل؟ كان يأتي من السلاح والمال، ما لم تنله حركة تحرير وطني، لكن أين ذهبت؟ السلاح صادرته إسرائيل ثم وزّعته حسب أوامر أميركيّة على قوى رجعيّة يمينيّة في كل أنحاء العالم، بما فيها قوّات الكونترا في نيكاراغوا.
ثالثاً، لم يقدّم إبراهيم أو أي من قادة الحركة الوطنيّة كشفاً ماليّاً عن واردات ومصاريف الحركة. أذكر في المرة الوحيدة التي التقيتُ فيها إبراهيم (وقد قصدته ـــ بوساطة عائليّة ـــ بغرض طلب مقابلة معه لبحث جامعي، لكنّه ارتأى أن يحيلني إلى فواز طرابلسي الذي كان معروفاً بانفتاحه على الطلّاب وعلى الناس العاديّين، خلافاً لإبراهيم) كان في المبنى الذي اشترته الحركة بمال النظام الليبي. وكان واضحاً لي أنّ المبنى كان أكبر من أن يتّسع لمكاتب الحركة. ثمّ الحديث عن مال القذافي يذكّر: من يعتذر عن تسخير مقاتلي الحركة الوطنيّة (الذين كانوا من المتمرّسين الأشدّاء) وإرسالهم لمعارك القذافي في تشاد، من دون أن يكون هناك اكتراث من هؤلاء القادة لقضيّة تشاد؟ كانت عملية بيع وشراء أو إيجار بالأحرى. هذه كانت تستحق اعتذاراً من قادة الحركة الوطنيّة، ولا تزال خطب جنبلاط وحاوي في وداع المقاتلين موجودة في الأرشيف. وكان كلّ أمين عام لأحزاب الحركة الوطنيّة يتلقّى من ليبيا (بالإضافة إلى ما كان يتلقّاه) مبلغاً مقطوعاً قدره مئة ألف دولار كلّ شهر. وقد حدثت مصادرة لهذا المبلغ من جانب (بعض) الأمناء العامّين، الذين وضعوا المبلغ في حساباتهم الشخصيّة، بدلاً من إيداعها في حسابات التنظيم. يقولون اليوم: الفارق بين المقاومات هو في مال وتسليح إيران، كأنّ الحركة الوطنيّة افتقرت يوماً للمال أو السلاح (وكان يأتيها من عدد كبير من الأنظمة، العربيّة والاشتراكيّة). وعند استعداد «منظّمة التحرير» للرحيل عن بيروت، في صيف عام 1982، تحت ضغط العدوان ودول الغرب وأنظمة الخليج، وتحت ضغط الزعامات الإسلاميّة التقليديّة ومحسن إبراهيم وجورج حاوي، اللذيْن ضغطا على الجبهة الشعبيّة التي كانت ترفض المغادرة (روى الرفيق الراحل ماهر اليماني، في شهادة إلى «الآداب»، 27 كانون الثاني/ يناير 2017 عن ذلك)، تم تسجيل أرصدة وعقارات وأملاك لـ«منظّمة التحرير» باسم قادة الحركة الوطنيّة (وبعض الذين كانوا قريبين من زعامات إسلاميّة تقليديّة بمن فيهم من هم «حريريّون» اليوم). لقد استولى معظم هؤلاء على تلك الأملاك والعقارات، ولم يتخلّوا عنها بالرغم من مطالبات متكرّرة من المنظمة. من يعتذر عن ذلك، ومن يقدّم لجمهور الحركة الوطنيّة كشوفات عن ذلك؟
رابعاً، كما أنّ محسن إبراهيم وكمال جنبلاط وجورج حاوي، أصرّوا على الحوار كردّ على إشعال الحرب الأهليّة من قبل اليمين، ما أعطى أفضليّة وعامل سباق للفريق الآخر في المعارك العسكريّة، فإنّ محسن إبراهيم (الذي استنكر مع جورج حاوي وإنعام رعد اغتيال بشير الجميّل)، تعامل مع تنصيب أمين الجميّل بقبول واضح. لا، إبراهيم قال إنّه ليس في موقع «توجيه أي نقد إلى أيّ من النواب الذين اقترعوا لأمين الجميّل» («الحرب وتجربة الحركة الوطنيّة»، ص. 184). والرجل الذي تقول عنه جريدة الحزب الجنبلاطي، إنه أطلق المقاومة اعتبر أنّ السياق السياسي لمضاعفات ومترتّبات الاجتياح الإسرائيلي «أمر واقع لا بدّ من تقبّل أحكامه». وقد اتخذ محسن إبراهيم موقفاً تفرّد فيه، حتى في داخل المنظمة عندما طالب بإعطاء أمين الجميّل فرصة للحكم (وصف إبراهيم الموقف بأنه «الموقف الخاص المتميّز». واقترح إبراهيم يومها، كما في عام 1975، «المعارضة الديموقراطيّة» في حال ظهرت بوادر مشروع ديكتاتوري فاشي).
تخلّى محسن إبراهيم، مثل كثير من الشيوعيّين في لبنان، عن الماركسيّة، أعلنت منظمة العمل ذلك في عام 2018، وقال إبراهيم: «إنّ التاريخ لم يحكم للماركسيّة، كمشروع للتغيير الاجتماعي، بالنجاح، بل حكم عليها بالفشل» (راجع مقالة صقر أبو فخر عن إبراهيم، في «العربي الجديد»، 5 حزيران/ يونيو 2020). هكذا، يقرّر حزبي لبناني، بقرار قاطع وحاسم، فشل الماركسية، فيما تعجّ مكتبات الغرب، منذ الأزمة الرأسمالية في عام 2008 على الخصوص، بكتب عن إحياء الماركسيّة، وحتى مجلّة «ذي إيكونومست» المحافظة نشرت في عام 2018 مقالة بعنوان «يا حكام العالم... اقرأو كارل ماركس»، واعترفت فيها بأنّ «الاهتمام به لا يزال حيوياً كما كان». لكن قائد منظمة العمل الشيوعي رأى غير ذلك، وهذا حقّه. والذي يتابع بيانات منظّمة العمل وموقعها على الإنترنت، لا يلحظ فارقاً بين توجّهاتها وبين بيانات «سيدة الجبل» (حتى أن المنظّمة التي انطلقت مُطالبة بحرب تحرير شعبية ضد الإمبريالية، باتت تشكو من انكفاء أميركي في المنطقة). لكنّ إبراهيم كان قائداً للمنظّمة، وقائداً أيضاً لجيل من اللبنانيّين آمن بالحركة الوطنية وقاتل من أجل مشروعها. كيف قرّر هكذا أنّ محمود عبّاس بات يشكّل المشروع الوطني الفلسطيني (بعدما كان قد آمن بعبد الناصر وعرفات من بعده)، وأنّ وليد جنبلاط وصحبه باتوا يجسّدون المشروع الوطني اللبناني؟ لم يرَ إبراهيم أنّه مُطالب بشرح التغييرات والتقلّبات في المواقف، خصوصاً الاعتذار الذي كان مهيناً لشهداء الحركة الوطنيّة. لكن لم تُكتب لهؤلاء مراثٍ تبجيليّة في صحف الرجعيّة العربيّة، وهذا لفخرِهم.
* كاتب عربي
(حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)