عانى الصهاينة هزائم سياسية وعسكرية رافقت غزوهم لبنان، عام 1982 وما بعده. اختبروا محاولة للثأر من هذا البلد وشعبه، في عدوان عام 2006، فكانت، أيضاً، هزيمة مدوية جديدة بعد الانسحاب المذِل من العاصمة في أيلول/ سبتمبر عام 1982، ومن كلّ لبنان تقريباً، عام 2000، من دون قيد أو شرط.بيد أنّ حرب عام تموز لعام 2006، لم تكن حرب الصهاينة وحدهم. هي كانت قبل ذلك حرب «المحافظين الجدد»، بزعامة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، حين أخفقت قواته في السيطرة على العراق، وبات النيل من المقاومة في لبنان والسلطة في سوريا سبيلاً إلى تدارك هزيمة شاملة في العراق، وأملاً في إنقاذ «مشروع الشرق الأوسط الجديد». جاهرت وزيرة خارجية أميركا، آنذاك، كوندوليسا رايس بأبوة العدوان، بوقاحة: ومن لبنان تحديداً! فعلت واشنطن كلّ شيء من أجل أن ينتصر المعتدون. لكن حظّ إيهود أولمرت وفريقه لم يكن أفضل من حظّ بيغن وشارون وإيتان... وهُزم بوش، بدوره، شر هزيمة.
بعد انكفاء إدارة الرئيس باراك أوباما عن المنطقة، ضمن مسار أولويات واستخلاصات مختلفة وإخفاقات قديمة وجديدة، تنخرط واشنطن وتل أبيب الآن في بناء خطة يقودها دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو للثأر، من جهة، ولتمرير «صفقة القرن» الهجومية ضد كلّ مصالح وحقوق الشعب الفلسطيني، من جهة ثانية.
يحصل ذلك، بعد تمهيد، ومن ثمّ تداعيات خطيرة وتحوّلات كبيرة في المنطقة. دول عربية عديدة وأساسية ما زالت تعاني من أزمات كبيرة. بعضها غارق بدون قعر في حروب أهلية وإقليمية مدمّرة. التدخّلات العسكرية الخارجية في ذروتها. الانقسام شمل كلّ الميادين وعطّل كل المؤسسات العربية المشتركة... الصراع الإقليمي في ذروته، بأدوات عسكرية وسياسية وبالعصبيات والانقسامات. تركيا، مثلاً، تدير تدخلاً لجيشها في أربع دول عربية وتحاول، عبر بعث توسع استعماري عثماني جديد، تعزيز نفوذها وحضورها في معظم دول الشرق والمغرب العربيين. المذهبية في ذروتها، وهي تستخدم منذ مدة على أوسع نطاق لبناء محاور واستقطابات ولتبرير انعطافات وأولويات تقف على رأسها الأسرة السعودية رازحة تحت عبء تدخلها في حرب اليمن، مبرّرة أوسع انعطافة في سياساتها، وصولاً إلى التحالف مع العدو الصهيوني: إنها فرصة العدو الصهيوني عموماً، ورئيس حكومته اليميني المتطرّف بنيامين نتنياهو خصوصاً، لتحقيق انتصار جوهري يقرّب العدو من حلمه التوسعي في شقَّيه الجغرافي والتطبيعي، والثاني من تجاوز قفص المحكمة ودخول التاريخ الإجرامي الصهيوني من أوسع أبوابه.
تلقى الخطة الأميركية ـــ الإسرائيلية تجاوباً لا يمكن إنكاره أو التقليل من شأنه على المستوى اللبناني


في الساحة اللبنانية، جرى بدأب إعداد المسرح للفصل الجديد من العدوان الأميركي الصهيوني. بعد إنهاك سوريا، رغم العجز عن إسقاط سلطتها وتغيير سياساتها، تجري الآن، من خلال الأزمة الاقتصادية خصوصاً، محاولة إسقاط لبنان. لبنان المطلوب إسقاطه، ليس لبنان الذي يتبنّاه الفريق اليميني التقليدي المرتبط بالسياسات الأميركية والغربية والملتحق بالمركز وبالأولويات السعوديين. المطلوب، أميركياً وإسرائيلياً إسقاط لبنان المقاوم الذي تبلور عبر أربعة عقود من الصراع مع العدو الصهيوني وحماته. المستهدف الآن سلاح المقاومة من ضمن خطة لعزل سوريا وإخراج وإضعاف إيران وتحييد موسكو بالضغط أو بعروض وصفقات...
لن تدفع واشنطن تل أبيب، كما فعلت عام 2006 إلى شنّ حرب ضد لبنان والمقاومة. هذه الحرب ستكون شديدة الكلفة على العدو الصهيوني، هذا إذا لم تُلحق به هزيمة كما حصل قبل 14 عاماً من اليوم! الوسيلة لإسقاط المقاومة هي إغراق لبنان في الحصار والفوضى والانهيار الاقتصادي والصراع... والاقتتال إذا أمكن ذلك. استهداف حزب الله المتصاعد، والمتواصل منذ سنوات، يقع ضمن سياق مثابر لعزله وتحميله مسؤولية الأزمة المخيفة التي يعيشها اللبنانيون. تُحرّك واشنطن وتل أبيب كل أدواتهما الدولية والمحلية السياسية والأمنية والاقتصادية والإعلامية... لهذا الغرض. يقع ضمن ذلك، بين أمور أُخرى: تغيير مهمة قوات «اليونيفيل» لجهة قواعد الاشتباك والوظيفة. الضغط في مسألة ترسيم الحدود البحرية واستخراج النفط. منع الحكومة من تحقيق أيّ إنجاز في مجال التخفيف من الأزمة الاقتصادية والمعيشية. توظيف حكم المحكمة الدولية «الخاصة بلبنان» في 7 أب/ أغسطس المقبل في المعركة إيّاها: عبر توجيه اتهام صريح للمقاومة باغتيال الحريري...
تلقى الخطة الأميركية ـــ الإسرائيلية تجاوباً لا يمكن إنكاره أو التقليل من شأنه على المستوى اللبناني. مشروع «حياد» لبنان الذي بادر البطريرك الماروني إلى الترويج له، قبل أيام، يستجيب واقعياً للضغوط الأميركية ويستهدف إضعاف التمثيل الماروني لرئيس الجمهورية. قوى سياسية تندفع بأقصى الطاقة في تنفيذ «نصيبها» من الخطة. أطراف في السلطة حليفة سياسياً للمقاومة تُراكم هي الأخرى أخطاء في عرقلة أي مسار للتخفيف من الأزمة، ولتحديد المسؤوليات بشأنها، منعاً للمساءلة والمحاسبة. القوى الوطنية شبه غائبة عن التأثير في مسار الأحداث، رغم أنها أكثر المعنيين بهذه المعركة في جانبيها الوطني والاقتصادي الاجتماعي!
لن يفوِّت قادة واشنطن وتل أبيب الفرصة لتحقيق هدف أساسي لمصلحة «صفقة القرن» ومشروعهما للهيمنة على كامل المنطقة، سواءً في الأشهر القليلة المقبلة، أو بعد الانتخابات الأميركية إذا نجح ترامب ولم يسقط نتنياهو في مستنقع فساده.
الصراع مع العدو الصهيوني أثمر في لبنان عبر المقاومة بكل أطرافها السابقة والحالية، إنجازات وطنية ذات طابع قومي أيضاً. صيانة هذه الإنجازات هي مهمة وطنية وقومية، أيضاً، بكل ما في الكلمة من معنى. الخطأ في تحديد الموقف من قِبل الوطنيين لا تبرّره أي خلافات أو تباينات اقتصادية أو سياسية أو فكرية، مهما كانت كبيرة في الظروف العادية!
* كاتب وسياسي لبناني