لم تعد أزمة الدولار، في ظلّ انعكاسها على الاحتياجات الأساسية للسوريين، مجرّد مسألة نقدية. حتى عندما تتعامل معها السلطة على هذا الأساس، عبر أدواتها الخاصّة بتقييد التدفّقات بالدولار، لا تكون الغاية منها حلّ أزمة النقد بقدر ما تعني الحفاظ على سعر صرف لا يرتبط فقط بصعود الدولار وهبوطه. محاولة التحكُّم بالنقد بهذا المعنى (بصرف النظر عن نجاحها من عدمه)، هي أداة لضبط تقلّبات السوق أثناء خضوع الدولار وهو يتدفّق من الخارج إلى الداخل، لحالة العرض والطلب المستمرّة، الأمر الذي ينعكس على احتياجات الناس الأساسية أكثر منه على أيّ شيء آخر. ويتضاعف أثر ذلك، حين يبدو الأمر في ظلّ حالة الخنق التي تتعرّض لها البلاد، وكأنه امتداد ليس فقط للأزمة في لبنان، بل أيضاً لمجمل الأزمات الاقتصادية في الإقليم التي تسبَّبَ بها نظام العقوبات الأميركي.
«تلازُم المسارَين» اقتصادياً
ستستمرّ هذه الحالة لفترة، بصرف النظر مجدّداً عن طبيعة عملية الإنتاج القائمة، أي عن القيمة المضافة التي تُنتَج هنا لمعاودة ربط سعر صرف الليرة بالناتج المحلي، بدلاً من تآكله المطّرد حالياً لمصلحة الريع بالدولار. التدفُّقات الآتية من الخارج على شكل تحويلات مالية من المهاجرين في ألمانيا والسويد وسواهما، كانت قد بدأت منذ عام 2015، ولكنّها لم تتحوّل إلى عنصر جديد في الأزمة القائمة إلا حين انكشف العجز في ميزان المدفوعات في لبنان. وهو ما يؤكّد على «النظرية» التي تقول بأنّ السوق في البلدين هي «واحدة فعلياً»، أقلّه مالياً، على الرغم من الاختلاف في طبيعة النظام الاقتصادي لكلٍّ منهما. تأثير هذا الخلل ومعه نظام العقوبات المتصاعد أميركياً، وصولاً إلى قانون «قيصر» أخيراً، هو الذي جعل الطلب على الدولار يتضاعف مرّات عديدة، وبالتالي هَوَى بسعر العملة الوطنية في البلدين إلى القاع الذي نشهده حالياً. ما يجعل وضع سوريا أفضل نسبياً، هو استمرار التدفّقات بالدولار من الخارج، نظراً إلى طابع الهجرة السورية الحديث، في حين يعاني لبنان من أزمة معاكسة، بدليل السجال الكبير الحاصل حول موضوع التحكّم بالرساميل (الكابيتال كونترول) بين الحكومة والمصارف ومصرف لبنان. الصعوبات التي خلقها قانون «قيصر» في الوصول إلى أسواق المال الدولية، وفي إجراء عمليات التبادل الخاصّة باستيراد المنتجات الأساسية والمواد الأولية اللازمة للصناعة ستُفاقِم من الضغط على الليرة لمصلحة الدولار، وستتسبّب بمشكلات إضافية للسلطة على صعيد الحدّ من تأثير هذا الأخير على الأسعار.

أثَر تفكيك السوق اللبنانية السورية
ما نشهده عملياً، هو أزمة مركّبة ناجمة عن طلب متزايد على الدولار في ظلّ شحِّه المستجد، وخصوصاً بالنسبة إلى سوق إقليمية اعتادت على وفرة المعروض منه، إمّا لإجراء العمليات الاقتصادية المعتادة، أو للتحايل على عقوبات مستجدّة أيضاً من الغرب. الحاجة إلى السوق اللبنانية بهذا المعنى أساسية، لأنها هي التي كانت توفّر الأرضية لحصول تبادلات بالسلع على مستوى ما يحتاج إليه الاقتصاد هنا ككلّ، وهي كذلك التي كانت توطّن الرساميل المتوسّطة والصغيرة، سواءً للفئات التي خرجت من البلاد إثر اشتداد الحرب، أو للجمعيات الأهليّة المعنية بتلبية الاحتياجات الأساسية للسوريين. فقدان هذه «الحلقة الوسيطة»، انعكس على كلّ هذه العمليات سلباً، وتسبَّب في تضييق رقعة الاعتماد، ليس بالضرورة على اقتصادات غير خاضعة للعقوبات، بل أساساً، على الصحن الكبير الذي كانت تمثّله هذه السوق المشتركة، أو الواحدة إذا صحّ التعبير. تفكيك هذه السوق عبر تصعيد الحصار والعقوبات، جعل السلطة هنا تنكفئ على الداخل أكثر، أملاً في وضع آليات تحدّ من حجم الاعتماد المطلق على العملة الصعبة، أو تضبطها على أقلّ تقدير. حصول ذلك في ظلّ حاجتها هي نفسها إلى الريع المتمثّل بالتحويلات الآتية من الخارج، هي المعضلة الفعلية بالنسبة إلى الاقتصاد حالياً. صحيح أنّ الاقتصاد هنا غير مدولر هيكلياً، كما كانت عليه الحال في لبنان سابقاً، ولكن الهياكل التي يقوم عليها تتأثّر بدورها، ليس فقط بتقلّبات السوق الداخلية على وقع الأزمة، بل أيضاً بأثر تصغير صحن الاقتصاد بعد «كسر السوق المشتركة» على مجمل العمليات الاقتصادية التي تجري في الداخل.

أبعاد أُخرى لـ«قانون قيصر»
فلسفة «قانون قيصر» تقوم على مضاعفة هذا الأَثَر، عبر حرمان سوريا، ليس فقط من القناة اللبنانية، بل أيضاً من كلّ القنوات الاقتصادية، في الإقليم والعالم، التي تساعد اقتصادها على البقاء. التصعيد هنا، يتمثّل في منع البلاد من الوصول إلى أيّ سوق تشهد تبادلات مع منتجين وتجّار في الداخل. وهو أمر سيكون من الصعب التحايل عليه، حتى من الدول التي تربطها علاقات جيّدة مع السلطة، مثل الصين وإيران، وهما تقريباً أكثر دولتين تستورد منهما البلاد حاجاتها من المواد الأوّلية اللازمة للصناعة، وتحديداً على صعيد صناعة الأدوية التي لا تزال تعاني من تبعات صعوبة الاستيراد، وما تتسبّب به من فقدان لأدوية أساسية أو تَضاعُف أسعارها. عملية الخنق لا تقتصر على وضع عراقيل جمّة أمام استيراد سلع أساسية، وهو ما يمكن تلافيه بصعوبة شديدة، بل تتعدّاها إلى جعل عملية الإنتاج نفسها مستحيلة. بمعنى، أنها ستغدو مكلِفة على المنتجين الذين سيُضطرون في ضوء منعهم من استيراد المواد الأوّلية اللازمة لصناعاتهم إلى إغلاق منشآتهم، وبالتالي حرمان الاقتصاد هنا ليس فقط من مصادر أساسية للدخل القومي، بل أيضاً من السلع الغذائية الضرورية لحياة السوريين وبقائهم، والتي تتمحور حولها مجمل الصناعات في الداخل حالياً. استثناء التبادلات الخاصّة بالسلع الغذائية والأدوية من بنود القانون، لا يعني الشيء الكثير في ظلّ الآلية التي تجعل من عمليات التبادل مع منتجين أو تجّار سوريين لمصلحة البلاد واقتصادها مستحيلة. السماح شكلياً بوصول هذه السلع أو استثنائها من العقوبات في ظلّ تجريم التعاملات مع المصرف المركزي السوري والمصرف التجاري اللذين يموّلان جزءاً يسيراً من عمليات الاستيراد، هو ليس نفاقاً بالمعنى الفعلي، بقدر ما هو تذاكٍ على الأوساط التي يعتبر الأميركيون أنها مؤثرة دولياً، لجهة النشاطين الحقوقي والإنساني. وهي أوساط غير متمرِّسة كفاية في «الاقتصاد السياسي»، وبالتالي يَسهُل في نظرهم استدراجها إلى هذا الفخّ بمجرّد التفريق الشكلي الذي يضعه نصّ القانون بين السلطة والشعب، وأثَر العقوبات على كلٍّ منهما.

خاتمة
ما ينطوي عليه القانون بهذا المعنى، وبعيداً عن هراء الأميركيين وأتباعهم هو تصغير صحن الاقتصاد هنا، إلى الحدّ الذي يجعله غير قادر، حتّى على تمويل أصغر عملية استيراد أو تبادل تجاري مع الخارج. بعد تفكيك «السوق المشتركة» مع لبنان، وما تسبّب به من انهيار متزامن في سعر العملة لدى البلدين، تتطلّع إدارة دونالد ترامب إلى تعميم هذا النموذج، ليس بالضرورة كما حصل في لبنان، حيث ثمّة أسباب عديدة للانهيار، ولكن على صعيد رفع ثمن أيّ تعامل تجاري أو نقدي أو مالي مع سوريا، ولمصلحة اقتصادها وأكثرية الباقين من فئاتها الاجتماعية المختلفة إلى مستوى المواجهة مع الإدارة ذاتها.

* كاتب سوري