لم تكن المئة دقيقة التي تابع من خلالها الآلاف، المقابلة الحوارية المهمة على قناة «فلسطين اليوم»، مساء يوم السبت 18 تموز/ يوليو 2020، لمناسبة مرور ست سنوات على معركة «البنيان المرصوص»، كافية لتقديم ما يفكّر به ويعمل بهدى تلك الأفكار/ الرؤية الشاملة، القائد زياد النخالة الأمين العام لـ«حركة الجهاد الإسلامي» في فلسطين. فمنذ الدقائق الأولى، لاحظ المهتمّون بالشأن العام الفلسطيني، أنّنا أمام مكاشفة شاملة، عميقة، صريحة، على الرغم من بعض المجاملات التي تفرضها مكانة الرجل ورؤيته الوحدوية. أعادت معركة «البنيان المرصوص» التي تصدّت فيها المقاومة المسلّحة للعدوان الغاشم على قطاع غزة تسليط الضوء مجدّداً على دور «حركة الجهاد الإسلامي» العسكري في المعارك التي خاضتها المقاومة الفلسطينية دفاعاً عن شعبها في القطاع الصامد والمحاصر. لكن اللافت في المواجهة المفتوحة مع العدو، الممتدة لأكثر من خمسين يوماً، أنّ «سرايا القدس» الجناح العسكري للحركة، تحملت ــــــ حتى لا نقول تفرّدت ــــــ العبء الأكبر في المواجهة وفي تسديد رشقات الصواريخ التي ضربت مستعمرات الغزاة، بدءاً من غلاف غزة وحتى مدن «المركز»، ما يدل على تطوّر متسارع في القدرات التصنيعية والتكنولوجية لسلاح الصواريخ، كما قال الأمين العام إنّ «غزة تصنع سلاحها بأيدي أبنائها، ومن التراب، لتشكل به تهديداً استراتيجياً ومهمّاً لمشروع الاحتلال».
حوارات التهدئة
لم يكن جديداً على المتابع والمحلّل لمقابلة الأمين العام، التماس درجة الصدق المجبولة بالنقد والألم والشفافية، وهو يُقدّم السردية الواقعية والتاريخية لجولات الحوار من أجل التهدئة في القاهرة، خصوصاً أنه كان أول مسؤول فلسطيني يصل إلى العاصمة المصرية، وأحد أبرز من ساهم في تلك الحوارات. يتدفّق كلام «أبو طارق» في هذا الجانب بسيولة لافتة، وبعبارات منتقاة ومحسوبة «بميزان الذهب». يروي الأمين العام ما حصل: «بعد أسبوع من العدوان، تقدّمت مصر بمبادرة لوقف إطلاق النار، نحن في قوى المقاومة اعتبرنا أنها غير منصفة للشعب الفلسطيني، ورفضناها لأنها ساوت بين الضحية وبين الجلاد»، مضيفاً أن «المصريين في بداية اللقاءات، قالوا إنهم وسطاء محايدون وليسوا طرفاً في المعركة، الأمر الذي شكّل خيبة أمل للوفد الفلسطيني»، موضحاً أن «المصريين اعتذروا لاحقاً عن هذا التعبير». ونظراً إلى طول مدة الحوارات والاتصالات، والعدد الكبير من مندوبي الفصائل والقوى التي قَدّمت طلباتها كما يقول الأمين العام فإنّ «المصريين تركوا للوفد الفلسطيني حرية صياغة طلبات جديدة للتهدئة بعدما سحبوا مبادرتهم، الأمر الذي فاقم المأزق، بسبب وجود 13 فصيلاً على طاولة الحوار، لكلّ فصيل مطالب وشروط زادت الأمر تعقيداً». وفي استعادته لتلك المرحلة، واستمراراً لنهج الوفاء للأمين العام الراحل الدكتور رمضان شلح، يتحدث «أبو طارق» بكلّ التقدير للدور الكبير الذي قاده الأمين السابق للحركة، ويقول: «حضور الدكتور رمضان كان بارزاً، ولم تنقطع توجيهاته لنا أثناء وجودنا في القاهرة، وكان له دور واضح في التغطية الإعلامية والسياسية بحكم موقفه وقدرته المتميّزة عن الآخرين، وهو صاحب مبادرة باستمرار، ويتابع أدق التفاصيل أثناء الحوارات».

التحالفات والوحدة
أعادت الحركة على لسان أمينها العام، التأكيد على مبادئها وثوابتها تجاه القضايا الداخلية الفلسطينية «العقدة» ـــــــ كما يصفها البعض ـــــــ «ما يهمّنا هو الموقف والبرنامج السياسي ونحن في حركة الجهاد لا ننافس على الموقع السياسي، بل على البرنامج». وحتى لا يكون هناك أيّ مجال للالتباس والتأويل، أكد أنّ «الميثاق القومي الفلسطيني الذي أعلنه المجلس الوطني عام 1964، ما زال البرنامج الذي يجمع الشعب وقواه السياسية». وفي إجابته على سؤال عن اللقاء الذي جمع على شاشة تلفزيون فلسطين جبريل الرجوب من رام الله، وصالح العاروي من بيروت، في مشهدية صادمة للكثيرين بعد القطيعة الطويلة بين الحركتين، يقول: «اللقاء كان جيداً وشكّل خطوة إيجابية»، مضيفاً: «لكن أخشى تطويعه لاحقاً في مكانه غير الصحيح... المؤتمر الصحافي بين الرجوب والعاروري مشهد جيد ورحبنا بهذه الخطوة في سياق محاولة رأب الصدع، لكن ما خلف هذه الصورة هناك أشياء يجب أن تُعالَج... لأنّ هذه الأنشطة والفعاليات المتّفق عليها بين الحركتَين تخدم كلّ طرف منهما، لأنّ كل واحد بيشتغل على أجندته». وأضاف: «ليس بهذه التكتيكات نخوض صراعنا مع العدو». والإشارة إلى الخشية/ المخاوف التي تحدث عنها الأمين العام لا تحتاج إلى أيّ جهد بحثي يقرأ ما بين الكلمات! في ظلّ البحث عن حاجة الساحة السياسية الفلسطينية لمبادرات إنقاذية جديدة، أشار القائد النخالة إلى أنّ «الوضع الفلسطيني مليء بالمبادرات ومبادرة الدكتور رمضان شلح التي رفضتها فتح والسلطة، لا تزال قائمة وصالحة ونحن وحماس ضمن رؤية واحدة وبرنامج سياسي واحد». تلك المبادرة المعروفة بنقاطها العشر، والتي تمّ طرحها في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2016. وهنا، أتساءل ـــــــ كما غيري من المحلّلين ـــــــ لماذا لم يتطرّق الأمين العام إلى مبادرة النقاط الخمس «جسر العبور للمصالحة»، التي طرحها في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، والتي استندت في محاورها الأساسية إلى مبادرة النقاط العشر. في مواجهة العجز عن تحقيق لقاء جامع للقوى والفصائل، يطرح الأستاذ المحاور سؤالاً عن أهمية/ ضرورة تشكيل تكتّل أو إطار فلسطيني ضاغط على أصحاب القرار الرسمي الفلسطيني. يرد القائد النخالة بالقول: «هناك عقبات كثيرة، مثلاً، إلى أيّ مدى يمكن لليسار الفلسطيني أن يلتحم بالبرنامج السياسي لحركة الجهاد الإسلامي». وهنا، تتبادر إلى الذهن أسئلة عدّة: أيّ يسار يقصد الأمين العام؟ في آخر خطوة ائتلافية لقوى يسارية فلسطينية، تمّ الإعلان عن «التجمّع الديموقراطي الفلسطيني» ــــــ وهنا أسجّل تحفّظي على إسباغ التوصيف على بعض تلك القوى التي تقف في منعطفات عديدة ومفصلية متحالفة مع اليمين، بل مُنظرة ومُبرّرة لمواقفه وسياساته ــــــ هذا الائتلاف تبخّر وانفرط عقده بسبب التناقض بين قوى التجمّع في العلاقة بمؤسّسات السلطة في رام الله «مجلس وطني ـــــــ مجلس مركزي ـــــــ الحكومة». إنّ التحالفات والعلاقات التنسيقية بين طرفين أو أكثر، لا تتطلّب أن يلتحم أحد هذه الأطراف ببرنامج الطرف الآخر. إنّ المطلوب أن يتمّ الاتفاق على برنامج سياسي ـــــــ كفاحي مشترك بين الطرفين أو الأطراف. وهنا يمكنني الإشارة إلى جهود ساهمت فيها شخصيات سياسية ناشطة ومستقلّة، قبل سنوات عدّة، وفي محطّات سياسية مفصلية لعقد لقاء ثنائي بين «حركة الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، من أجل تشكيل رافعة ومركز استقطاب سياسي جماعي في مواجهة ثنائية «فتح»/ «حماس». وللأسف، تعثرت تلك المحاولات لأسباب ليس هنا مجال ذكرها.

اتفاق أوسلو ونتائجه
كعادته، تكلّم الأمين العام بمرارة عمّا يسميه البعض «إنجازات» حقّقها اتفاق أوسلو، بينما نتائجه على أرض الواقع، كارثية. يقول: «عندما نبادر بالحلول السياسية التي لا قيمة لها ويعتبرها العدو من منطلق ضعف، فنحن لم نحقّق أي إنجاز، واتفاق أوسلو مثال واضح وصريح، السلطة في تلك المرحلة قبلت باتفاق أوسلو، ووافقت على الوهم، وما زالت تراوح مكانها». وهذا يعيدنا إلى التذكير بما قاله القائد النخالة في حوار مع موقع «فلسطين اليوم»، في 06/11/2016، أُجري معه حول المبادرة التي طرحها الدكتور رمضان عبد الله شلح: «اتفاق أوسلو لعنة كبيرة في تاريخ الشعب الفلسطيني، فهو قسّم الشعب وضيّع الأرض والحقوق». وأضاف: «هذه السلطة ـــــــ كما يؤكّد في حواره التلفزيزني ـــــــ منفتحة على الإسرائيليين ومنغلقة على الفلسطينيين». وأردف قائلاً إنّ «هذا العدو لا يفهم غير لغة القوة، لهذا تكون الحياة موازين قوى وليست مفاوضات. أن تقاتل يعني أن تفرض ميزان قوى على الأرض. عندما لا تجد إسرائيل من يقاتلها سوف تتغوّل على كل الأرض الفلسطينية».
وفي الوقت ذاته، يستنتج بقراءته الدقيقة والمعمّقة، أنّ «السياسة ليست فنّ الممكن، ولكنّها صناعة الممكن»، مضيفاً: «علينا أن نحوّل الممكن إلى فرصة طالما لدينا استعداد للتضحية ووضع الخصم/ العدو في موقف دفاعي... غزة رغم الحصار وقلّة الإمكانيات تصنع سلاحها وتمتلك صواريخ طويلة وقصيرة المدى، وصنعت ذلك من المستحيل والعدم وهي محاصرة». واستناداً إلى هذا الاستنتاج المبني على التجارب الثورية العالمية، والأهم، تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية وحركة التحرّر العربية في مواجهتها الغزاة والاستعمار والاحتلال والهيمنة، بعيداً عن دعاة التنازلات وتلامذة الفكر النيوليبرالي في مدارس ومراكز الأبحاث الغربية الرأسمالية، فإنّ السياسة هي تحضير وتجهيز الشعب، فكرياً ومادياً، ومسرح الأحداث للفعل الثوري والتغيير وليس لتبرير الواقع واستجداء المكاسب.

مركزية خطة الضم في استعمار الوطن
أمسك الأمين العام أثناء حديثه عن خطة الضم، الحلقة الأساسية في مسار الصراع المفتوح مع المُستعمر للوطن، قائلاً: «مركز المشروع الصهيوني قائم على دولة في الضفة الغربية، وما أطلق عليه يهودا والسامرة. ولهذا، يريد العدو المحتل أن يجعل من يافا وتل أبيب وعكا والقدس التي احتلتها إسرائيل مجرّد هوامش»، مضيفاً أنَّ «خطة الضم هي جزء من المخطّط الذي قام عليه في الأصل المشروع الصهيوني، هي ليست جديدة لكن تنفيذها جديد». وإذا كان البعض ما زال يراهن على مبادرات دولية جديدة، فإنّ صفقة نتنياهو ــــــ ترامب «جريمة القرن»، تحمل التكثيف الاستعماري الفاشي للمبادرات التي تتكرّر بأسماء متعدّدة. وهنا، يُحذّر الأمين العام من الرهان على أية مبادرات دولية مُضَلّلة، «بدأنا نتعاطى مع الحراك السياسي الدولي والمبادرات الدولية، ولم يُقدم لنا أيّ مبادرة للحل، بل ما تم تقديمه هو تنازلات، وتكيّفنا مع الوضع، وخضعنا للموقف الإسرائيلي والمزاج الدولي وبادرنا بالتكيّف مع تلك المبادرات، بدون أن يطلب منّا أحد»، واصفاً «طريق المفاوضات إلى ما لا نهاية، بالخيار الظالم للشعب الفلسطيني».

أنظمة التبعية والتطبيع
ركّز الأمين العام نقده للنظام الرسمي العربي، من حيث موقعه في الاصطفاف مع السياسة الغربية ومشاركته في الحروب/ العدوان التي تشنّها بعض تلك الدول برعايةٍ أميركية سافرة في أكثر من ساحة عربية. فـ«الجهد الأساسي لتلك الأنظمة يتّجه إلى التدخّل والاعتداء والتخريب في ليبيا وسوريا واليمن»، كما قال، مضيفاً أنّ «مئات المليارات يتمّ إنفاقها لتدمير تلك الدول، بينما تعجز تلك الأنظمة عن توفير مظلّة أمان مالية 100مليون دولار للسلطة في رام الله. هذه السلطة التي تمتلك رؤية سياسية متطابقة ومتشابهة مع الموقف تجاه مشروع السلام مع النظام الرسمي». وهنا، يستحضر القائد النخالة الوضع المصري كمثال على حالة التردّي العربية: «الآن، مصر العظيمة تعاني من نقص مياه النيل بسبب سد النهضة الذي تبنيه أثيوبيا المدعومة من العدو الصهيوني وبعض النُظم العربية، إنهم يهددونها بالعطش». لهذا، يضيف أنّ «استعادة مصر لدورها العربي المركزي سيستعيد مياه النيل... والموقف العربي الموحّد من إسرائيل سيعيد مياه النيل ويعيد وحدة ليبيا ويعيد الاستقرار لسوريا». ولهذا، يؤكد «ضرورة إحداث مقاربة جديدة في الوضع العربي والإقليمي».
لا يتردّد النخالة في انتقاد الدول العربية على عدم توفير شبكة أمان مالية للسلطة الفلسطينية


على الرغم من أنّ الدقائق الأخيرة كانت المجال الذي تبقّى للحديث عن التطبيع. فقد استطاع الأمين العام أن يضع السكّين في الجرح، قائلاً: «الفلسطينيون ــــــ يقصد سلطة رام الله ــــــ بضعفهم وسياساتهم، هم من وفّر الغطاء والمبرّر لذهاب بعض النظام الرسمي العربي للتطبيع. المُطبع الإماراتي سيقول: أنتم يا فلسطينيون عملتم اتفاق أوسلو والتنسيق الأمني وأبو مازن يستقبل صباحاً ومساءً مسؤولين إسرائيليين ومنهم رئيس الموساد... فلماذا تعتبون علينا؟ ما مشكلتنا نحن مع الإسرائيليين؟». لهذا، يؤكد القائد النخالة أنّ «الفلسطينيين هم القادرون على إعادة الأمور إلى نصابها وطبيعتها».

خاتمة
يمكننا الخروج باستنتاجات عدّة، بعد المتابعة الدقيقة لهذه المقابلة المهمّة، والتي أدارها بجدارة واقتدار الإعلامي والكاتب الأستاذ نافذ أبو حسنة والتي تفرّدت بها قناة «فلسطين اليوم»، بما أتاح لشعبنا أن يسمع تحليلاً «خارج المألوف» على الهواء مباشرة. لقد وجد المُشاهد نفسه أمام مصطلحات وتعريفات جديدة اقتحم بها «أبو طارق» الساحة السياسية، وفرض داخل المشهد الفلسطيني «المتعثّر والمربك» نقاشات حامية لقضايا كان يعتبرها البعض «تابو». وللتدليل على ذلك، ردّه على سؤال عن «منظمة التحرير»، باعتبارها «كياناً سياسياً» جامعاً، يمكن أن يكون في رأس جدول أي حوار وطني مُرتقب. يجيب الأمين العام، بأنّ «المنظمة عنوانٌ اعترف به العالم وليس كياناً سياسياً. عندما تنازلت المنظمة عن 78% من فلسطين واعترفت بإسرائيل، اعترف بها العالم». في هذا التعريف الجديد للمنظمة، يعيد الأمين العام من جديد فتح النقاش لقضايا يتوقّف على حسمها إعادة ترتيب البيت الفلسطيني. ولهذا، لم يتردّد الأمين العام في التأكيد المتكرّر أنّنا بحاجة «لأن نقتنع بأنّ لنا عدواً واحداً ونحن شعب واحد ويجب أن نقاوم هذا الاحتلال، حينها يمكن أن نجلس سويّة». والسؤال الذي تكرّره الجماهير في كل يوم: هل يستوي من يقبض على جمر القضية والسلاح والشهادة مع من يتنازل عن 78% من الوطن ويعتبر المستعمر المحتل جاراً، ويُنسّق مع جيش العدو لاعتقال المقاومين ويركض نحو الوهم؟ فهل تسمع تلك الجماهير قريباً جواباً، وترى عملاً ينقلها من مقاعد المتفرّجين إلى ساحل الفعل المباشر.

* كاتب فلسطيني