يكمن التشابه الأكبر بين الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطق التأسيسي ذاته لهذه الدول، كدول استعمارية استيطانية، إذ إن الرأسمالية الإمبريالية، والتي تُعدّ القوة الرئيسَة الدافعة لمشروع الاستعمار الاستيطاني، هي بطبيعتها عنصرية، ونظام مبني على التمييز العنصري. فمع إنشاء الدولة، يتهيكل رأس المال ويتمأسس كقوة مبنية على استغلال الأيدي العاملة الرخيصة، أو حتى من الرقيق. بمعنى آخر، عالمية الرأسمال المتوحّش / الإمبريالي، وعنصريته، هي أوجه تشابه عامة لجميع كيانات الاستعمار الاستيطاني. ومع ذلك، تبقى هناك فوارق وعلامات مميّزة لكلّ كيان، لكونه حالة تاريخية وثقافية محدّدة.من دون الخوض في تفاصيل كثيرة، من الضروري الإشارة إلى أنّ إقامة دولة الاستعمار الاستيطاني، سواء كانت الولايات المتحدة أو كندا أو إسرائيل على سبيل المثال لا الحصر، تستلزم أولاً القضاء على السكان الأصليين. في حالة كلّ من الولايات المتحدة وكندا مثلاً، بدأ الاستعمار الاستيطاني بإزالة الشعوب الأصلية: عملية مستمرّة تنطوي على الإبادة الجماعية / المحو والاستيلاء على أراضي الشعوب الأصلية من قبل المستعمرين الأوروبيين البيض. في هذه العملية، بعد سرقة مساحات شاسعة من الأراضي، ظهرت الحاجة الماسة إلى أيدي عاملة غفيرة، وكان لهذه الحاجة أن استجلبت أعداداً كبيرة من الأفريقيين. ومن هنا، جرى استعباد الشعوب الأفريقية واستخدامها كرقٍّ. ففي حين أتاحت عمليات الإبادة الجماعية للسكان الأصليين، إقامة الدولة الاستعمارية، كفلت العبودية واستعمال الرقيق نمو الإمبريالية الأميركية. استجلبت الولايات المتحدة الأفارقة كعبيد، وتمّ تقييدهم على شكل رقيق، إذ قُتل العديد في هذه العملية، وتمّ بيع الباقين في سوق الرق. ومنذ ذلك الوقت، استمر التمييز العرقي ضد هؤلاء السكان لمئات السنين وحتى يومنا هذا.

أنكل scam» (العم نصّاب، لعب على «العم سام») اسمعوا أقواله ولا تفعلوا أفعاله - شيبارد فيري، 2006 - الولايات المتحدة

إن العنصرية ضد الأميركيين من أصل أفريقي وغيرهم من السكان الملوّنين، عملية مستمرة. لا بدّ هنا أن نستذكر قانون «جيم كرو» والمعروف بـ«العزل والتساوي»، وكذلك «التعديل الثالث عشر» وغيرها من القوانين العنصرية، التي
على الرغم من أنها أُلغيت قانونياً، إلا أنّ روحها وممارساتها لا تزال تعيش حتى اليوم في شكل صناعة السجون المركّبة، والتي في غالبيّتها من السكان السود ومجموعات أخرى مضطهدة عرقيّاً. يمكن لدولة الاستعمار أن تغيّر القوانين أو تلغيها، لكن تبعاتها وروحها تبقى حاضرة. بعبارة أخرى، من غير المحتمل أن تختفي الطبيعة البنيوية للعرق والعنصرية مع التغييرات في النظام القضائي. فبالإضافة إلى القوانين السابقة، جرت إضافة قانون جديد، «قانون الضربات الثلاث» ــــــ تسمية مستعارة من لعبة البيسبول الأميركية. ففي حالة تعرّض المتّهم لاعتقالَين سابقَين، وبغضّ النظر عن شكل أو مضمون التهمة أو براءة أو عدم براءة المتّهم، يُلقى بالأخير في السجن المؤبد.
تنساب العنصرية عميقاً في عروق وعقلية التفوّق لدى المستعمِر الأبيض. قد يرغب المستعمِر في أن يرى نفسه وأن ينظر إليه الآخرون على أنه «ديمقراطي» و«حر»، وما إلى ذلك، لكنّه يتجاهل أنّ ما أنتجه ومارسه وعزّزه من اضطهاد عرقي، وعبودية واستغلال، سيظلّ حياً طالما بقي نظامه، أي النظام الاستعماري الاستيطاني، على قيد الحياة. العنصرية الرأسمالية والاستعمار، كما يقول آشيل مبيمبي، المدافع عن الحقوق الفلسطينية، يشبهان الفيروس: إنهما يتمدّدان وينتشران.
الصهيونية هي أحد هذه الفيروسات. هي تختلف عن المشاريع الكولونيالية البيضاء، ليس لأنها غير بيضاء أو ليست أوروبية الأصل، ولا لأنّها ليست حركة مستعمرة واستيطانية. يتميّز الاستعمار الصهيوني بأنه يستخدم أيديولوجيا معيّنة، وهي اليهودية، كخداع ودرع سياسية لمشروعه الاستعماري الاستيطاني. لا يمكن لأحد أن يتجاهل مصائب المحرقة التي ارتكبها الأوروبيون ـــــــ الهولوكوست ــــــــ ولكن هذا لا ينبغي أن يؤدّي بأي حال من الأحوال إلى استخدام المحرقة كمبرّر للقضاء على الشعب الفلسطيني وإخفائه قصراً. هذا لا يجب أن يبرّر الاستخدام الصهيوني للقوة الوحشية في طرد وتشريد أكثر من ٨٠٪ من الشعب الفلسطيني من منازلهم وأراضيهم وأماكنهم التاريخية والثقافية. منذ البداية، كان المشروع الاستعماري الصهيوني، والذي يهدف إلى محو الفلسطينيين الأصليين، واستبدالهم باليهود من جميع أنحاء العالم، يعمل نحو هدف أكبر: الاختباء وراء الفظائع الأوروبية ضد اليهود، ما يجعل اليهودية أقرب إلى الصهيونية بل وقرينة الصهيونية، ومن هنا أتت الحاجة الصهيونية، بداية، إلى «دولة يهودية في فلسطين»، وبعد ما يزيد على سبعين سنة، إلى قانون يهودية الدولة. إن مساواة الصهيونية باليهودية، هي محاولة متجدّدة للخلط بين اليهودية والصهيونية، وبالتالي نعت معاداة الصهيونية بمعاداة اليهودية ومعاداة السامية... محاولات لإسكات وكمّ الأفواه المنادية بالحقوق الفلسطينية، والمنتقدة للمشروع الصهيوني ودولة الاحتلال.
إذاً، لم تختفِ روح «قانون جيم كرو»، كما لم يختفِ الواقع المنحرف لـ«العزل والتساوي»، أو بالأحرى المعزولين اجتماعياً والمضطهدين عرقياً، عند إلغاء القانون. فكما تجادل ميشيل ألكسندر، لا يزال الاضطهاد العرقي يؤرق حياتنا اليومية وبالذات في صناعة السجون المركّبة Prison Industrial Complex.
في الواقع، طبّقت الدولة الصهيونية سياسات وممارسات مماثلة لنظيرتها الأميركية والمبنية على الفصل العرقي، منذ اليوم الأول لقيامها. القلّة القليلة من الفلسطينيين، الذين بقوا في أرضهم بعد نكبة عام 1948، تمّ إخضاعهم للحكم العسكري، حتى عام 1966، كما كانوا ممنوعين من مغادرة قراهم أو بلداتهم من دون تصريح من الحاكم العسكري. هؤلاء الذين تعرّفهم الدولة الصهيونية بالقطاع العربي، كانوا ولا يزالون مستبعدين (معزولين) إلى حدّ كبير من الاقتصاد الإسرائيلي السائد. لقد بقي هذا القطاع غير متطوّر، ينقصه التمويل، يعاني من ارتفاع معدّلات الفقر والبطالة، يقبع تحت ظروف صحية سيئة ويعاني سوء التمكّن والحصول على التعليم والخدمات الاجتماعية، بالتساوي مع المواطن اليهودي. منذ عام 1967، وبحسب مركز «عدالة» الفلسطيني، أصدرت دولة الاحتلال 65 قانوناً عنصرياً تميّز ضد المواطنين الفلسطينيين وفلسطينيي الأراضي المحتلّة. ومنذ ذلك الحين، وحتى يومنا هذا، تمّ اعتقال مئات الآلاف من الفلسطينيين لأسباب سياسية مناهضة للحتلال.
إنّ السجن التعسّفي والمستمر، والذي يمارس ضد المستعمر ـــــــ بفتح الميم ـــــــ، ضد المحتلّ الفلسطيني، وكذلك ضد الأفريقي الأميركي، لهوَ نقطة مقارنة مهمة بين الكيانين. في كلتا الحالتين، فإنّ الحبس بحدّ ذاته، عملٌ سياسيٌّ في خدمة الدولة الكولونيالية. لا بدّ من التذكير هنا، أنّ الدولتين هما دولة بوليسية ودولة عسكر. كلتاهما يمكن أن تغزوا وتقصفا بلداناً، تنتهكا القوانين الدولية وتقتلا الناس، لمجرّد أنهما تملكان القوة وتستطيعان، بينما تقف بقية دول العالم عاجزة عن فعل أي شيء، تراقب عن بعد. في الولايات المتحدة، حوّلت خصخصة السجون وجعلها صناعة مربحة، السجن إلى مصدر ربح فاحش يدرّ القيمة المضافة لرأس المال المتوحّش أساساً، إذ تستخدم مصلحة السجون الأميركية مئات آلاف، بل ملايين السجناء السود وغيرهم من الأقليات، بالذات الهاربين من أميركا اللاتينية ـــــــ اللاتينو ـــــــ كرقيقٍ يعملون بأبخس الأجور، ولا يستطيعون الانعتاق من هذا الوضع. في الدولة الصهيونية، يُختطف الأسرى السياسيون الفلسطينيون أساساً من الأراضي المحتلّة، ويُجلبون بواسطة جيش الاحتلال ويوضعون في سجونه ـــــــ أعمال مخالفة للقوانين الدولية ـــ إضافة إلى أساليب أخرى للقمع والسيطرة والإخفاء القسري للسكّان الأصليين تحت الاحتلال... تظهر المعادلة هنا على النحو التالي: يقوم السود والمجتمعات المضطهدة عرقياً بإعادة إنتاج رأس المال الأميركي، ويتمّ تقديم الأخير على شكل هبة 3 ـــــــ 4 مليارات دولار سنوياً لدولة الاحتلال، بينما الأخيرة بدورها تحمي المصالح الإمبريالية الأميركية في الشرق الأوسط.
إنّ التفاوت المبني على العرق (أي بين اليهود وبالذات الغربيين منهم، وبين الفلسطينيين العرب) في ما يتعلق بقتل وموت الفلسطينيين، وخصوصاً في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، والتفاوت في فقرهم، وفي حصولهم على الخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحّية، في جميع أنحاء فلسطين المحتلّة، إلى جانب اعتقالهم العشوائي والممنهج، على سبيل المثال لا الحصر، كلّها ممارسات قابلة للمقارنة، إن لم تكن مماثلة لوضع الأفارقة والسود في الولايات المتحدة، وهذه التفاوتات نجدها، كذلك، في مقاربتنا لوضع السكّان الأصليين في دول الاستعمار الاستيطاني، كندا مثلاً.
لقد أصبح الفصل العنصري، الذي يميّز سياسات الدولة الصهيونية الاستبعادية للفلسطينيين الأصليين، أكثر وضوحاً بعد احتلال عام 1967، ومعاملتها الوحشية للفلسطينيين في هذه المناطق. نحن على دراية بمدى الضغط والحصار والخنق التي يعاني منها الفلسطينيون في الأراضي المحتلّة، وخصوصاً في قطاع غزّة المحاصر، جوياً وبرياً وبحرياً. هذا الوضع هو ما دفع خبيرَي الفصل العنصري، نيلسون مانديلا والأسقف ديزموند توتو، إلى الإعلان أنّ الفصل العنصري الإسرائيلي أسوأ بكثير من ذلك في جنوب أفريقيا. فبينما اتّبع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا منطق الشمول والاستغلال، فإنّ إسرائيل التي كانت تسعى دائماً إلى اختفاء الفلسطينيين، استخدمت منطق الاستبعاد والقمع، وأما منطق الاستغلال، فقد استُعمل فقط عند الحاجة. يظهر هذا جلياً في الحملات المستمرّة لاستجلاب وتشجيع المهاجرين / المستوطنين اليهود وغير اليهود، لإيجاد بديل أو حتى للاستغناء عن الأيدي العاملة للسكان الأصليين.
منذ نشوء الدولة، أدرك المستعمرون اليهود الأوروبيون أنّهم لا يستطيعون الاعتماد على أنفسهم في تشكيل الدولة وبناء الجيش والاقتصاد والبلد، وكذلك العمل على الأرض بأنفسهم ولوحدهم، كما أدركوا أنّه لا يمكنهم محو واستبعاد الفلسطينيين، من دون استبدالهم بمهاجرين / مستوطنين لتسوية الأرض وتوفير قوة عمل رخيصة بديلة. ومن هنا، كانت سياسات دولة الاحتلال في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، مبنية على استيراد مئات الآلاف من اليهود العرب / الشرقيين. كتابي «نساء في إسرائيل»، يسلّط الضوء على المعاملة القمعية والعنصرية لهذه الدولة، ليس ضد سكّان الأرض الأصليين فحسب، بل كذلك ضدّ اليهود العرب، حيث يمكن الإسهاب في وصف الظروف المعيشية غير الإنسانية التي وُضعوا فيها لعقود عدّة. لا يسعنا، هنا، إيفاء هذا الموضوع حقه، ولكن يكفي القول إنّ الصهيونية هي مشروع عنصري استعماري استيطاني.
لم يعد خافياً على حركات التغيير العالمية مدى عنصرية الصهيونية ودولتها القمعية، وهذا جلي في الحركاتِ المؤازِرة لحقوق الشعب الفلسطيني والمناهضة للصهيونية، مثل JVP (الصوت اليهودي للسلام) وIJV (الصوت اليهودي المستقل). وهاتان مجموعتان من اليهود في أميركا وكندا، تعملان بلا كلل لإعلاء الصوت والحق الفلسطيني. إلى هذه الحركات، يُضاف «التجمّع العالمي ضدّ العنصرية»، «ليس باسمي»، وما إلى ذلك. التضامن العالمي مع «حياة السود مهمة»، يضفي مصداقية وقيمة مضافة للتضامن العالمي مع الفلسطينيين. إذ إن الكثير من مؤيدي هذا الحراك يؤيدون القضية الفلسطينية كذلك.
بما أنّ مقتل جورج فلويد أيقظ العالم فلا بدّ لهذه الصحوة أن تتوسّع لتشمل حاجة الفلسطينيين إلى التنفّس


لا بدّ من التأكيد، مرة أخرى، أنّ جميع الفلسطينيين في الكيان المحتل (٤٨و ٦٧) هم مستعمَرون، محتلّون ومضطهَدون. علاوة على ذلك، فإنّ عدم المساواة المبنية على التفضيل العرقي، هو سمة من سمات المجتمع الإسرائيلي حتى بين اليهود أنفسهم، كما سبق وأسلفنا. وأخيراً، لا بدّ من التذكير بقرار الأمم المتحدة عام ١٩٧٠، والذي أقرّ بأنّ الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية. فبالرغم من إشكالية هذا القرار، والذي أُلغي عام ١٩٩١ نتيجة الضغوط الأميركية والإسرائيلية والقبول الفلسطيني كشرط للانضمام إلى «معاهدة أوسلو»، إلّا أنّ الروح خلف وقوف معظم دول العالم مع عدالة القضية الفلسطينية، لن تمحوها السنون.

في الخاتمة
صحيح أنّ الاستعمار الاستيطاني والاضطهاد العرقي والعنصرية، هي قضايا لها ميزات تاريخية ومحدّدة في كلّ بلد، إلّا أنّها وكما رأس المال والاستعمار والإمبريالية، تتشارك في كونها سمات عالمية كذلك. لا يجب أن تؤخذ قضية الخصوصية على أنها تعني التفرّد، ولا يجب لمصطلح الخصوصية أن يستعمل لطمس إمكانات الناس وفاعليتهم ونضالاتهم ضد القهر والطغيان. إنّ أشكال القمع المختلفة، هي نتاج رأس المال العنصري المعولم والاستعمار الاستيطاني ــــــ هياكل القمع بما في ذلك الدولة ورأس المال والسلطة تعمل جنباً إلى جنب. وبالتالي، فإنّ القوى العاملة على تفكيكها لن تكون ممكنة ولا ناجعة، إلّا إذا ناضلت على الصعيد العالمي، جنباً إلى جنب، وليست منفردة وعلى المستوى المحلّي فقط. إنّ نجاح الكفاح الفلسطيني ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وضد دولة البوليس والعسكرة، يمكن تحقيقه بنجاعة أكبر عندما يتمّ خوضه كجزء من النضال العالمي ضد العنصرية والقمع والاستعمار الاستيطاني. التضامن بين الأميركيين من أصل أفريقي (على وجه التحديد النمور السود)، وحركة المقاومة الفلسطينية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، لا يزال يتردد صداه اليوم في النهضة العالمية ضد العنصرية، وبالذات في حركة «حياة السود مهمّة». هذا الحراك العالمي يتجلّى أيضاً، في تصاعد التأييد لحقوق الفلسطينيين من قبل السكان الأصليين في كندا وأميركا وتعاظم التأييد لحملة المقاطعة الفلسطينية. ومن هنا، لا بدّ لنا كشعب مقاوم أن نضم صوتنا إلى أصوات الشعوب الأصلية والسود في المطالبة بالعدالة والتخلّص من الاستعمار والإمبريالية.
كل فلسطيني حي في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، في دولة الاستعمار الاستيطاني، في دولة العسكر، هو جورج فلويد. وبما أنّ مقتل جورج فلويد أيقظ العالم، فلا بدّ لهذه الصحوة أن تتوسّع لتشمل حاجة الفلسطينيين إلى التنفّس.

* أستاذة علم الاجتماع في جامعة كارلتون ــــــ كندا