يشير تاريخ الحضارات والشعوب إلى أن ما من ازدهار اقتصادي أو إنجاز علمي أو ظفر عسكري أو حسن تدبير سياسي لمجموعة بشرية، إلا وكان نتيجة لإفادة هذه المجموعة من تجاربه وتجارب مجموعات أخرى وتطوير الإنجازات السابقة في سبيل مزيد من التقدّم والتطوّر.
وبناء على هذه القاعدة العامة، قد يجوز للبنانيين الأخذ بتجربتهم في الستينيات أو تجربة سويسرا في تحويل انخراط مجموعاتها الثقافية في الصراعات الأوروبية المجاورة، مرتزقة في الخارج حيناً ومتحاربين في الداخل أحياناً، إلى سلام ووفاق وتسامح متبادل. وربما يكون ما يعني اللبنانيين اليوم من هذه التجربة، هو العامل الحاسم الأخير في النهضة السويسرية، أي الموقف الشجاع الذي أخذته الميليشيات الليبرالية (الألمانية) بقيادة الجنرال غيوم - هنري دفور بعد انتصارها في الحرب الأهليّة على المحافظين عام 1847، بتضمين التسوية التي أعقبت الحرب ما يزيل هواجس المحافظين في نظام الحكم وتشكيل الجيش، إضافة إلى تثبيت الحياد السويسري.
مناسبة هذه الدعوة للاحتذاء بالجنرال دفور، اتجاه حزب الله إلى حسم آخر معاركه الاستراتيجية في المناطق السوريّة القريبة من شمال شرقي لبنان ودعوة البعض إلى ترجمة ذلك تشدداً في السياسة الداخليّة، في زمن يواجه فيه لبنان رزمة من الاستحقاقات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، التي يقتضي التصدّي لها الحد الأدنى من شروط الاستقرار والابتعاد عن الصراع المذهبي الذي يلهب المنطقة، وهو ما توافقت عليه القوى اللبنانية في جلسة الحوار الوطني في الحادي عشر من حزيران 2012 التي أفرزت «إعلان بعبدا». وقد كان البندان الثاني عشر والثالث عشر الأكثر تعبيراً عن هاجس صون الاستقرار، إذ دعيا حرفيّاً إلى «تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليميّة والدوليّة وتجنيبه الانعكاسات السلبيّة للتوتّرات والأزمات الإقليميّة، وذلك حرصاً على مصلحته العليا ووحدته الوطنيّة وسلمه الأهلي، ما عدا ما يتعلق بواجب التزام قرارات الشرعيّة الدوليّة والإجماع العربي والقضيّة الفلسطينيّة المحقّة، بما في ذلك حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم» – وقد كان من الأجدى في هذا البند اعتماد الصراعات العربية والإسلامية بدلاً من الصراعات الإقليمية لمزيد من الدقة - والحرص على «ضبط الأوضاع على طول الحدود اللبنانيّة - السوريّة وعدم السماح بإقامة منطقة عازلة في لبنان وباستعمال لبنان مقرّاً أو ممراً أو منطلقاً لتهريب السلاح والمسلحين».

قد يجوز للبنانيين الأخذ بتجربتهم في الستينيات أو تجربة سويسرا

وليس من المبالغة القول إن الإعلان حظي بالتوافق في حينها. فبالعودة إلى الظروف المواكبة لجلسة الحوار في حينها، كانت القوى الممثلة للغالبية السنية هي المعنية بالانخراط العملاني في إمداد المعارضين السوريين من البوابتين اللبنانية والتركيّة، وكان إعلان عكّار منطقة عسكريّة وتشديد رقابة حواجز الجيش اللبناني عند تخوم وادي خالد وضبط مرفأ طرابلس، مطلباً لحلفاء النظام السوري في حكومة الرئيس الميقاتي بعد ضبط باخرة «لطف الله 2» ومقتل الشيخ عبد الواحد في نيسان وأيار عام 2012، في وقت عارض ذلك «وسطيّو» الحكومة مراعاة للجوّ السنّي العام. لذلك كلّه، أتت موافقة تيار المستقبل على التحييد وضبط الحدود المذكورة آنفاً خجولة، بعكس ما أبداه ممثلو الثنائي الشيعي في طاولة الحوار من موافقة غير مشروطة على نص الإعلان الذي شاركت أصلاً في وضع أفكاره الأوّلية شخصية شيعية مقرّبة من حزب الله، وتولّى الرئيس نبيه برّي بعدها مباركة صدوره.
ولم تنقلب الأدوار بين مؤيدي الإعلان ورافضيه حتى الفصل الأخير من عام 2012، حين اضطرّ حزب الله إلى دخول الحرب السوريّة بثقله، في سبيل إقفال الخطوط اللبنانية لإمداد المعارضة بالسلاح وإعادة الكفّة لصالح النظام في محور دمشق – حمص، بعدما نجح المعارضون السوريون في إسقاط معظم الريف في صيف 2012 بالاستناد إلى تلك الخطوط.
أما اليوم، وبعد حسم حزب الله المعركة في يبرود وتوجّهه إلى إزالة الخطر نهائياً من خاصرته الشرقيّة، وإخراج لبنان من المحور الداعم عملانياً للمعارضة السورية، بسيطرته على القصير والقلمون الشمالي واستكمال إسقاط ريف تلكلخ، ما فصل مرفأ طرابلس عن العمق السوري، وبعدما بات ضبط الجيش اللبناني للحدود اللبنانية - السوريّة مطلباً جامعاً، ألم يحن الوقت لموقف شجاع يتخذه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، بما يشبه موقف الجنرال السويسري دفور، بالاكتفاء بما يعني لبنان من الإنجازات العسكريّة للحزب في سوريا، وإعلان وقف العمليات العسكريّة لحزب الله في الأراضي السوريّة - مع العلم أن كلاً من حزب الله وتيار المستقبل لا يستطيعان منع قتال مسلّحين على مستوى فردي في سوريا ولا يتحمّلان المسؤولية السياسية عن ذلك. ويكون الحزب بهذا الأمر قد نفّذ ما نص عليه البندان الثاني عشر والثالث عشر في «إعلان بعبدا» وأجبر الآخرين على تنفيذه، وأمّن الجو والاستقرار اللازمين للبحث بهدوء في كيفية مواجهة الاستحقاقات التي يواجهها لبنان، وتطوير آلية المشاركة في نظامه السياسي، وتحصين إمكانات لبنان في الدفاع عن نفسه في وجه الاعتداءات الإسرائيلية.
* باحث لبناني