استند الحريري إلى توافق أميركي ــ سعودي ــ سوري في «اتفاق الطائف» وإلى مناخات تسوية للصراع العربي ــ الإسرائيلي مع «مؤتمر مدريد»
زادت هذه الأهمية البيروتية مع الفورة الاقتصادية الخليجية، مع ارتفاع أسعار النفط بعد حرب عام 1973. في النصف الأول من السبعينيات، كانت بيروت العاصمة المالية للمنطقة. إذا أراد المرء تلخيص بيروت، بين عامي 1887 و1975، كمدينة من حيث دورها الاقتصادي، فإنّ هذا الدور لم يأتِ من النطاق الجغرافي اللبناني المُعلَن مع غورو، عام 1920، بل من دورها بالنسبة إلى ظهيرها البري السوري أولاً، كمرفأ ثم كمركز استثماري في الستينيات، أخذ أشكالاً مصرفية أو بيوتات لتجارة الذهب وصياغته، وبعد ذلك أوائل السبعينيات، كمصرف ومصيَف للخليجيين. ترافق هذا ـــــــ وخصوصاً بعد انهيار الصحافة السورية، عام 1958، حيث كان أحمد عسة في الخمسينيات في «الرأي العام»، أهم من غسان تويني في «النهار»، وكامل مروة في «الحياة» ـــــــ مع تحوّل بيروت في الستينيات، إلى عاصمة للصحافة العربية، وعاصمة لدور النشر العربية. على الأرجح، أنّ رفيق الحريري، بين عامي 1992 و2004، كان يفكّر في استعادة بيروت كعاصمة مالية للمنطقة بعد حطام الحرب الأهلية اللبنانية، 1975 ــــــ 1990. استند الحريري إلى توافق أميركي ــــــ سعودي ــــــ سوري، في «اتفاق الطائف» عام 1989، وإلى مناخات تسوية للصراع العربي ــــــ الإسرائيلي مع «مؤتمر مدريد»، عام 1991. كان يفكّر في حلم الإسرائيلي في أن يذهب بالسيارة أو القطار، عبر لبنان وسوريا، إلى أوروبا، وفي أن يستعيد مرفأ بيروت دوره الاقتصادي بالنسبة إلى سوريا زمن الانتداب الفرنسي، وأن يكون مرفأ الترانزيت الرئيسي لمنطقة الخليج وللعراق (ناسياً مرفأي اللاذقية وطرطوس). لم ينجح مشروع الحريري، مع فشل مسار التسوية في ربيع وصيف 2000، بالنسبة إلى المسارَين السوري والفلسطيني، ومع بدء الصدام السوري ـــــــ الأميركي، بسبب العراق المغزو والمحتل عام 2003، عندما اتجهت واشنطن عام 2004، عبر القرار 1559، نحو تدفيع دمشق في بيروت ثمن مخالفتها في بغداد، ثمّ اتجاه واشنطن، عبر حرب تموز 2006، إلى محاولة تدفيع طهران في بلاد الأرز ثمن اتّجاهها نحو استئناف برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني، منذ شهر آب/ أغسطس 2005. منذ خريف 2004، أصبح لبنان ساحة لمجابهة أميركية ـــــــ سورية، حتى خروج القوّات السورية من لبنان في 26 نيسان/ إبريل 2005، وهو منذ 12 تموز/ يوليو 2006، وحتى الآن، ساحة لمجابهة أميركية ـــــــ إيرانية، مع تقطّعين زمنيين لهدنتين بين واشنطن وطهران، امتدت الأولى من اتفاق الدوحة عام 2008، حتى إسقاط حكومة سعد الحريري عام 2011، والثانية من التسوية الرئاسية في عام 2016، حتى سحب ترامب للتوقيع الأميركي على الاتفاق النووي الإيراني، في 8أيار/ مايو 2018. كتكثيف: لم تنجح بيروت، منذ عام 1992، في أن تستعيد من دبي مركز العاصمة المالية للمنطقة الذي كانته في الستينيات حتى عام 1975. فقدت بيروت مركز عاصمة الصحافة العربية. فقدت بيروت مركز عاصمة دور النشر العربية. بسبب عدم موافقة الخليجيين على التسوية الرئاسية اللبنانية التي أتت حصيلة عام 2016 للاتفاق النووي الأميركي ـــــــ الإيراني عام 2015، لم تعُد بيروت مركزاً لاصطياف الخليجيين ولا لإيداعاتهم المالية المصرفية ولا لاستثماراتهم. في فترة 1992 ــــــ 2020، لم يعُد مرفأ بيروت ليكون المرفأ الرئيسي في المنطقة لتخديم البر الشامي، كما كان في فترة 1887 ـــــــ 1950، ولم يستطِع أن يكون مرفأ الترانزيت الرئيسي نحو البرَّين العراقي ولا الخليجي. ربما تفجير 4 آب/ أغسطس 2020، يعطي صورة عن مآلات، ليس فقط عاصمة، وإنما دولة وكيان قام بإعلانه الجنرال غورو قبل قرن من الزمان ناقص أربعة أسابيع. الغريب أن يفكّر رأس الدولة الفرنسية في المجيء إلى بيروت، في يوم الذكرى المئة لذلك الإعلان، من دون أن يفكّر في ما قاله وزير الخارجية اللبناني المستقيل ناصيف حتّي عن لبنان كـ«دولة فاشلة»، إلّا إذا كان رئيس فرنسا يفكّر في تحصيل نفوذٍ في دولة منهارة، لدولة مثل فرنسا لم تعد دولة عظمى ولا كبرى. * كاتب سوري
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا