تُطوِّر القوى المناوئة لفريق ما كان يُسمى بـ8 آذار، مضافاً إليه «التيار الوطني الحر»، نهجاً هجومياً متواصلاً ومتصاعداً. هو في الواقع، أيضاً، وربما أساساً، صدىً لهجوم شامل تقوده في لبنان والمنطقة، الإدارة الأميركية بالتنسيق الكامل مع العدو الصهيوني. نجح هذا الهجوم في تعبئة قوى سياسية وشعبية واسعة. هذه الأخيرة متضرّرة، أساساً، من السياسات العامّة والنهج الاقتصادي اللذين كان تحالف قوى 14 آذار (سابقاً) قد اعتمدهما. هذان أدَّيا، كما هو حاصل بشكل مأساوي حالياً، إلى الخراب والفشل والأزمة الشاملة التي تعاني منها الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.جنَّد هذا الفريق الخارجي والداخلي قوى سياسية وشعبية وأدوات إعلامية فعَّالة دولية وإقليمية ومحلية. مارست قيادته الخارجية أشكالاً من التدخّل المباشر في الشأن الداخلي اللبناني مع الأطراف السياسية والأهلية (الحزبية والمدنية)، متجاهلة ومتخطية المؤسسات الرسمية. وقد حقق الفريق المذكور إنجازات بارزة ضد الفريق الآخر ووضعه في موقع دفاعي على المستويات كافة.
في مجرى ذلك، وبتكامل بين الفعل السياسي والإعلامي والنشاط الميداني، وبتصعيد وفجور وهجومية موصوفة، بلوَر هذا الفريق سياسات بديلة وعناوين أساسية. من تلك السياسات، الدعوة إلى «حياد» لبنان التي أوكَلَ إعلانها (للانتقاص أيضاً من التمثيل الماروني للرئيس عون) للبطريرك بشارة الراعي. «الحياد» من «عدّة الشغل» القديمة. وهو رغم تقطّع المطالبة به، قد عنى دائماً الابتعاد عن الصراع العربي ـــــــ الصهيوني. وقد رُفع هذا الشعار حتى في ذروة العدوانية الصهيونية كما تجسّدت في احتلال نصف لبنان عام 1982. واقعياً، ورغم الموارَبة، فقد عنى ذلك الشعار الالتحاق بالمشاريع الغربية في المنطقة، ولو تطلّب الأمر استدعاء الأسطول السادس، كما حصل عام 1958، والغزو الإسرائيلي عام 1982، والترحيب بعدوان 2006 من دون قيد أو شرط! «الحياد» اليوم هو النسخة اللبنانية المطلوبة أميركياً للمساهمة في إنجاح «صفقة القرن» الأميركية ــــــ الصهيونية. هو يستهدف وجود مقاومة مسلّحة لعبت دوراً مميّزاً في التحرير، وأقامت بنية راسخة ضد اعتداءات الصهاينة، قادرة على الردع وعلى تحفيز ودعم المقاومة ضد العدو بما يتعدّى النطاق اللبناني.
في الداخل، يقوم مشروع الفريق المرتبط بالرياض وواشنطن على استغلال الأزمة الكوارثية الراهنة، لإلحاق لبنان بالمحور المذكور وثالثه الإسرائيلي. وهو يتوسّل «هركلة» وإسقاط رموز سياسية رسمية وغير رسمية ومعها المؤسسات، وإحلال سلطة يفرضها هو، باسم «الحياد» محلّ السلطة القائمة. وقد قدَّم نماذج عن ذلك في الشعارات والممارسات التي كان من بينها «احتلال» وزارات واستقالة نواب واقتحام مؤسسات باستخدام العنف والتكسير... يستمر هذا الهجوم، وسيتصاعد حتى رغم «الخيبة» النسبية بسبب قرار المحكمة الدولية، ورغم عدم توصّله إلى بناء حلف متماسك يضم جميع أفرقائه الغارقين في الفئويات وبتنوّع المقاربات والحسابات والمرجعيات...
على الطرف الآخر، المشهد بائس ويفتقر المعنيون به إلى المبادرة! بعد مقاطعة حكومة حسّان دياب والاستقالات، بدا فريق 8 آذار والتيار العوني مسؤولين عن كامل السلطة: إمساكاً وتمسّكاً ومواصلة للسياسات إياها التي أدّت إلى الفشل والخراب والإفلاس. بعض المواقف المختلفة لا يرتقي إلى مستوى الخيارات الجديدة المطلوبة. التباين بين أطراف هذا الفريق كبيرة، كما الأولويات والمقاربات. «كلّن يعني كلّن»، بدا وكأنه ينطبق على هذا الفريق دون سواه، بعدما حيَّد الشركاء الآخرون أنفسهم بالاستقالة وبالمقاطعة وبالحركة في الشارع. شعارات من نوع المطالبة بدولة «مدنية» وبتطبيق الدستور افتقدت، مرة جديدة، إلى المصداقية، لأنّ مطلقها (الرئيس نبيه بري) هو من كان المعني من موقعه الرسمي خصوصاً، بعدم تطبيقها أو بتعطيلها. شعار عدم الموافقة على استفراد مكوِّن لبناني (كما عبَّر باسيل)، لا معنى له حين يُستفرد كلّ الشعب اللبناني بتحمّل كوارث الأزمة من دون «إصلاح أو تغيير». محاربة الفساد نكتة سمجة، عندما يكون المطلوب أن يبدأ صاحب الشعار بنفسه وبفريقه قبل الآخرين. لا ينبغي أيضاً نسيان أنّ فريقاً من قوى 8 آذار يقود معاركه الخاصة، داخل الفريق وليس خارجه؛ فضلاً عن أنّ أطرافاً منه كانت من ثوابت السلطة ومن أبرز أطرافها، في الثلاثين سنة الماضية. بعضُ ما يطرح من مقاربات بشأن «التوجّه شرقاً»، كان أقرب إلى المناورة. «خطة الإنقاذ المالية» لحكومة دياب، أجهضها فريق 8 آذار قبل المصارف والفريق الآخر، فضلاً عن إسقاط كل الحكومة بضربة واحدة!
الأسوأ أنّه ليس في جعبة معظم فريق السلطة الراهنة، سوى العودة مباشرة إلى السلطة، وعلى أساس النهج السابق نفسه، وبرئاسة سعد الحريري. والحريري لا يجرؤ على العودة من دون ضوء أخضر سعودي، أي سلفاً، عبر حكومة يجري فيها إقصاء حزب الله كمقدمة للنيل منه، وخصوصاً من سلاحه.
التكافؤ، إذن، منعدم. هذا ما يشجّع الفريق المناوئ على المُضي في الهجوم، أملاً في تحقيق انتصار كاسح. لا يخفى أنه في ظلّ تباينات أشرنا إليها وتحولات محتملة لن يبقى فريق 8 آذار وعون متماسكاً. الأرجح أن يلجأ طرف أو أكثر إلى المساومة على حساب المقاومة، إذا ما استمرت الوتيرة الحالية من الضغوط والأسلوب الراهن الفاشل في مواجهتها (أو عدم مواجهتها!).
لا ينبغي أن يستمرّ الوضع على هذا النحو. قراءة جديدة وجدية مطلوبة لإحداث انعطافة في خطط وسياسات فريق السلطة الراهنة. الصمود و«العناد» لا يطعمان جائعاً ولا يغيثان مشرّداً أو منهوباً أو مسرَّحاً من عمله أو خاسراً بيته ومصدر رزقه... ليس الوضع سهلاً. «قوة العادة»، في المراوحة في المواقف والمقاربات، لن تؤدّي سوى إلى مفاقمة النقمة والأزمة... لمصلحة الفريق الآخر.
بين السلطة الراهنة المشارِكة بشكلٍ كبير في المسؤولية عن الأزمة، وبين جناحها اليميني العنصري المرتبط بالخطة الأميركية الصهيونية، لا بدّ من اشتقاق خيار مختلف. لا بدَّ لهذا الخيار المنشود من مبادر، ومن شركاء لمصلحة إنقاذ لبنان وشعبه وصيانة إنجازاته. هنا تكمن مسؤولية المقاومة ومسؤولية الطرف الوطني المشتت وغير المبادر وغير الفعَّال!
* كاتب وسياسي لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا