تطلّ الذكرى المئوية على وجود لبنان في حدوده الحالية، وهو يرزح تحت نظام الزعماء الذي دمّر الدولة وأفقر الشعب وأوصل البلاد، بعد جريمة انفجار مرفأ بيروت، إلى الانهيار على المستويات كافّة. ولا شك في أنّ هذا الوضع الكارثي لم يحجب الصراع الدائم والمستمر على تاريخ لبنان. فالسيطرة على الماضي، هي طريقة من أجل الهيمنة على الحاضر. ومن يتحكّم بكيفية فهم التاريخ في الحاضر، يتمكّن تباعاً من السيطرة على المستقبل. لذلك، لم يكن من المستغرب أن ينعكس الانقسام على هوية لبنان وموقعه، على النظرة إلى تاريخ لبنان، كون الهدف لم يكن أبداً التأريخ العلمي، بل التأريخ السياسي الذي يسعى إلى خدمة مشاريع أيديولوجيّة متصارعة.ومن بين هذه الأيديولوجيات، سردية تعرّضت للنقد الشديد لا بل إلى السخرية، وهي لم تعد تهيمن على الفضاء الفكري إلّا عرضاً، وهي تتعلّق باستقلال لبنان ووجوده الدائم الذي أرجعه البعض إلى زمن الفينيقيين أو إلى نظام الإمارة الإقطاعي، الذي أنشأ خصوصية لبنانية وهوية حضارية متميّزة. ولا شك في أنّ هذا الكلام، فيه من التبسيط ما هو ضروري في كلّ طرح أيديولوجي لا يبحث إلّا عن الوقائع التي تناسبه وتنفعه في مشروعه السياسي وتوحيد الجماعة الأيديولوجية التي يتوجه إليها.
لكنّ هذا الطرح الأيديولوجي المتهافت اليوم، يقابله طرح آخر ما زال يتمتّع بقوة لا يستهان بها، كونه أيضاً يشكّل وسيلة من أجل تأبيد الهيمنة الأيديولوجية لمشروع سياسي مقابل: ففي مواجهة لبنان الكبير الذي أعلنته فرنسا في الأول من أيلول 1920، توجد نظرية المؤامرة الغربية التي قسّمت المنطقة وجعلت من شعوبها ضحية أبدية في مواجهة لا تنتهي مع الاستعمار.
لا شك في أنّ القوى الأوروبية، في مطلع القرن العشرين، عملت على تحقيق مصالحها ومدّ نفوذها في المنطقة التي تُعرف اليوم بالشرق الأوسط، وذلك من خلال استغلال ضعف السلطنة العثمانية والتدخّل في شؤونها الداخلية. لكنّ ذلك لا يعني إطلاقاً أنّ منطقتنا مجرّد ضحية للاستعمار الغربي الذي قسّمها عمداً، مدمِّراً وحدتها عبر تأجيج النعرات القومية والطائفية. فهذه نظرة تبسيطية أخرى، انتشرت في أول الأمر مع صعود التيار القومي العربي أو السوري، وثانياً مع عودة الإسلام السياسي بقوة في سبعينيات القرن الماضي. لذلك، كان لا بدّ من تفكيك هذه الأيديولوجيا المضادة وتحرير «التأريخ التاريخي»، من التأريخ السياسي أو الديني.
فلبنان الكبير، هذه الدولة المصطنعة والكيان الهجين، تقابله أيضاً سوريا الكبيرة التي لا تقلّ اصطناعاً عنه، لا بل هي من أكثر الكيانات غرابة التي أوجدها الانتداب الفرنسي. وكي نشرح هذه النقطة، لا بدّ من التذكير السريع ببعض الحقائق التاريخية المنسية:
ـــ إنّ كلمة «سوريا» غريبة عن المنطقة، إذ لم تكن تُستخدم في كتب الرحّالة والمؤرّخين العرب الذين كانوا يشيرون إلى هذه المنطقة بكلمة «الشام». فسوريا مفهوم غربي استخدمه المستشرقون الأوروبيون انطلاقاً من التراث الإغريقي، كي يشيروا إلى هذه المنطقة من العالم. وهذا ما يظهر جلياً في كتب الحج إلى الأراضي المقدّسة التي انتشرت بين القرن السادس عشر والقرن الثامن عشر، حيث كان ينقل لنا المؤلّف الغربي رحلته إلى لبنان (أي جبل لبنان) وسوريا وفلسطين، وفقاً للفهم الجغرافي الذي كوّنه من خلال تأثره بالكتاب المقدّس في عهدَيه القديم والجديد.
إنّ كلمة «سوريا» غريبة عن المنطقة إذ لم تكن تُستخدم في كتب الرحّالة والمؤرّخين العرب الذين كانوا يشيرون إلى هذه المنطقة بكلمة «الشام»


ـــ من خلال مطالعة كتب المؤرّخين المحليين كالجبرتي أو ميخائيل الدمشقي وروفائيل كرامة وحيدر أحمد شهاب، نلاحظ أنّ هؤلاء كانوا يشيرون إلى هذه المنطقة ببلاد الشام أو بر الشام، أو كانوا ينسبون الفرد إلى مدينته فيقولون الصفدي والصيداوي والنابلسي والطرابلسي، ولا يستخدمون أبداً تعبير اللبناني أو الفلسطيني أو السوري، كونها مفاهيم لم تكن موجودة بعد في مطلع القرن التاسع عشر.
ـــ أول استخدام مكثّف لكلمة سوريا، كان مع حملة نابليون على مصر عندما قرر احتلال مدينة عكا سنة 1799، إذ كان الجنود والتقارير الدبلوماسية في أوروبا يشيرون إلى هذا الحدث بوصفه الحملة الفرنسية على سوريا.
ـــ لم تكن سوريا كما نعرفها اليوم موحّدة في تاريخها، بل كانت دائماً مقسّمة إلى ولايات مملوكية، ومن ثم عثمانية لا علاقة لها بحدود سوريا الحالية. لا بل إنّ أول مرّة خضعت فيها سوريا لسلطة إدارية موحّدة، كانت خلال حملة محمد علي باشا عندما احتلّت الجيوش المصرية منطقتنا ووحّدتها سنة 1831، مع استثناء جبل لبنان الذي احتفظ بحكمه الذاتي كون الأمير بشير الثاني قرّر، بعد تردّد، الانخراط في الجيش المصري كحليف لإبراهيم باشا ابن محمد علي.
ـــ أول استخدام رسمي لكلمة سوريا حصل سنة 1865، عندما قرّرت السلطنة العثمانية تحويل دمشق إلى مركز لولاية جديدة عُرفت بولاية سوريا بدل ولاية الشام القديمة، وذلك لأنّ كلمة سوريا حديثة، وتتماشى مع سياسة الإصلاح والتحديث الغربي الذي انتهجته السلطنة خلال فترة التنظيمات.
ـــ أكثر من ذلك، تقدّم نواب بيروت في "مجلس المبعوثان" (البرلمان) العثماني، في كانون الثاني من سنة 1878، بمذكّرة طالبوا فيها بفصل بيروت عن ولاية سوريا وإنشاء ولاية جديدة مركزها بيروت وتمتدّ من عكا إلى طرابلس، واقترحوا تسميتها بولاية فينيقيا. وبالفعل، إنّ ولاية بيروت التي ستبصر النور سنة 1888، وامتدت من اللاذقية إلى حيفا والناصرة باستثناء جبل لبنان، هي أقرب إلى جغرافيا الحضارة الفينيقية من لبنان اليوم.
ـــ لم تكن حلب يوماً جزءاً من سوريا، إذ كان يُشار إليها ببلاد حلب بمقابل بلاد الشام. فبينما ارتبطت حلب تاريخياً بمنطقة الأناضول المنفتحة على شمال العراق وتركيا، كانت دمشق مركز ثقلٍ للجنوب السوري ونقطة تواصلٍ مع مصر. وقد استمر التنافس، لا بل النفور بين تجّار مدينة حلب وتجّار دمشق، حتى في ظلّ الانتداب الفرنسي، إذ رفض العديد من تجّار حلب الانضمام إلى دولة مركزية عاصمتها دمشق، ما يؤدّي إلى تهديد مصالحهم.
ـــ هيمنة الأيديولوجيا البعثية أدّت إلى خلق سرديات قومية لا علاقة لها بالتاريخ الموضوعي: اتفاق سايكس ــــــ بيكو الشهير مثلاً، الذي أصبح الحجّة لتبرير سياسات النظام الاستبدادية التي سيطرت على الشعوب بحجة مواجهة المخطّطات التقسيمية. وهذا غير دقيق، لأنّ اتفاقية سايكس ــــــ بيكو بكل بساطة لم تُطبّق، ومن يراجعها يعلم جيداً أنّ كلّ بنودها ظلّت حبراً على ورق. ما طُبِّق هو الاتفاق بين فرنسا وبريطانيا على تقاسم منطقة الشرق الأوسط خدمة لمصالحهما الاستعمارية، ولكن ليس بدافع من مؤامرة مغرضة من أجل تفتيت وحدة الشعب العربي أو السوري، كون كلّ هذه المفاهيم لم تكن قد تبلورت حينها بعد.
ـــ تزعم السردية الأيديولوجية أنّ فرنسا قسّمت سوريا إلى دولٍ طائفية كجبل الدروز والعلويين. وهذا قول أيضاً غير دقيق، إذ كلمة تقسيم تفترض مسبقاً أنّ ما جرى تقسيمه كان يتمتّع بوجود حقيقي وموحّد، وهذا غير صحيح كما شرحناه إذ لم يكن لسوريا من وجود في هذه الفترة كي يتم تقسيمها. لا بل أكثر من ذلك، تشير التقارير من تلك الفترة إلى أنّ حتى سنة 1939 كانت غالبية سكّان جبل الدروز تعارض الوحدة مع دمشق، وحتى الأقلية التي أبدت موافقتها اشترطت احتفاظ جبل الدروز بمقدار من الاستقلال الذاتي، وأن يكون الحاكم الإداري للمنطقة دائماً من الدروز. حتى ثورة سلطان باشا الأطرش التي يقدّمها التاريخ الرسمي باعتبارها ثورة قومية ضد الاحتلال الفرنسي، كانت في حقيقة الأمر انتفاضة تقليدية ضدّ التبدّلات التي أحدثها الوجود الفرنسي في عادات المنطقة والتوازن القائم بين مختلف القبائل الدرزية.
ـــ نقطة نهائية غالباً ما يتم تجاهلها، تتعلّق بالقرار الذي أصدره مجلس إدارة متصرّفية جبل لبنان في 10 حزيران 1920 والذي بمقابل موافقة الأمير الفيصل على الاعتراف باستقلال لبنان ضمن حدود موسّعة، أقرّ بالتعاون مع حكومة فيصل ورفض الوصاية الفرنسية على لبنان. وعندما توجّه الأعضاء السبعة الذين وقّعوا هذا القرار إلى دمشق، قامت السلطات الفرنسية باعتقالهم وحاكمتهم بتهمة خيانة القضية اللبنانية. لقد رفضت فرنسا الاعتراف بمجلس الإدارة الذي كان الجهة الوحيدة المنتخبة في لبنان حينها، وفضّلت التعاون مع البطريرك الماروني جاعلة منه الممثل الوحيد لجبل لبنان. فمجلس الإدارة أصبح في نهاية عهد المصرفية مصدراً لشرعية تمثّلت فيه نخب جديدة كانت مستقلّة عن نفوذ الكنيسة المارونية. وقد جسّد مجلس الإدارة تقاطُع مصالح عابرة للطوائف بين فئات مجتمعية، ظهرت إلى الوجود مع التبدّلات الاقتصادية والثقافية التي عرفها جبل لبنان في نهاية القرن التاسع عشر، علماً بأنّ من بين الأعضاء الذين وقّعوا على القرار سعدالله الحويك شقيق البطريرك الحويك.
إنّ الهدف من هذه العيّنة السريعة من الحقائق التاريخية، هو تحرير شعوب هذه المنطقة من أوهام مختلف الأيديولوجيات كي يوقنوا أنّ مصير بلادهم مرتبطٌ بإرادتهم أيضاً، وأنّ الاكتفاء بتحميل الغرب المسؤولية عن مؤامرة لا تنتهي هو في حقيقة الأمر تنصّل من مواجهة الواقع، ورفضٌ للإقرار بأنّ ما وصلنا إليه هو أيضاً نتيجة لسياسات محلية وقرارات اتخذتها نخب سياسية من مشارب مختلفة، وجدت في الغرب الذريعة من أجل تبرير استبدادها أو التنكّر لقيَم الحداثة.
نعم، لبنان الكبير كان كياناً مصطنعاً سنة 1920، لكنّ سوريا بحدودها الحالية اليوم، كما العراق والأردن، هي كيانات مصطنعة وُلدت بقرار من الاستعمار الغربي. السؤال: ماذا فعلنا بهذه الدول، هل ذهبنا بها نحو بناء مجتمعات حديثة تحرّر الإنسان من الاستبداد وتعلي من شأن العقل، أو أننا اكتفينا بتكرار مظلوميّتنا لمؤامرات أبدية، بينما انهارت بلادنا على كلّ المستويات ما جعلها تستباح مجدداً من قبل الدول الأجنبية والقوى الرجعية التي تصاعد نفوذها في ظلّ تراجع كبير لقيَم الحداثة.

* أستاذ جامعي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا