لبنان الكيان، أُنشئ بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وتقسيم المنطقة وفق «اتفاق سايكس ـــــ بيكو». وكان من سعى مع الفرنسيين إلى إنشاء لبنان الكبير ــــــ بضمّ المحافظات الأربع، بيروت، طرابلس، الجنوب والبقاع ــــــ الطائفة المارونية، وعلى رأسها البطريرك الحويك، بمعارضة المكوّنات الطائفيةـــ سنّة وشيعة ودروز، وحتى أرثوذوكس ـــ. وبعد هزيمة ميسلون، واستشهاد يوسف العظمة وزير حربية الدولة الفيصلية في دمشق، وافقت الطوائف المعترِضة مكرَهة. إذن، إنشاء لبنان لم يكن رغبة لمواطني هذه البقعة الجغرافية المحدّدة. وبما أنّ المنتصر هو الذي يحدّد القوانين وشكل النظام، الذي يخدم أولاً مصالح الدولة المحتلّة، وشركائها في الدرجة الثانية، كانت الدولة المدنية مُحاطة بمصالح ممثلي الطوائف، ومن تعاون معهم من السياسيين التقليديين، وذوي رأس المال، والوكلاء للشركات الأجنبية.
هذا البلد، عند أيّة متغيّرات إقليمية أو دولية، لمصلحة هذا أو ذاك، ينقلب العيش المشترك والتكاذب فيه، وتتفكّك مكوّنات الدولة لمصلحة زعماء الطوائف. فمن داخل هذا الكيان، طُرحت أفكارٌ لإقامة الدوله العلمانية القومية في حدود سوريا الطبيعية، إلّا أنّ هذه الدعوة النشِطة قُضي عليها مع الحكم الجائر على مؤسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة. كما أنّ دعوة الحزب الشيوعي إلى إقامة الدولة الوطنية العادلة، من خلال إقامة الاشتراكية، لم تتمكّن من زعزعة النظام الطائفي، وها هو يتنقّل من أزمة إلى أخرى. انتفاضة عام 1958، والصراع الذي احتدم أثناء صعود الفكر القومي الناصري والبعثي، انتهت بمحادثة بين الرئيس عبدالناصر والرئيس فؤاد شهاب، برعاية أميركية ــــــ مصرية حينها، إلى أن انفجرت الحرب الداخلية عام 1975، وانقسم اللبنانيون بين من طرح برنامج الإصلاح للنظام السياسي ممثّلاً في الحركة الوطنية، ومن طرح من الجبهة اللبناني شعار الدفاع عن النظام في وجه حروب الآخرين.
نتيجة لعوامل داخلية وإقليمية، تشعّبت الأمور ودخلت فيها أطرافٌ عديدة، تسليحاً ومالاً، ولم يتعفّف أحد، حتّى دخول العامل الإسرائيلي، واحتلال بيروت بدعم واستقواء لأطراف الجبهة اللبنانية، فانتقل الصراع العسكري بين كل الأطراف في كل المناطق، بعد انسحاب الفلسطينيين وإعلان جبهة المقاومة الوطنية، للدفاع عن أرض الوطن في وجه المحتل الإسرائيلي.
حصلت تدخّلات عديدة محلية ودولية، من مؤتمر لوزان إلى اتصالات مباشرة بين أطراف النزاع لإيقاف الحرب، وقد فشلت كلّها. واستمرّت المعارك، ليتحوّل الصراع إلى صراعٍ عبثي على الزواريب والمصالح الضيّقة، إلى أن حصل اتفاقٌ بين الأميركيين والسوريين والسعوديين، وكان «اتفاق الطائف» تفاهماً إقليمياً ودولياً فُرض على اللبنانيين، رغم ممانعة المسيحيين، وخصوصاً الرئيس ميشال عون. تمّ تنفيذ الاتفاق بالقوة العسكرية، إلّا أنّه لم يُنفّذ بكامله، بل أُخذت منه القوانين التي تتلاءم مع أطراف السلطة، أي زعماء الميليشيات والرئيس رفيق الحريري، وبذلك نُقِلت الصلاحيات السياسية من رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، ولكنّ قوة الرئيس الحريري، المالية والإقليمية والدولية، وتوزيعه الأموال والهبات على كبار المسؤولين، جعلاه متفرّداً بالسلطة بدون منازع. ومنذ عام 1992 حتى اغتياله، استمرّت الحريرية السياسية بعده في الحكم، تمارس النهج نفسه لغاية استقالة الحريري الابن، بعد انتفاضة 17 تشرين الأول.
يبقى على قوى التغيير الحقيقي دراسة الموقف والدعوة إلى عقد مؤتمر وطني لبلورة برنامج تغيير حقيقي


أدى تسييب البلد، وتجاوز القوانين المالية والاقتصادية، قبل وبعد الاستقالة، إلى تفاعل الفساد ونهب الأموال وفلَتان سعر الدولار وحجز أموال المودعين في البنوك وإقفال المؤسسات، كما زاد الوضع المعيشي تدهوراً، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه من دمار وبطالة وأزمات سياسية وطائفية، وانقسام بين الطبقة السياسية الحاكمة نفسها، ليس بالنسبة إلى الوضع الداخلي المتّفقين عليه، بل بالنسبة إلى السياسة الخارجية والموقف من سلاح حزب الله، الذي حاولت إسرائيل بطلب أميركي خوض حرب 2006 لانتزاعه، وبالتالي إنشاء الشرق الأوسط الجديد. إلّا أنّ هذا المشروع هُزم بفضل المقاومة، ودحر الاحتلال الذي انسحبت قواته مهزومة من دون قيد أو شرط.
كنتيجة طبيعية لما وصلت إليه البلاد من فساد في كلّ المؤسسات، وتعطيل التجارة والصناعة والزراعة، وتفاقُم البطالة، حصلت انتفاضة 17 تشرين. طرحت هذه الانتفاضة شعارات مهمّة، وهي أنّ هذا النظام الطائفي المبنيّ على أساس المحاصَصة، هو مولّدٌ للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنقدية المتلاحقة. غدت الدولة ومؤسّساتها معطّلة بسببه، وأصبح لبنان في حكم الدولة الفاشلة. ولذلك، باتت إعادة تأسيس الدولة على أساس الانتماء للوطن بدل الطائفة، حاجة ملحّة، ولا سيما أنّ هناك صعوبة بأن يستمر الحكم عبر هذه الطبقة السياسية المسؤولة عن كلّ ما وصلنا إليه. أصبح وجودها استمراراً للفساد وعدم المحاسبة، وتفكيك الدولة والخراب.
ولكن دخلت على الانتفاضة عوامل عدّة قاتلة:
1 ـــ عدم الاتفاق على قيادة موحّدة والقول إنّها ليست بحاجة إلى هذه القيادة، على اعتبار أنّ الجماهير هي القائدة، وهو شعارٌ غير مسؤول.
2 ـــ عدم الاتفاق على برنامج موحّد يحدّد المطالب والشعارات، التي توصل إلى الهدف، وهو إقامة الدولة الوطنية الديمقراطية العلمانية، وفصل الدين عن الدولة.
3 ـــ نزول أطراف السلطة المعارِضة لتحالف 8 آذار، من «قوات» و«كتائب» و«مستقبل» و«اشتراكي»، وبعض المنظّمات المدنية المشبوهة بولاءاتها للدوائر الاستعمارية، إلى الشارع بهدف تعزيز وجودها في السلطة، وامتلاك أوراق تفاوضية لاحقاً، ما شوّه الانتفاضة، من خلال الشعارات التي رفعتها.
4 ـــ وباء «كورونا» حدّ من زخم التحرّك.
5 ـــ إفشال حكومة الرئيس حسان دياب الملغومة بوزراء السلطة الحاكمة، وإفشال تنفيذ الخطّة المالية في المجلس النيابي، عبر لجنة المال البرلمانية.
وعندما بانت في الأفق بوادر الاتفاق بين الدول ــــــ الإقليمية والدولية ــــــ بعرّابه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد انفجار المرفأ الكارثي، وُضعت حكومة دياب أمام خيارين: إمّا السقوط في المجلس النيابي أو الاستقالة، بعدما استقال عددٌ من الوزراء المحسوبين على أطراف القوى النافذة.

مشروع ماكرون
تدخُّل الرئيس الفرنسي لحلّ الأزمة ــــــ بعد اتصالاته مع الأميركيين والإيرانيين ــــــ يهدف إلى إعادة تأسيس الوضع اللبناني، علماً بأن الأميركيين، عبر تصريحات بعض المسؤولين، بدوا غير موافقين على مقترحات ماكرون، بينما لم يعلن السعوديون موقفاً محدداً، في حين يعتبر الأتراك أنّ دخول فرنسا لمنازلتِهم في حوض المتوسّط له أهدافه، وهي السيطرة على النفط وبناء قاعدة لها على شاطئ بيروت. كما أنّ هناك مؤشّرات على احتدام الصراع التركي ـــــ الفرنسي ــــــ اليوناني والمصري ـــــ السعودي ضد التدخّل التركي في ليبيا وشمالي العراق وسوريا.
إذن، لا يخلو مشروع ماكرون من المخاطر، واحتمال فشله وارد، لسببين:
1 ــــ إعادة تكوين السلطة بالطبقة السياسية نفسها، المسؤولة عمّا وصل إليه، وذلك عبر إقامة حكومة اتحاد وطني بين أطرافها، التي كانت مقسومة على نفسها.
2 ـــ تغيّب دور الانتفاضة وشعاراتها، والإتيان برئيس وزراء بناءً على اقتراح الرئيس الفرنسي، وتحوّله إلى الآمر الناهي. مثلاً، هو اتّصل برؤساء الكتل النيابية، كأنه الحاكم المطلق، وما على الآخرين إلا التنفيذ.
من هنا، نتساءل: أين السيادة والاستقلال والحرية... والحياد؟! أين الشعارات التي تمّ ترديدها، منذ عام 2005 إلى اليوم؟ وهل ماكرون رئيس جمعية خيرية أم هو بكلّ بساطة يسعى وراء مصالح بلاده؟
على ضوء ما تقدّم، يبقى على قوى التغيير الحقيقي دراسة الموقف، والدعوة إلى عقد مؤتمر وطني، لبلورة برنامج تغيير حقيقي، بعيداً عن المساومات ومصالح القوى الإقليمية والدولية، واختيار قيادة موحّدة لتنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه. كذلك، يجب بناء تنظيماتٍ ولجانٍ في كلّ المحافظات والأقضية، داعمة لهذه القيادة، المجرّبة والمناضلة.

* نقابي وناشط سياسي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا