لا يزال النقاش محتدماً منذ خمسين عاماً بين من يعتمدون مفهومَي النيو ـــــ باتريمونيالية أو الزبائنية السياسية لتوصيف الدولة المتخلّفة، وبين من لا يتحمّسون لهذا التعريف. تمّت بلورة مفهوم الدولة النيو ــــــ باتريمونيالية، بدمج شكلين للسلطة اعتمدهما ماكس فيبر في تأريخه للدولة: السلطة الباتريمونيالية، حيث يتعاطى من يمسك بالحكم مع الموارد العامة باعتبارها ملكاً خاصاً له، والسلطة القانونية ــــــ العقلانية، التي تتولاها الإدارة العامة الحديثة الغربية. وعرّف الباحثون، منذ مطلع السبعينيات، الدولة المتخلّفة في العالم الثالث بوصفها تعكس الأمرين معاً، أي استخدام النخبة للموارد العامة للمنفعة الخاصة، لكن في إطار دولة تعتمد قوانين وضعية حديثة. ــــ ولم يجد الباحثون بايار وألّيس وهيبو، حاجة لاعتماد مفهوم الدولة النيو ـــــ باتريمونيالية، لوصف ممارسات الدولة المتخلّفة في أفريقيا (بايار وآخرون، 1997). وبرّرت الباحثة هيبو عدم الأخذ به لرفضها اعتماد مقاربة تصنيفية (taxinomique) كمدخل (هيبو، 1999). وقد حشدت وقائع سمحت لها باعتماد مفهومين آخرين لوصف مآل الدولة الأفريقية هما «تحوّل الدولة إلى مجال تمارس فيه أعمال إجرامية» (criminalisation) وترسّخ «اقتصاد النهب» (Economie de pillage) (هيبو، 1997: 107).
واستعاد الباحث دو ساردان النقاش الممتد طيلة عقود حول الطبيعة المزدوجة (hybrid) للدولة المتخلّفة، حيث الصراع قائم داخلها بين الممارسات غير الرسمية (informal) لتجيير الموارد العامة للمنفعة الخاصة والممارسات الرسمية (formal) المنبثقة من طبيعة الإدارة العامة القانونية العقلانية (legal-rational). واقترح التخلّي عن مفهوم النيو ـــــــ باتريمونيالية (أوليفيه دو ساردان، 2014). وذلك بحجة أنّ ثمّة دوافع مختلفة تملي القرار في الإدارة العامة.
ــــ وتعرّض للنقد الباحثون الذين أغفلوا موقع الممارسات القانونية والعقلانية في أداء الدولة المتخلّفة، أو أنهم لم يعطوا هذه الممارسات أهمية كافية في توصيفهم لهذه الدولة. وقد افترض هؤلاء أنّ وظيفة البنى الإدارية الحديثة هي أن تحجب ممارسات «دولة الظل» (shadow state) التي تتحكّم بالقرار الحكومي من خلف الستار وفق مقاربة غير رسمية. وصُنّف الباحث وليام رينو بين القائلين بذلك. وهو وصف ممارسة الرؤساء الأفارقة بأنّها تقوم على «التدمير المتعمّد للمؤسسات العامة» (intentional destruction of state institutions) لتأمين بقائهم في الحكم (رينو، 2003). وانتقد جان ـــــ فرنسوا ميدار إلصاق الباحثَين شابال ودلّوز صفة الباتريمونيالية بمعنى احتلال الممارسات غير الرسمية لكل المجال العام، بكل الدول الأفريقية. ورأى أنه ينبغي اعتبار النيو ـــــ باتريمونيالية نموذجاً أمثل (type idéal) يصحّ قياس بعد أو قرب كلّ دولة منه على حدة (ميدار، 2000: 852).
استعاد الباحث دو ساردان النقاش الممتد طيلة عقود حول الطبيعة المزدوجة (hybrid) للدولة المتخلّفة


ــــ ورأى الباحثان إيردمان وأولف أن إعادة الاعتبار لمفهوم النيو ــــ باتريمونيالية تتطلّب أن يتمّ الانطلاق من الطبيعة المزدوجة أو الهجينة للدولة من هذا الصنف، وتعيين الموقع الذي تحتلّه الممارسات القانونية والعقلانية في أدائها (إيردمان وأولف، 2006: 18). وهو ما أكّد عليه الباحث نيكولاس فان دو وال، الذي وجد أن الصراع بين المنطق الباتريمونيالي والمنطق القانوني والعقلاني هو ما يحكم تجربة الدول المتخلّفة ويفسر الاختلافات بينها. وحين يطيح المنطق غير الرسمي بالممارسات الرسمية، وتطغى اعتبارات السطو على الموارد في كل القرارات الحكومية، ينجم عن ذلك انهيار سياسي واقتصادي في البلد المعنيّ (فان دو وال، 2001: 128).
ــــ ويمكن في ضوء كل هذا اعتماد مقاربة جان ـــــ فرنسوا ميدار في اعتبار النيو ـــــ باتريمونيالية نموذجاً أمثل يصحّ التمييز بين دولة وأخرى بالاستناد إليه. وقد اقترح أن يصار إلى تعيين موقع كل دولة بين قطبين تجسّد أحدَهما النيو ــــــ باتريمونيالية المنظّمة (regulated patrimonialism)، في حين تقف على الطرف الآخر الدولة النيوباتريمونيالية النهّابة (predatory patrimonialism). وفي الحالة الأولى، يكون هناك التزام نسبي من الدولة بإعادة توزيع الدخل (أوليفيه دو ساردان: 82). وقد أوضح الباحث باش أنه كانت ثمة مأسسة على هذا الصعيد في تجربة الرئيس كينياتا في كينيا والرئيس بوانيي في ساحل العاج (باش، 2011: 278). أما في الحالة الثانية، فتصبح ممارسة الحكم سلطانية أي متفلّتة من أية ضوابط أو تقليد، وتندفع النخبة إلى خصخصة العام إلى حدّ زوال الدولة بصفتها المؤسّساتية. كذلك، تتحوّل الدولة إلى ميدان للممارسات التي يجرّمها القانون. والنموذج الفاقع في هذا المجال هو تجربة الرئيس موبوتو في الكونغو البلجيكي (ميدار: 854؛ باش: 279).

المراجع:
Bach Daniel, "Patrimonialism and Neopatrimonialism: Comparative Trajectories and Readings", in Commonwealth and Comparative Politics, July 2011.
Bayart J-F, S. Ellis, B. Hibou, La criminalisation de l’Etat en Afrique, Editions Complexes, 1997.
Erdmann Gero, Engel Ulf, “Neopatrimonialism Revisited - Beyond a Catch-All Concept”, GIGA Working Papers, No. 16, 2006.
Hibou Beatrice, "De la privatisation des économies à la privatisation des Etats: une analyse de la formation continue de l'Etat", in B. Hibou (dir.), La privatisation des Etats, Editions Kartala, 1999.
Hibou Béatrice, « le « capital social » de l’Etat falsificateur, ou les ruses de l’intelligence économique », in Bayart, Ellis, Hibou, La criminalisation de l’Etat en Afrique, Editions Complexes, 1997.
Médard J-F, « L'Etat et le politique en Afrique », Revue Française de Science Politique, 50(4), 2000, pp. 849-854.
Olivier de Sardan Jean-Pierre, “Abandoning the Neo-Patrimonialist Paradigm: For a Pluralist Approach to the Bureaucratic Mode of Governance in Africa”, (eds.), Koechlin, Förster, The politics of governance. Actors and Articulations in Africa and Beyond, Publisher: Routledge, 2014, pp.75-91.
Reno William, “The Changing Nature of warfare and the Absence of State-Building in West Africa", in D. Davis, A Pereira (eds.), Irregular Armed Forces and their Role in Politics and State Formation, Cambridge Univ. Press, 2003, p. 323-330.
Van de Walle Nicolas, African economies and the politics of permanent crisis, 1979-1999, Cambridge: Cambridge University Press, c2001.

* أستاذ جامعي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا