كثرَ في الآونة الأخيرة، تناول مفردة الداتا والارتكاز إليها في مواقع أخذ القرارات المصيرية، كذلك لوحظ استهلاكها في محافل المتحدّثين وهي كثيرة. السبب يعود، حقيقةً، إلى الدور المركزي والمحوري والحاسم (غير اليقيني، إلّا إذا اجتمع شرطها وشروطها)، الذي تلعبه هذه الداتا في مفاصل حياتية متعدّدة. مثال على ذلك، جائحة «كورونا» والجهد المبذول محلياً وعالمياً لاجتراح منافذ علاجية من باب استقراءٍ ممنهجٍ للداتا المبيِّنة لحركيَّة هذا الفيروس وإسقاطاته المُرضية. المقصود هو الداتا المستحصلة بواسطة التتبّع والرصد لمسارات التفشّي والانتشار وبيان التأثيرات والمؤثّرات الوبائية (نحن بصدد إصدار أطروحة أكاديمية قريباً تدمج بين أعمالنا في رصد الكيانات المتغيّرة والاستقراء المعرفي من باب اعتمال الذكاء الاصطناعي المركّز).
المثال الآخر المعتبر، هو ما ذهبت إليه المحكمة الخاصة بلبنان منذ زمن ليس ببعيد، وحيث أنّ تصدير الحكم بموضوع تفجير السان جورج، والذي أودى بـ«شهيد الوطن»، الرئيس رفيق الحريري، قضى بتجريمٍ ارتكز بشكل أساسي (بحسب الظاهر والمبيَّن) إلى داتا data الاتصالات.
مثال ثالث على محورية الداتا، ما أتينا على نشره (كبحث علمي في مؤتمرات عالمية محكمة) كأوراق لمشروعنا العلمي حول التأسيس لإنشاء «منصّة معلوماتية» تُعنى بالتأمين الوقائي لبلد مثل لبنان. المقصود هنا، الذهاب إلى وضع تصميم عمل مُمَكنَن يهدف إلى تجميع البيانات من كلّ حدب وصوب (أي من كلّ شباك يأتي منه الريح...)، أي داتا رصد المعابر والمرافق كافّة، داتا الاتصالات ومتفرّعاتها بما فيها وسائط التواصل الاجتماعي، داتا البنوك، داتا المستشفيات، إلخ... نحو ولوج عالم الـBig-Data والأمن السيبراني والمزاوجة بينهما، والإفادة إلى أقصى الدرجات.
بالعودة إلى بيت القصيد، فالمُضمر هنا في هذه المفردة الفريدة «الداتا»، هو اعتماد مسالك الاستفادة منها لاستخلاص موارد «معرفية» تكون حجة بناءٍ للكثير من المقاصد. إذا عدنا بعض الشيء إلى قراءة محورية الداتا، فالمُطَّلع والعارف بمكامن الأمور يعي إلى أي مدى هذه الداتا تعتبر مادة حرجة من حيث «أصالة البناء» والتكوين. كذلك، فإنّها تتمظهر كمادة مرجعية مرموقة يكثر استهلاكها من قبل الإدارات ــــــ والهيئات المولجة تعيين الخيارات الاستراتيجية والمفصلية.
المُطَّلع والعارف بمكامن الأمور يعي إلى أي مدى هذه الداتا تعتبر مادة حرجة من حيث «أصالة البناء» والتكوين


نعم، المقصود هنا اعتماد طرائق تحليلة ــــــ تنقيبية، تستخدم خوارزميات دقيقة ومعقَّدة (تستبطن أدوات الذكاء الاصطناعي) لكمٍّ معتبرٍ من «البيانات» المتراكمة نحو الـBig-Data، بهدف الإضاءة على نماذج Patterns (مجاميع) نمطية، من مستخرجات معرفية لا بدّ أن تتجانس ظرفياً وكيانياً في ما بينها. فمن نافل القول الإشارة إلى أنّ ازدهار هذا النوع من طرائق التحليل الاستقرائي، كان في تسعينيات القرن الماضي حيث تراكمت البيانات بشكل مذهل نتيجة المكننة والتطوّر التكنولوجي المعتمَد في الدوائر والمؤسّسات، وصولاً، في حاضرنا، إلى فورة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي (السوشال ميديا). فالآليات الوسيطة إلى حينه (التسعينيات)، كانت تحصيلية وتجميعية بشكل أساسي، وتفتقر إلى التحليل الاستقرائي المعمَّق، بالمحصلة لم تعد كافية وتستوفي الحاجات المستجدة. لذا، كان ظهور آليات تحليلية استقرائية تعمد إلى معالجة البيانات المُعاد تجهيزها وتأهيلها، بما يتلاءم مع الموضوع والظرف، مستخدمة طرائق رياضية ــــــ خوارزميات معقّدة تفضي إلى تظهير العديد من النماذج النمطية ــــــ Patterns، المعرفية المعتبرة.
من ناحية التعريف العلمي، ثمّة فرق بين الداتا (data)، أي مجامع البيانات والمعلومة (information) المعرفية، حيث الأخيرة هي نتاج معالجة خوارزمية دقيقة للأولى، ضمن ضوابط ومسارات علمية (process) محكمة ومحكَّمة. المعلومة كخلاصة، تُستخدم كمادة «معرفية» لأخذ أو بناء القرارات والأحكام. إنّ اعتماد الداتا كمصدر، لبناء المعلومة ــــــ المعرفية، أي مرتكَز لأي قرار يُتّخذ أو حكم يصدر، يفترض بداية:
1 ـــ أهلية ـــــ أصالة الداتا ـــــ أن تكون صحيحة وموثوقة المصدر وموثّقة البناء.
2 ـــ تنوّع مصادر الداتا
3 ـــ شمول المحاور المؤثرة في مسار استخلاص المعارف النهائية.
إنّ الإخلال بهذه الموارد (المقصود هنا البند الأول على وجه الخصوص لا الحصر)، يعرّض الاستنتاج إلى الضعف وعدم الأهلية. بعبارة ثانية، إنّ الاستخلاصات التي تنتج عن داتا غير موثوقة تسقط الاستنتاج الذي اعتُمد في بناء حكم بعينه أو قرار، هذا بالرغم من قوة المسار العلمي الذي يعالج الداتا والمصدِّر للمعلومة ـــــ المعرفية. أضف إلى ذلك، الاستخلاصات كمعلومة ــــ معرفية ليست في الضرورة نتيجة علمية نهائية مطلقة في كلّ الأحوال، إنّها تُعتبر خلاصة لـprocess (منهج ممرحل وانسيابي ومتماسك)، يجب أن تتقاطع، وبقوة، مع حقائق وموارد معرفية أصيلة أخرى، فاعتمال مبدأ تجهيل المستهدَف (النتيجة المستخلصة) بدايةً، يحرّر المسار بشكل قطعي. إنه مسار علمي ومنطقي قوي البناء.
عليه، باعتمال الإسقاط العلمي، وبموضوع «مباني» الحكم المصدَّر من لاهاي، نقول إنه ثمّة منافذ ومسالك علمية بإمكانها، متى توسّلناها، أن تضفي على هذا الحكم إضاءات ومقاصد وجيهة. كذلك، يمكن أن تفضي وبجهد متوازٍ (من باب التقاطع المعرفي) إلى استخلاصات ومآلات تعيد الاعتبار إلى تلك المصدَّرة حديثاً. لذا، وصوناً لحق شهيد الوطن وطلباً للعدالة، على المحكمة الموقّرة اعتمال التحقّق بوجاهة وبمهنية عالية، وفق ما أتينا على ذكره آنفاً، من مباني المعلومة المعرفية المؤسّسة للحكم. فالمحكمة مدعوة، اليوم، متى أتيح ذلك، إلى خوض مسارات متوازية وإلى عدم إهمال مبانٍ جدِّية ومرموقة، ولكنها ليست بجديدة.
نعم، فالحقيقة ربما تكون في مكان آخر...

* أكاديمي باحث في علوم الداتا

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا