تتأرجح «المقاربات العربية» للوجود العثماني في أفريقيا، في انعكاس تقليدي لحالة الاستقطاب الفكري القائمة، ربما على خواء في المعرفة الأصيلة أو جمود أيديولوجي حاد في واقع الأمر، بين نظرة «كولونيالية» تعتبر هذا الوجود امتداداً لاستعمار شمال أفريقيا ونهبه وتكريس تخلّفه طوال ما لا يقل عن أربعة قرون كاملة، ونظرة «يوتوبية» تعدّه استمراراً لنهضة إسلامية واستكمالاً للمشروع الحضاري/ الدعوي الإسلامي، ومواجهة الأطماع الاستعمارية المسيحية ـــــ الغربية في المياه الدافئة، بل ومسوغاً لسياسات «العثمانية الجديدة» الحالية، التي تتقاطع مع أجزاء شتى من القارة الأفريقية.وكمدخل مهم، يستند إلى توظيف المعرفة التاريخية، يلاحَظ أنّ العثمانيين لم يطرقوا أجزاء «أفريقيا السوداء» كقوة وافدة جديدة تستكشف مواطئ أقدامها، بل ثمة صلات كثيرة، جلّها غير مباشرة، سبقت التحرّكات العسكرية التي قامت بدورها على «وسيط» مهم: قوات ومقدرات «مصر المملوكية»، وهي عملية استغلال ستتطوّر في السياسات العثمانية للهيمنة في أفريقيا، بالتقارب في أوجه كثيرة مع الاستعمار الأوروبي، حتّى ما سيصفها لاحقاً مصطفى مناوي، أستاذ التاريخ بجامعة كورنيل الأميركية، بالمقاربة «عبر ـــــ الإمبريالية» transimperial بناء على مشاركة تركيا في مؤتمر برلين (1884-1885) الذي قاد إلى تقسيم أفريقيا، وما عده، في كتابه البارز عن التكالب العثماني على أفريقيا (2016)، من أنّ العائد من تجربة النشاط العثماني التوسعي في وسط أفريقيا، يفسّر سياسات اسطنبول في البحر الأحمر (1)، وأنّ وثاقة الصلة بين أفريقيا والجزيرة العربية تفسّر اتّباع البيروقراطية العثمانية منطقاً يتجنّب الحدود بين الدول في مرحلة ما بعد الاستعمار.
وبطبيعة الحال، فإنّ النقد الذي طرحه مناوي يشتبك بمرحلة تداعي، ثم سقوط «الدولة العثمانية»، منذ أواخر القرن التاسع عشر وصولًا إلى خلع محمد السادس في عام 1922، وإلغاء الخلافة في عام 1924. غير أنّ هذا النقد يمكن أن يفسر الكثير من ارتباطات وحدود الهيمنة العثمانية بأفريقيا، مثل اتخاذ «ولايات» شمال أفريقيا كنقاط ارتكاز لوسط أفريقيا وغربها، عبر التجارة وموازنة العلاقات مع القوى الأوروبية في عصور متباينة.

الاشتباكات الأولى
يمكن تلمّس العديد من الإشارات الموحية منذ منح الخلافة العباسية في القاهرة للقائد العثماني بايزيد لقب «سلطان»، بعد انتصاره الكبير في معركة نيقوبولس Nicopolis (1396) على «تحالف صليبي» أوروبي، ومدّه نفوذه إلى جنوب الدانوب، وسط معارضة القادة المماليك الذين طالما استأثروا باللقب، ما يؤشر إلى توق وهيمنة عثمانية مبكرة على فكرة «الخلافة» الإسلامية. كذلك، ارتبطت التوسّعات العثمانية في الأناضول بوقف غزو القائد التتري تيمور لنك للهند في عام 1398، وتوجّهه لتدمير إمبراطورية بايزيد وهزيمته في معركة أنقرة 1402، وأسره ثم وفاته بعد ذلك بعام واحد، وإعادة تيمور السلطة للأمراء التركمان الذين ساعدوه. ليعود بعدها أحد أبنائه، وهو مراد الثاني، لخوض حرب مع مدينة البندقية (1423-1430)، اعتمد خلالها على تجنيد «الأرقاء المسيحيين» ومعتنقي الإسلام في ما عرف «بالقوة الجديدة» (الانكشارية)، ووزّع على أفرادها لاحقاً المناطق التي غزاها. ثم أولى العثمانيون بعد معركة فارنا Varna (1444)، التي هزموا خلالها لفيفاً من القوى الأوروبية بزعامة الفاتيكان، اهتماماً فعلياً بمواجهة دولة المماليك في مصر وسوريا، المتاخمة لهم (2).
وهكذا، تشابكت تحرّكات العثمانيين في عالم البحر المتوسط مع مصالح أهمّ القوى التجارية التي بسطت لقرون هيمنتها على تجارة آسيا عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر (ولا سيما المماليك والبنادقة) والطرق المتقاطعة معها على سواحل شرق أفريقيا. وانتقلت هذه التشابكات حول القارة الأفريقية إلى المحيط الهندي مباشرة، ولا سيما بعد تمكّن العثمانيين من بسط الهيمنة على سوريا، التي تحرك منها جنوباً نحو القاهرة ليستولي على مصر بعد حملة عسكرية طويلة نسبياً (1516-1517)، وبدعم كبير من البحرية العثمانية الحديثة. وبادر العثمانيون فوراً إلى تكوين قيادة بحرية في السويس بهدف مواجهة البرتغاليين في المحيط الهندي، ودعم جهود السيطرة على الجزيرة العربية. وعزّزت المدخولات المالية من مصر، وهي الفائض بعد دفع أجور القوات المحلية، خزانة السلطان العثماني مباشرة (3)، تلتها في الأهمية العائدات من اليمن. وبذلك، أصبحت الدولة العثمانية، لفترة وجيزة في واقع الأمر، أكبر قوة بحرية في عالم البحرين المتوسط والأحمر، بفضل وصولها الى مواقع فاصلة في التجارة بين آسيا وأوروبا (4).

العثمانيون والمماليك: الهيمنة بالوكالة؟
كانت لافتة السرعة التي دانت بها القوات المملوكية البحرية ــــــ المتمركزة في البحر الأحمر وخليج عدن لمحاربة البرتغاليين ــــــ بالولاء للحكم العثماني الجديد في القاهرة. ومثلت هذه القوات، بدورها، أهمية كبيرة للدولة العثمانية لحماية سواحل شرق أفريقيا للحيلولة دون تمكّن البرتغاليين من الهيمنة على الجزيرة العربية والبحر الأحمر، وفرض تهديدات حقيقية على المنطقة. لهذا، أقدم العثمانيون على الفور على تجديد القوات المملوكية، التي ساعدت بدورها في دعم العثمانيين لسلطان هرر Harar (في إثيوبيا الحالية) وانتصاره على مملكة الحبشة المسيحية المجاورة (التي كانت محدودة للغاية جغرافياً وسكانياً في الهضبة الحبشية عكس ما يروّج له أنصار الإثيوبيانية حالياً)، رغم تلقّيها دعماً من البرتغاليين، وبلوغ سلطنة هرر الإسلامية «عصرها الذهبي» في القرن الـ16 (5). وقاد الوجود العثماني إلى تزايد الصراع بين مملكة الحبشة المسيحية والمحيط الإسلامي الذي جاورها من جميع الجهات، ووصل الوجود العثماني إلى قلب الهضبة، وإن استمر لفترة قصيرة في منتصف القرن السادس عشر عقب وفاة القائد الصومالي (من سلطنة عدل في إثيوبيا الحالية) أحمد بن إبراهيم الغازي «جوري»، الذي «فتح كثيراً من بلاد الحبشة»، بحسب المؤرّخ المعاصر عبد القادر بن شيخ العيدروس في كتابه «النور السافر عن أخبار القرن العاشر» (6).
تشابكت تحرّكات العثمانيين في عالم البحر المتوسط مع مصالح أهمّ القوى التجارية التي بسطت لقرون هيمنتها على تجارة آسيا عبر المحيط الهندي والبحر الأحمر


إضافة إلى هذا التوظيف العسكري للمماليك، اعتمد العثمانيون في تسيير شؤون هيمنتهم في إيالة الحبشة واليمن، ومن ثم سواحل شرق أفريقيا وجزرها، على مصر التي تكفّلت بدفع فوارق العائدات من إيالة الحبشة (على وجه خاص) والمصاريف التي تنفق عليها. وأوضحت دراسات وثائقية متعمّقة، أنه بينما وجّهت العائدات بكاملها إلى الدفتردار (رئيس بيت مال الأقاليم)، فقد تكفّلت القاهرة بدفع رواتب والي الإيالة، في عام 1561، والتي بلغت 1.4 مليون أقجة akces (عملة فضية تداولت على نطاق واسع في الإمبراطورية العثمانية)، ونحو مليون أقجة راتباً لحسين باشا في عام 1567، ونحو 1.2 مليون أقجة لرضوان باشا في عام 1573، إضافة إلى رواتب البكوات (7).
ويمكن القول إنّ العثمانيين استشرفوا حدود هيمنتهم في أفريقيا في القرن الـ16، الذي يوصف في تاريخ العالم بالقرن الطويل، في مسارات طريق التجارة من الهند إلى البحر الأحمر والطرق المتفرّعة على امتداد سواحل شرق أفريقيا وجزرها. وقد رصد أحمد محيي الدين بيري، الشهير ببيري الريس Piri Reis، وصفاً لهذا الساحل والجزر الأفريقية في القرن السادس عشر، في مؤلّفه «كتاب بحرية» KitabuBahriye، أو كتاب الملاحة، وركّز على الساحل الممتد من مقديشو (وما وراءها من بلاد الحبشة)، إلى مدغشقر، أو «جزيرة تينكو» Tinku العظيمة، التي يطلق عليها الفرنجة جزيرة سان لورانزو San Loranzo فيما يسمّيها العرب «قمر» Kumur، ويتحدّثون لغة أهل مقديشو، واستكمل رصد أهم الجزر ولا سيما «جزر القمر» الثلاث.
كما حظيت سواحل شرق أفريقيا باهتمام عثماني كبير في الربع الأخير من القرن السادس عشر، أي في عهد ذروة توسع الإمبراطورية في عهد السلطان مراد الثالث (1574-1595)، وتعيين حسن باشا من قبل السلطان (1580) حاكماً على اليمن ومتصرّفاً نيابة عنه في شؤون شرق أفريقيا وجزرها (وظل في منصبه حتى استدعائه للآستانة في عام 1604). ونشط الوجود العثماني في عهد حسن باشا، الأمر الذي يتّضح ـــــ مثلًا ـــــ في إرساله الأسطول مرتين إلى مدينة ممباسا لمواجهة الغزو البرتغالي، ونيله دعم الأهالي والحكام المحلّيين الذي أعلن عدد منهم ولاءهم لحسن باشا في مواجهة البرتغاليين (8).

كلمة وصل
بدا استشراف العثمانيين للهيمنة في أفريقيا محكوماً، في البداية، بنطاق جغرافي وثيق الصلة بحركة التجارة العالمية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر من آسيا إلى عالم البحر المتوسط، وكذا بقدرات عسكرية لافتة في ذلك الوقت استفادت بشكل كبير من العنصر البشري ممثلاً في قادة المماليك وجنودهم من المصريين وغيرهم، وكذلك بتفاعلات التمدّد العثماني وانكساراته في المحيط الأوروبي ومنطقة الشرق الأدنى، وانعكاسات ذلك على الوجود العثماني في البحر الأحمر والمحيط الهندي، وقدرة الدولة العثمانية على بسط وجودٍ أكثر تحقّقاً وتفاعلاً مع البلدان الأفريقية يتجاوز مجرّد الهيمنة، وادعاء التباين عن الاستعمار الغربي على خلفية الدين المشترك.

مراجع:
(1) MostafaMinawi, The Ottoman Scramble for Africa: Empire and Diplomacy in the Sahara and the Hijaz. Stanford, Calif.: Stanford University Press, 2016.

(2) Ottoman Empirehttps://www.britannica.com/place/Ottoman-Empire

(3) İ. MetinKunt, Devolution from the Centre to the Periphery: An Overview of Ottoman Provincial Administration (in: JeroenDuindam and Sabine Dabringhaus, editors, The Dynastic Centre and the Provinces: Agents and Interactions), Brill, Leiden, 2014, pp. 37-8.

(4) Alexander Anievas and KeremNişancioğluHow the West Came to Rule, The Geopolitical Origins of Capitalism), Pluto Press, p. 109.

(5) AHMET KAVAS, Ottoman Empire's Relations with Southern Africa, AÜÝFD XLVIII (2007), pp. 11-12.

(6) العيدروس، عبد القادر بن شيخ بن عبد الله، النور السافر عن أخبار القرن العاشر (تحقيق وضبط: أحمد حالو ، محمود الأرناؤوط، أكرم البوشي)، دار صادر، بيروت، 2001.

(7) SalihOzbaran, Some Notes on the Salyane System in the Ottoman Empire as Organised in Arabia in the Sixteenth Century, the Journal of Ottoman Studies, VI (1986), p. 41.

(8) Ahmet Kavas, Ottoman Empire's Relations with Southern Africa, AÜÝFD XLVIII (2007)

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا