لم يترك الرئيس الفرنسي، شبه المُقيم في لبنان في هذه الفترة، للمنظومة السياسية الحاكمة أيّ «ستر مغطّى». لقد كشف عورتها بالكامل؛ تبعية مطلقة وانصياع أعمى، ولهاث وراء الرضا، وبطريقه كشف الثقب الأسود الموجود في بعض الشارع. عجيب هذا المشهد السوريالي: رئيس مأزوم في بلده، غير قادر على السير في الشارع، سياساته أوصلت شعبه إلى أزمات عديدة، فَقَدَ شعبية كبيرة خلال فترة قصيرة؛ هو الذي جاء من خارج المنظومة التقليدية في الغرب، شأنه شأن دونالد ترامب، ليكونا أنموذجين لذلك النوع من الساسة القادمين من مصالح عميقة لنخب اقتصادية و«لوبيات»، تتحكّم بعصب الاقتصاد والمال، وتسطّر شروط الوصايات، وتفرض التبعية وتمارس الهيمنة. عجيبٌ كيف لرئيس دولة أجنبية، يتكلّم بكلّ تلك الأريحية في بلد آخر، منتهكاً، ولو بالشكل أقلّه، أصول العلاقات الدولية وحدودها. إن تكلّم فلا يسكت؛ يفتي ويأمر ويهدّد ويتوعّد... يرسم معالم ويحدّد سياسات، ويبتسم ويتعالى، ألهذا الحدّ وصلت المهانة؟ ما هكذا تورد الإبل يا فخامة الرئيس، أتفهّم بأنّك وجدت ضالّتك عندنا في لبنان، كي تنفّس عن أزمتك في بلدك؛ منظومة سياسية تابعة، لا همّ لها إلّا إرضاء أصحاب الأمر منكم. وأيضاً، شارع مثقل بأعباء نظام سياسي، تحكّم منذ أن أعلنتم له ذلك الكبير، ولما يزل، وقد بلغ اليوم قرناً من الزمن. شارع متنوّع، فيه من يسبّح بحمد الزعيم صبحاً وعشياً، وفيه من يبيّض طناجر لشيخ العشيرة، وكذلك من كفر بكل شيء، لكن بالمقابل، فيه أيضاً من يقول كلمة حق، وأظنّ بأنك سمعت أصواتهم في زيارتك الأولى، وهم يطالبونك بإطلاق سراح المعتقل لديك، ومن غير وجه حق إلّا الانصياع لصاحب الأمر الأميركي، وأيضاً في المرة الثانية، وأنت في قصر الصنوبر، وهم يذكّرونك بالقضية نفسها، وسط قمع القوى الأمنية لهم. أتفهّمكم، ربما وجدتم في لبنان مساحة للتحدّث وممالقين وكَذَبة ومنتحلي صفة من أفراد ومسؤولين يعطون مفاتيح المدن لأي صاحب سطوة يزورهم، وبناءً عليه طالت مؤتمراتكم الصحافية وتشعّبت لتصل إلى غير موضوع وتتناول أكثر من قضية.
فبين إعلان قيام دولة «لبنان الكبير» واللحظة التي تتحدّثون بها، مئة عام انقضت. وإذا تمعّنا في ما نحن عليه اليوم، فإنّنا سنجد مزارع المذاهب والطوائف ورعيانها قد نمت وكبرت مدعومة بخطاب مذهبي «يلعلع» مواقف وانقسامات وحتى رصاصاً؛ يجرف معه معزوفة «العيش المشترك» والتنوّع، ويكسر جناحَي الطائر الذي يطير بهما هذا «الفريد». والفرز، وقد بلغ حدّ التصنيف «الحضاري» وحب الحياة والتبرّؤ ممّن يعاكسهما، وإن كان ممن يقيمون معهما في الخيمة نفسها. فكيف لمصطلح «الدولة» ورجالاتها، أن ينطبق على من تقابلون؟ وكيف له أن ينمو في مستنقعات الفرز والضم والهويات القاتلة؟ وليس ثمة من يعقل ويتوكّل ويقول كلمة سواء، ممن يطمع برغد الدنيا أو ممن يراهن على الآخرة! هنا مكمن العلّة؛ فكيف لحوار تجرونه مع زعماء الطوائف وأسيادها أن ينتج دولة؟ هو سؤال لا بدّ من طرحه وبإصرار، والجواب هنا معروف؛ قيام الدولة ليس مجرّد ردّة فعل على فعل معاكس، وليس آلية ضغط لفرض موضوع ما أو لتسهيل مهمّة معيّنة، هو بالأساس، مسار سياسي واجتماعي وقانوني يطاول بجوهره طبيعة النظام السياسي المعمول به في لبنان ووظيفته، وهو إسقاط الطائفية السياسية واقتلاعها من جذورها، وكذلك فكّ التبعية وكسر الهيمنة، وهو، قبل كل هذا وذاك، بناء اقتصاد حقيقي، يكون بوظيفته منطلقاً للاستغناء عن الخارج وينشد استقلالية ضامنة لإنتاج محلي، يحرّر البلد من شروط الرأسمال المتحكّم ومؤسّساته ودوله، ويؤمن الاستقرار والاستقلالية، وفي هذا التوصيف نعني كسر الهيمنة والتخلّص منها.
فهل ستصدق بأنّ أصحاب السلطة اليوم، المجتمعين معكم «بالجملة والمفرق»، سيعطون الشعب اللبناني دولة يمكن أن تطيح بامتيازاتهم، وتذهب بمصدر قوتهم؟ لا عناء سيُبذل في اكتشاف الجواب، فكيف للّذين ما انفكوا يحكمون باسم الأرض والسماء، حاملين مفاتيح بوابات الخلاص من آثام الحياة بأيديهم، يمنحون صكوك الغفران لمن يشاؤون ومن غير حساب. كيف لهم أن يفعلوها، وهم تجدهم مستنفرين مثيرين للفتنة حين تطل في منطقة ما، مستحضرين من التاريخ أبشع ما فيه. كيف لهم أن يعطوا موافقة على أمر، فيما لو طُبّق وبشكّل جدّي، لكانت أكثريتهم في السجن بغضّ النظر عن الأسباب. كيف لهم أن يباركوا انتقالاً سلساً، من دولة المزارع، والذين هم أسيادها فرادة أو مجتمعين، إلى أخرى تقوم على المواطنة، وهم اليوم ينتفضون غضباً عندما يُذكر اسم فاسد من محاسيبهم المطلوبين للعدالة، يقيمون الدنيا ولا يقعدونها، ويضعون الحرم المذهبي عليه، مانعين مسّ شعرة من شعره، مستنفرين عدتهم وعديدهم من أزلام ورجال دين ودنيا وآخرة، وإذا استوجب الأمر أكثر من ذلك، فشوارعهم الطائفية جاهزة لتلقّف كرة النار تلك، فترى جمهور الفقر يتصارع بعضه في مواجهة بعضه الآخر، وإذا سألت أحدهم عن السبب، فمن المؤكد بأنك لن تنال منه جواباً واضحاً أو موحداً؛ فالغريزة كانت المحرّك.
ومع ذلك، فها نحن اليوم أمام انقضاء مئة عام من عمر هذا «الكبير»، فيها من الخيبات الكثير، ومن المحطات المضيئة بعض يُعتد به. لقد عاشها بأكثريتها حروباً وتوترات ومناكفات، استمر ككيان، ولكن لم يبن تلك الدولة المنشودة، ولا سلطة ولا قانوناً ولا سيادة، ولم يحرز أي استقلال، كما لم ينجز أي نقلة نوعية في بنية نظامه السياسي وطبيعته ووظيفته. واليوم، ونحن نطرق أبواب القرن الثاني، وتحت سماء لوّنتها الطائرات الفرنسية بألوان العلم اللبناني مظلّلة رئيساً يزرع أرزة في بلاد «الأرز»، ويستقبل النخب الحاكمة في الجمهوريات اللبنانية، وتقام له الولائم والعزائم ـــــ في وقت، يعاني أكثرية الشعب اللبناني الضائقة الاقتصادية والمالية ـــــ يناقش معهم «خريطة طريق»، فيها بنود وآليات وقضايا تصلح لإدارة مؤسّسة متعثرة، لكن لا وجود لأي بند أو رؤية لبناء بلد حقيقي ودولة بمؤسسات سيادية. هنا الكلام يجب أن يعتدل: العلّة يا فخامة الرئيس ليست في الإدارة الموروثة عن بلدكم، وليست في أموال سُرقت، وليست في الهدر أو الفساد أو اللامركزية أو المساعدات أو غيرها من القضايا التي أوردتموها في مؤتمراتكم الصحافية. فكل هذه المسائل هي من نتاج سلوك نظام سياسي، بتركيبته ووظيفته ورجالاته، وهي بهذا المعنى طبيعية. العلة في المكان الآخر، الذي لم تذهبوا إليه ولن تذهبوا. لقد كان من الأجدى والأبقى أن تستمعوا ولو لعاقل في هذا البلد من خارج منظومة السلطة، لعلكم تدركون بأن المسار الذي تخطّونه كرؤية لبداية المئوية الثانية لن يكون أفضل من الذي مضى، لا بل سيكون أسوأ، والمنظومة السياسية التي التقيتموها، فرادة أو مجتمعين، أصبحوا اليوم أكثر تمرساً في الحكم وفي كيفية استنزاف الطاقات وهدرها.
ما هكذا تورد الإبل يا فخامة الرئيس، أتفهّم بأنّك وجدت ضالّتك عندنا في لبنان كي تنفّس عن أزمتك في بلدك


فخامة الرئيس: هل تدري كم عدد الرؤساء الفرنسيين الذين عاصروا هذه المنظومة؟ هي هي منذ التسعين وحتى اليوم، وهي لم تتغير منذ ثلاثين سنة، وبحسبة بسيطة، نجد بأن خمسة رؤساء من بلدكم تغيروا ولكن هي بقيت ذاتها، بسياساتها وأشخاصها، وإذا كان هناك ثمة استثناء، فهو حلول الابن محل الأب. المئة سنة الماضية انقضت ومورثات الانتداب صدئت وتحطمت. قرن انقضى وذلك المولود الملتبس والمركب على عجل بقي كما يوم ولادته، عاجزاً عن المبادرة ومعطّلاً بتكوينه، نمت من حوله وفي داخله أعراض مرضية أقعدته وأفقدته مرونة التطوير الذاتي، وهو لمّا يزل يجتر ذاته بذاته. واليوم، ومع افتتاحية القرن الجديد لم يتغير الموضوع ولم يتطور؛ العجز المطبق هو عنوان المرحلة، البقاء على السائد انتحار والتسليم بالمقويات الخارجية ارتهان، والناتج من كل ذلك ولاءات تقبل بالهيمنة لقاء تحقيق المصالح الفردية؛ ليس هذا استسلاماً بل هو حافز. نعم لم تبنِ تلك الدولة المنشودة خلال القرن المنصرم، لكن غيابها، ربما أعطى لهذا البلد نقاطاً مضيئة يتشرف بها كل مواطن حر وشريف. لقد ردّ الشعب اللبناني على غياب الدولة وتقصيرها في الدفاع عن لبنان بوجه العدو الإسرائيلي، بحجة «القوة في الضعف» ــــــ التي كانت سائدة كموقف رسمي اعتمدته السلطات الرسمية، وعلى مدى عقود طويلة ــــــ بمقاومة وطنية امتدت على مساحة القرن من عمر البلد، بدأت في وجه الانتداب نفسه واستكملت في وجه عصابات الهاغانا ووصلت إلى المواجهة المباشرة مع الاحتلال، عندما اجتاح أكثر من نصف مساحة الوطن، وتراها أنجزت التحرير من دون قيد أو شرط. نعم، لقد ردّ الشعب اللبناني على الحرمان والانحياز اللذين مارستهما تلك المنظومة المتحكّمة، فكانت المبادرات الشعبية، وبشعارات التضامن والتضافر والعمل المشترك، منارات لفّت حدود الوطن من جهاته الأربع. لقد كانت الشوارع مسرحاً لمئات آلاف الحناجر تصدح للعلم والخبز والحرية.
نعم سيد ماكرون، إن ما جرى ويجري اليوم يؤكد بأن لبنان لا يزال، وبفضل نظامه السياسي، تحت الوصاية الأجنبية، وهذه المرة، لم يخجل، أحد من أطراف السلطة من تأكيد ذلك وبالعلن، وما القبول بالإملاءات وشبه البيان الوزاري وخريطة الطريق التي وُضعت من قبلكم، إلّا تأكيد على حجم هذا التدخل وخطورته، والمترافق مع وجود بوارجكم الحربية في الموانئ اللبنانية. لقد كان هدف الموفدين الغربيين تعويم المنظومة الحالية وإجراء بعض التجميل على سلوكها، لقاء مزيد من الحصص في الاقتصاد والسياسة اللبنانية، ومزيد من التنازلات التي ستقدمها السلطة اللبنانية، استجابة لشروط واضحة ومؤشرات مقلقة وخضوعاً لشروط صندوق النقد الدولي، والمقترن بجدول زمني وأيضاً التحذير من تحميل الفئات الشعبية وزر الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بلبنان، بدل تحميلها لمسببيها؛ ناهبي المال العام من أصحاب السلطة ورأس المال.
ونحن نلج المئوية الثانية، فهل يصبح طرح بناء الدولة الحقيقية بديلاً عن تلك «المذهبية» وبداية لمسار جديد؟ نأمل ذلك، لكن الشك يحوم وبقوة، والاعوجاج الحاصل يلزمه الكثير من الوقت كي يتم إصلاحه؛ فالعطب البنيوي هو في أساس النظام، وهدمه يصبح خياراً مطلوباً، نقيضه هو الحل، وهذا يعني بأنّ أفق المواجهة ستكون صعبة وشاملة؛ فكيف إذن ستتشكل موازين القوى للقيام بالمطلوب؟ هو سؤال يلزمه أكثر من جواب ومن أكثر من جهة: لا يمكن تجزئة المعركة، وهذا يعني أنّ جمع مصادر القوة هو الأجدى والمطلوب في هذا الوقت... وفي وضح النهار.

* عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا