بقوة الصور المروّعة، بدا السودان بلداً منكوباً بسيول وفيضانات اجتاحت ولاياته، هدّمت عشرات آلاف البيوت، وشرّدت مئات الآلاف من مواطنيه، وألحقت أضراراً باهظة في الممتلكات والأرواح. رغم ضراوة المأساة الإنسانية والاجتماعية في السودان، فإنّه لم يحظَ بدعمٍ حقيقي يستحقّه من عالمه العربي لجبر الأضرار الجسيمة، باستثناء الجسر الجوي المصري محمّلاً بأدوية ومستلزمات إغاثية عاجلة.بصياغة معاصرة استوحت قصيدة الشاعر التركي ناظم حكمت: «أجمل الأيام... تلك التي لم نعِشها بعد»، لخّص ذات يوم الروائي السوداني الطيب صالح روح الأمل في بلاده، رغم الكوارث والانقلابات التي حلّت بها. «إنّني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة، أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع الثمر، ثمة آفاق كثيرة لا بدّ أن تُزار، ثمة ثمار يجب أن تُقطف، كتب كثيرة تُقرأ، وصفحات بيضاء في سجل العمر، سأكتب فيها جملاً واضحة بخط جريء».
إذا لم نَطُل عن قرب على الشخصية السودانية، بأحلامها وانكساراتها وقدرتها على الخروج من أعتى الأزمات مرة بعد أخرى، فإننا نحلّق بالوهم في فراغ التصوّرات. وإذا لم يدرك العالم العربي أنّ التضامن مع السودان بوليصة تأمين لأمنه ومستقبله، فإنّنا قد نخسره شريكاً حقيقياً في أي حساب، أو عند أي منعطف. أسوأ ما قد يحدث أن يترك السودان شبه وحيدٍ وشبه منعزلٍ تحت ضربات السيول والفيضانات، التي لم يسبق لها مثيل منذ قرن.
أرجو الالتفات، قبل فوات الأوان، إلى مغبة أيّ انعزال محتمل باليأس، فالسودان ليس تشاد، التي توشك أن تنشئ سفارة لها في القدس المحتلّة، كأول دولة أفريقية جارة.
في مصر، يمثّل السودانيون أكبر جالية باللجوء الإنساني، أو السياسي في مرحلة سابقة، أكثر من مليونَي مواطن، من دون أن يرافق ذلك التواجد الكبير أي اتصال ثقافي وسياسي، يحاول أن يسدّ الفجوات المعرفية الواسعة. هناك، الآن، قضية ملحّة عنوانها إغاثة السودان، غير أنّها موقوتة بأسبابها ولملمة جراحها نحتاج بعدها إلى إعادة مدّ جسور الاتصال والتعارف والتلاقي التي أفضى تغييبها إلى أزمات ثقة متفاقمة.
لا يُعقل أن نفاجَأ في مصر وعالمها العربي بانتفاضة السودان، التي أطاحت نظام عمر البشير، كأنّها بلا مقدّمات في بنية المجتمع وتفاعلات داخل قواه الحديثة. باستثناء أعداد محدودة من الباحثين يكاد الجهل في السودان أن يكون مطبقاً.
لم تنشأ الانتفاضة السودانية بالمصادفة، بقدر ما كانت تعبيراً عن تراكمات غضب وإرادة تغيير عبّرت عن نفسها في «قوى إعلان الحرية والتغيير» و«تجمّع المهنيين». جرى تعاطف شعبي واسع مصري وعربي مع الانتفاضة وقواها الحية، من دون أن تكون هناك أية أدوار إيجابية وفاعلة تساعد السودان على الانتقال من عصر إلى آخر بأقلّ التكاليف والأعباء.
على النقيض، بدا الدور الإثيوبي فاعلاً ونشطاً ومتداخلاً، عبر المبادرة في الأزمة السودانية كوسيط بين المجلس العسكري والقوى المدنية الحديثة. كان ذلك استثماراً استراتيجياً أربك أي تحالف مفترض بين دولتَي المصب في أزمة السد الإثيوبي. بتداعيات الفيضان وقدر ما خلّفه من كوارث ومآسٍ، من غير المستبعد أن تستنتج قطاعات واسعة من السودانيين أنّ السدّ الإثيوبي عند استكماله ضمانة حماية من أية سيول وفيضانات تحدث في المستقبل، فضلاً عن فرص الحصول على الكهرباء بأسعار تفضيلية، من دون النظر إلى أية أضرار منسوبة إليه، وربما من دون عناية كبيرة بالتوصّل إلى اتفاق ملزم مع دولتَي المصب، مصر والسودان.
في أوضاع الترويع والتدمير، يصعب التفكير بعقلانية وتدبّر في الأضرار المحتملة مستقبلاً وسبل تداركها. إذا لم تسند المصالح ما يفترض أنها علاقات أزلية، فإنّ كلّ سيناريو وارد. هذا دور إجباري يستدعي المبادرة بشراكة المصير مع السودان، وقبله العمل بكل جدية على سد الفجوات المعرفية معه.
للاتصالات الأمنية والدبلوماسية أهميّتها، لكنّها غير كافية وحدها. المستجدات السودانية تؤكّد ضرورات بناء المصالح المشتركة من دون إبطاء، والانفتاح على قواه الحية بالحوار بين جماعات المثقّفين والمهنيين على الجانبين من دون مصادرة، أو وصاية.
هناك ــــــ أولاً ــــــ اتفاقية سلام جرت في جوبا بين الحكومة الانتقالية وبعض المجموعات المسلّحة. وهي تؤشّر إلى مرحلة جديدة تلوح في الأفق السوداني، يفترض معها التوجّه إلى حلحلة الأزمات الاقتصادية كأولوية مطلقة. هذا تحدٍّ يعترض مصر ويستدعي مدّ يدِ العون والمساندة بقدر ما تسمح ظروفها الصعبة.
هناك ـــــ ثانياً ـــــ تعثّرٌ ماثل في المرحلة الانتقالية السودانية، بتفكّك «قوى إعلان الحرية والتغيير»، كما بعدم الالتزام بمواعيد استحقاقات جوهرية تفضي إلى انتخابات نيابية، وفق قواعد دستورية جديدة. هذا تحدٍّ آخر يستدعي المبادرة بالمساعدة والدعم وعدم إفساح المجال لأدوار أخرى، إثيوبية وغير إثيوبية، تهمّش الحضور المصري وتضرب في العلاقات بين الشعبين الشقيقين من عند الجذور.
هناك ـــــ ثالثاً ـــــ أزمة داخلية متفاقمة في إثيوبيا تضع قيوداً غليظة على أية سيناريوات تعمل على التوصّل إلى اتفاق ملزم بشأن القضايا الخلافية في السد الإثيوبي. التصلب الأثيوبي في المفاوضات المعطّلة، لم يعد خياراً بقدر ما هو ضرورة داخلية حتى لا يتفكّك البلد، أو ينجرف إلى احترابات أهلية.
هكذا، فإن القرار الأميركي بفرض عقوبات على إثيوبيا يظلّ رمزياً، ويمكن توظيفه في التعبئة الداخلية. هذا تحدٍّ من نوعٍ آخر يستدعي بناء أكبر قدر من التوحّد في المواقف بين دولتَي المصب.
وهناك ـــــ رابعاً ـــــ ضغوط أميركية لمقايضة رفع السودان من لائحة الإرهاب، بالاعتراف بإسرائيل وتبادل التمثيل الدبلوماسي معها. إذا ما جرى رفع العقوبات الأميركية بشروط الصفقة المفترضة، فإنّ مصر أول الخاسرين في أمن حدودها الجنوبية وعند منابع نهر النيل شريان الحياة فيها.
أيّ تقاعس عن المبادرة في أطر عربية وأفريقية وإسلامية وداخل حركة عدم الانحياز، لرفع العقوبات من دون اشتراطات مجحفة، سوف يكون ثمنه باهظاً.
تلك المستجدات وتحدّياتها الصعبة تستدعي سدّ الفجوات المعرفية مع السودان وأهله، كما كان يطالب الكاتب الصحافي الراحل يوسف الشريف. هناك أزمة سودانية مكتومة، تعلن عن نفسها من وقت لآخر، بينما الشقيق والجار المصري ينظر إلى بلادهم كمسألة أمنية من دون اهتمام يُذكر بإنتاجهم الأكاديمي والفكري والثقافي والإبداعي، كأنّ طاقة البلد على الخلق والابتكار توقّفت عند ثلاثة نجوم فوق العادة لمعوا في أوقات سابقة هم: الروائي الطيب صالح، والشاعر محمد الفيتوري، والمطرب محمد وردي.
في وقته وحينه، منذ ستينيات القرن الماضي، عبّر الثلاثة الكبار عن روح السودان المستقل، الذي يطلب الالتحاق بعصره بالثورة وينتسب إلى قضايا أمته بالمطلق، كما مثّلوا بالقدر نفسه جسراً ثقافياً ووجدانياً بين العالم العربي والقارة الأفريقية. الآن، نكاد لا نعرف مواطن الإبداع في السودان الجديد، أدباً وفنّاً وإنتاجاً فكرياً، ولا شيئاً يعتدّ به عن أحلامهم وانكساراتهم ونظرتهم إلى الحياة وعلاقاتهم بمحيطهم وعالمهم.
إذا ما جازت استعارة عنوان أشهر رواية سودانية «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، بالتعديل، فإنّنا بحاجة ماسّة في مصر وعالمها العربي إلى موسم هجرة آخر، إلى الجنوب هذه المرّة، بالحوار والاقتراب وبناء المصالح المشتركة.
* كاتب وصحافي مصري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا