لربما سيكون من الصعب فهم ما ذهبت إليه خيارات الإماراتيين، يوم الثالث عشر من آب / أغسطس الماضي، من دون أن تكون هناك إحاطة بالطموحات الإماراتية المتبلورة بشكل واضح، منذ ما يزيد على عقد من الزمن، وكذا بالخيارات التي وجدت أبو ظبي نفسها فيها إبان سلوكها الطريق المؤدي إلى تحقيق تلك الطموحات. ومن المؤكد أنّ رسم «إنفوغرافيك» لأهم المراحل التي مرّ بها تاريخ البلاد، وخصوصاً منه ذاك الذي يرصد بدايات التبلور المترافق مع دخولها عصر النفط الذي استدعى بالضرورة تغييراً في نمطية العيش والتفكير، ومعهما السياسات التي وضعها الكيان، سوف يساعد في ذلك الفهم، إذ لطالما كان من المؤكّد أنّ فعل السياسة ليس إلّا انعكاساً مباشراً لحقائق اقتصادية واجتماعية في آن واحد.بدأت حالة التملمُل الوظيفي لدى إمارات الخليج الخمس (قطر ــــــ الإمارات ــــــ البحرين ــــــ الكويت ــــــ عمان) من رباط يشدُّها إلى وثاق سعودي، بدا ثقيلاً بفعل عوامل جيوبوليتيكية معقّدة، وأخرى تاريخية أكثر تعقيداً، منذ منتصف التسعينيات في القرن الماضي. سجّلت تلك المرحلة خطوات الحبو الأولى لها في سياق التملّص من رباطها السابق الذكر، الذي بدا معيقاً لحركتها بما يهدّد وظيفية كياناتها، بل يهدّد وجودها أيضاً تبعاً لغياب محتمل لهذه الأخيرة. وما جرى، هو أنّ الكويت اختارت الثقافة للتمدّد، وإبراز الدور الحضاري للكيان، وقد ظهر ذلك في مئات المجلّات والمطبوعات التي راحت تغزو الأسواق العربية بأسعار تتيح انتشارها الواسع، في حين اختارت سلطنة عمان مرونة الدور الذي أتاح لها جمع المتناقضات، حتى باتت تلك المرونة ضامنة للبقاء بعدما نجحت في جعل الكيان ضرورة لخارجَين، أولهما إقليمي وثانيهما دولي. أما البحرين، فكانت الواقعية تقتضي الحفاظ على متانة حبل المشيمة الرابط مع السعودية، لاعتبارات تتعلّق بالوضع الديموغرافي في البلاد، بما يضمن استقرار العرش الذي تنتمي أسرته الحاكمة إلى أقلية مذهبية. قطر، بدورها، سرعان ما تنبّأت بالمخرجات التي ستفضي إليها اتفاقية «كيوتو»، عام 1991، والتي عنت دخول العصر الذهبي للغاز، بعد ترجيح كفّته على النفط بفعل هذه الأخيرة، فكان القرار باقتناص الفرصة للتمدّد الذي جرى تدعيمه بذراع إعلامية أُطلق عليها اسم «الجزيرة»، التي كان لها دور كبير في أحداث جسامٍ مرّت بها المنطقة، منذ انطلاقتها عام 1996؛ وإن كان ذلك الدور قد تقلّص بشكل كبير، بعد أحداث «الربيع العربي»، التي فضحت ما كان يُظَنّ أنّه لن ينفضح. أمّا الإمارات، فقد اختارت أن تكون «دبيُّها» هونغ كونغ الشرق الأوسط، حيث ستقوم مشروعية الحلم على انهيار مركز بيروت في أتون الحرب الأهلية اللبنانية، التي امتدّت 15 عاماً، قبيل أن تحطّ رحالها في عام 1989 في «الطائف». ثم راحت الفرص الإماراتية تتوالى، الواحدة تلو الأخرى، فيما الآليات التي اجتُرّحت للإمساك بها، لم تكن تتعدّى الآليات المعتمدة في صيد اللؤلؤ والمحار، المهنة العريقة الضاربة لجذورها عميقاً في الذات الجماعية للإماراتيين.
كان بروز الدور الإقليمي ــــــ وكذا نظير له قطري بلغ أوجه ما بين عامَي 2011 ـــــ 2013 تحديداً، ثمّ تراجع لاعتبارات تتعلّق بتفكّك التحالف الأميركي مع تنظيم «الإخوان المسلمين» بدءاً من اغتيال السفير الأميركي في بنغازي، في أيلول / سبتمبر 2012 ــــــ الذي كرّس الإمارات كقوّة صاعدة، تعبيراً أكيداً عن انزياح مركز الثقل العربي، الذي كان يقوم تاريخياً على محور القاهرة ـــــ دمشق، وفي مراحل أخرى كانت تتناوب كلّ من الرياض وبغداد في الانضمام إلى ذلك المحور؛ وفي كلتا الحالتين، كان ذلك المحور يُظهر متانة من النوع الضامن للأمن والاستقرار في المنطقة العربية برمّتها. سيُسجّل أرشيف الصعود الإماراتي السابق الذكر، إنشاء «مجموعة موانئ دبي العالمية»، التي تُعتبر اليوم أقوى خامس مشغّل للموانئ في العالم. وفي تمدّداتها، كان الاتفاق الموقّع مع الصومال لتشغيل ميناء بربرة، في أيار / مايو 2016، الذي اعتُبر خطوة عابرة للقارات، بعدما كانت البدايات تقتصر على الجوار القريب من نوع الاتفاق مع الحكومة اليمنية لتشغيل ميناء عدن، في عام 2007، ثمّ راحت السياسة تستثمر في فعل النخر الذي كان يحدثه بلدوزر المصالح الاقتصادية، ولائحة هذا «الرواح» تطول بدءاً من دعم بقايا البورقيبية في تونس، وإسناد حكم عبدالفتاح السيسي في مصر، مروراً بدعم الجنرال خليفة حفتر في ليبيا، ثم وصولاً إلى دعم محمد دحلان في صراعه مع محمود عباس على زعامة حركة «فتح»، ثمّ على السلطة الفلسطينية بالضرورة. ومن بين شقوق هذه الإسنادات، كانت هناك الاتفاقية الموقّعة مع حكومة أرتيريا، في نيسان / أبريل 2015، لإقامة قاعدة عسكرية في ميناء ومطار مدينة «عصب».
منذ منتصف التسعينيات في القرن الماضي، بدأت حالة التملمُل الوظيفي لدى إمارات الخليج الخمس من رباط يشدُّها إلى وثاق سعودي


كان ذلك المسار من الناحية البنيوية محفوفاً بالمخاطر، لأنّه يعتمد في جوهره على إيرادات سوق النفط المتذبذب، تبعاً لاعتبارات عديدة، وعلى نظيرة رافدة لها من سوق العقارات، الذي يحقّق في الغالب نمواً اقتصادياً وهمياً أو خادعاً بتوصيف أدقّ. وكنتيجة، شكّلت أزمة ديون دبي في عام 2009، قرعاً لجرس الإنذار المبكر، الذي كشف بدوره عن هشاشة في الاقتصاد الإماراتي القائم على الريعية والخدمات. والمؤكّد، هو أنّ هذا الأخير لم يتعافَ تماماً من تداعيات تلك الأزمة، حتى اليوم، ذلك أنّ الندبات ستعاود في الظهور، وعلى مساحات أوسع من سابقاتها، وهو ما يمكن تلمّسه في العديد من التقارير التي جرى تناقلها في العديد من الوكالات والمواقع المختصّة. فقد نشرت وكالة «رويترز»، في 15 أيار / مايو المنصرم، تقريراً أشارت فيه إلى احتمال انهيار الاقتصاد الإماراتي، الذي يواجه ــــــ وفقاً لتوصيف الوكالة ــــــ أكبر تراجعٍ اقتصادي له منذ أزمة ديون دبي السابقة الذكر. وفي آب / أغسطس المنصرم أيضاً، أكّد موقع «وورلد بوليتكس ريفيو» الأميركي، أنّ الإمارات ستفقد مليون وظيفة في غضون الأشهر القليلة المقبلة، وسوف يهاجر ــــــ وفقاً للموقع ذاته ــــــ 10% من سكانها، أو المقيمين فيها، على الأقل جراء حالة الانهيار الاقتصادي الذي بات وشيكاً. والراجح، هو أنّ هذه الاعتبارات كان لها دور مهم في ما أقدمت عليه الإمارات، يوم 13 آب / أغسطس الماضي، عندما ذهبت إلى توقيع «اتفاق سلام» مع إسرائيل، برعاية أميركية، قالت إنه سيُلزم دولة الاحتلال بوقف ضمّ المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، على الرغم من أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان قد قال في 11 آب / أغسطس ــــــ أي قبل يومين من توقيع الاتفاق ــــــ إنّ ضمّ المستوطنات في الضفّة الغربية لن يحدث إلّا بموافقة الولايات المتحدة، ولو أنّ ذلك كان له أن يتم بدون تلك الموافقة ـــــــ يضيف نتنياهو ـــــــ «لكنت قد فعلت منذ زمن طويل». وفي ذلك التصريح، برّر الأخير رؤيته تلك بالقول إن «تلك العملية (ضمّ المستوطنات) ليست ضمن أولويات دونالد ترامب، الآن، لأنّه مشغول عنها بأمور أخرى». والسؤال المهم هنا، هو ماذا تريد الإمارات؟ وبشكل أكثر دقة، ما هي الخدمة التي يسديها الاتفاق لسياسات الإمارات وفق واقعها الراهن؟ ثمّ مَن يخدم مَن، وما هي نسبة الفائدة التي ستحقّقها هذه الأخيرة جراء خطوتها السابقة الذكر، حتى بمفهوم «السوق» الذي لا شكّ في أنّه بات يمثّل البوصلة التي تهتدي بها سياسات محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، والذي يقف بالتأكيد وراء رسم الخيارات الكبرى لمسار الدولة برمتها؟
من الصعب القول إنّ الخطوة الإماراتية الأخيرة، قد جرت كلّها تحت العباءة السعودية، أو أنّها تحظى برضا سعودي تام، ليس لأنّ الرياض بعيدة عن تبنّي هكذا خيارات، كتلك التي سلكتها أبو ظبي، ولكن لأنّ الخطوة الإماراتية تمثّل في أحد أوجهها قفزاً بالزانة فوق الدور السعودي، وهي من حيث النتيجة تمثّل نسفاً لمبادرة السلام العربية، التي تبنّتها قمّة بيروت في عام 2002، وهي بالأصل مشروع تقدَّم به ولي العهد السعودي عبدالله بن عبد العزيز آنذاك. والمؤكد، أنّه حتى لو باتت المملكة تُجري مراجعات بشأن تلك المبادرة، أو قرّرت التخلّي عنها، إلّا أنّ ذلك يجب أن يحدث وفق المنظور السعودي الذي يُبقي رمزية لثقل الدور. ولا أدلَّ على التباين الحاصل ما بين الرياض وأبو ظبي، هنا، من الموقف الذي تبنّته مملكة البحرين، المنبر الحصري الآن للتعبير عن السياسات السعودية، والذي عبّر عنه ملكها حمد بن عيسى آل خليفة، في أعقاب لقائه مع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في 26 آب / أغسطس، عندما قال إن «التطبيع مرتبط بقيام دولة فلسطينية مستقلّة»، وهذا اعتبارٌ لم يلحظه «اتفاق إبراهيم» بين الإمارات وإسرائيل، وفقاً للتوصيف الذي أطلقه عليه بومبيو نفسه في جولته الأخيرة على المنطقة.
هذه الخيارات الصعبة، وجدت الإمارات نفسها فيها، وخصوصاً بعد إطلاق، أو النية في إكمال مشروع «الشام الجديدة»، الذي أطلقه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، أخيراً، والذي لم يكن جديداً، إذ لطالما جرى طرحه في زمن رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي. والمؤكّد، هو أنّ أبو ظبي كانت تستشرف، بقلق، تطوّرات ذلك المشروع الذي يلحظ غياباً لأيّ دور إماراتي فيه، حيث من المقدّر لذلك المشروع المدعوم أميركياً أن يؤدّي إلى تهميش دور مضيق هرمز في نقل النفط السعودي والعراقي، عبر نقلهما بخطَي أنابيب يصبّان في ميناءَي ينبع والعقبة على البحر الأحمر، وتلك حالة افتراق كبرى في العلاقة السعودية الإماراتية، تعزّز من نظيرة لها حاصلة في اليمن، منذ الإعلان عن تأسيس «المجلس السياسي الانتقالي الجنوبي»، في الحادي عشر من أيار / مايو 2017.
في التاريخ الإماراتي الحديث، يُروى أنّ حاكم الجغرافيا الإماراتية الراهنة، عندما كان اسمها «مشيخات الساحل المتصالح»، كان اسمه شخبوط بن نهيان (وهو شقيق زايد الذي يوصف بباني الإمارات). شخبوط هذا الذي استطال حكمه لثمانية وثلاثين عاماً امتدت ما بين عامَي 1928 ــــــ 1966، كان صعب المراس عصياً على الاختراق، كما تصفه الوثائق البريطانية. ويروي ذلك التاريخ أيضاً، أنه وفي أعقاب دخول الإمارات عصر النفط، في عام 1962، حدَث أن دفعت الشركة البريطانية لشخبوط ريع أول شحنة تصدير، البالغ مليون جنيه استرليني، مقترحة عليه إيداعه في البنك البريطاني للشرق الأوسط، الذي كان قد افتتح فرعاً له في دبي. إلّا أنّ المذكور لم يستوعب الفكرة فكيف له أن يودع أمواله في مكانٍ لن يكون في متناوله، وأن يقوم بسحبها ساعة يشاء، إذ لطالما كان نظام البنك، الذي أُخبر به، يقضي بإغلاق أبوابه في المساء، ثمّ إنه يقفلها ليوم كامل في الأسبوع، وكلّ ذلك «ثغرة» في السيطرة على ذلك المال، وفق منظور شخبوط. وعليه، فقد قرّر الأخير سحب أمواله وإيداعها داخل غرفة محصّنة في بيته، وضع مفتاحها في جيبه على الدوام، ثم راحت تتراكم تباعاً، من دون أن يذهب صاحبها إلى الصرف منها على حاشيته أو حتى على لوازم الكيان. وكنتيجة، تحوّل هذا الأخير إلى حالة معيقة لكلّ من حوله وللكيان برمّته، وما جرى هو أنّ البريطانيين دفعوا بأقاربه إلى خلعه وتنصيب أخيه زايد بدلاً منه، في 6 آب/ أغسطس 1966. لكنّ المفاجأة كانت، عندما فُتح بيت مال شخبوط للاستفادة منه، فقد كانت الجرذان قد أكلت جلّ الأوراق النقدية المخزّنة فيه.
في سلوك محمد بن زايد، اليوم، شيء ما يوحي بالخشية من أن تعود «الفئران» التي تعدّدت أشكالها راهناً، لتأكل الأموال في بيوت ماله التي اتّسعت كثيراً، واتسعت معها المخاوف تبعاً للمخاطر التي باتت تتهدّدها من كلّ حدب وصوب.

* كاتب سوري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا