كتبنا قبل عام مقالاً بعنوان «في نقد لبنان الرسمي أمام أزمة سوريا» («الأخبار»، 30 نيسان 2013) استنتجنا فيه أنّ سياسة الدولة اللبنانية «النأي بالنفس» تجاه الأزمة السورية، إنّما تُمارس في حدّها الأدنى كحياد بين أطراف تلك الأزمة، وأنّ هذه السياسة من حيث المبدأ، متناسقة مع التقليد اللبناني في الابتعاد عن الصراعات العربية ـ العربية.
ولكنّنا أشرنا إلى مخاطر اتباع هذه السياسة خصوصاً في حالة سوريا على صعيدَين:
الأول أنّ الدولة اللبنانية مُلزمة بموجب ميثاق 1943 ألّا تكون للعدوان على سوريا مقّراً أو ممّراً، وملزمة بموجب عددٍ من الاتفاقيات الثنائية مع سوريا (معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق) والمعاهدات العربية (الدفاع المشترك) والقوانين الدولية (ميثاق الأمم المتحدة حول تنظيم العلاقات بين الدول)، أن تكون سنداً لسوريا.
والثاني، أنّ وضع اليوم يختلف عن العقود السابقة عندما كان لبنان الرسمي يقف على الحياد بين حكومة دمشق ومعارضيها، الذين كان بعضهم يلجأ إلى بيروت.
الحاجة إلى بيان يشرح سياسة لبنان
كان على لبنان ألّا يكتفي بإعلان سياسته كعنوان، بل أن يقدّمها في بيان رسمي يصوغه قانونيون ولجنة برلمانية، ويكون أكثر انسجاماً مع المخاطرتين أعلاه. ومثال على ذلك أنّ مصر عبد الناصر قد تفهّمت في الستينيات أنّ لبنان لا يقدر أن يشارك في حرب عربية ـ اسرائيلة، بسبب نظامه الطائفي الدقيق واقتصاده الريعي الخدماتي الهش، وإمكاناته المحدودة. ويومها كان الحد الأدنى المطلوب عربياً هو أن يساند لبنان الرسمي العمل العربي المشترك بالاعلام والدبلوماسية والدعم اللوجستي… إلخ، لا أن يقف متفرّجاً أو موافقاً ضمنيّاً على ممارسات إسرائيل.
من يصدّق أنّ أميرة الغاز يوليا تيموشنكو تريد توزيعاً فعلياً للثروة داخل أوكرانيا؟
كذلك سبق أن وقف لبنان «على الشوار» عندما كانت الصراعات تحتدم في دمشق بين أجنحة «حزب البعث» أو بعد كل انقلاب سوري في فترة 1949 إلى 1970. وكان لبنان في ذلك محقّاً لإعلاء الشأن الديمقراطي داخل سوريا، ولمنح المعارضين حق اللجوء. وينطبق مبدأ النأي بالنفس عن أحداث سوريا الداخلية على فترة «ربيع دمشق» (2001 و2002) وعلى الأشهر الأولى من عام 2011، عندما كان الأمر يتعلّق بمعارضة مدنية حداثوية حقوقية ضد نظام سلطوي.
ولكن في حرب سوريا الحالية وبعدما انكشف أنّ الهدف هو تدمير الدولة السورية والقضاء على الوطن السوري وحذف مدن سورية السبعة الكبرى من الوجود وتشريد الشعب السوري والقضاء على اقتصاده، فقد كان متوقّعاً أن يساند لبنان الدولة السورية بموجب الاتفاقات الثنائية والعربية والدولية، أو أن يمارس في أضعف الإيمان دوراً إيجابياً في تقريب وجهات النظر وأن يضغط على أطراف الحرب لكي يجنحوا إلى السلم لما فيه خير واستقرار سوريا. ولكن وللأسف العكس هو ما حصل، وهو ما نستعرضه بسرعة في هذه العجالة.
من حيث المبدأ نعتبر أنّ سياسة «النأي بالنفس» هي في مكانها، ولكن كان على لبنان أن يطبّقها كما يلي: في مواجهة تعرّض لبنان للعواصف الاقليمية الهائلة ومصدرها محورا الرياض وطهران، كان بإمكان لبنان أن يستفيد من سياسة النأي بالنفس برفضه ضغوط المحورين الإقليميين بسبب وضعه الداخلي الدقيق. وهذا الموقف يفرض على الدولة اللبنانية ألّا تصبّ الزيت على نار سوريا، لا أكثر ولا أقل. فتلجم الإعلام التحريضي وتضبط الحدود وتستعمل دبلوماسيتها وجيشها وقواها الأمنية في اتجاه مصالحة سوريا مع نفسها، وإبعاد الشرور عنها، وأن يرسل لبنان وفداً يتواصل مع الطرفين في مؤتمر جنيف، وأن يخلق خلية عمل في وزارة الخارجية اللبنانية لمواكبة المشهد السوري والعمل على إطفاء النار.
ولكن ما حصل فعلاً، أنّ لبنان الرسمي والشعبي قد التحق بالأزمة السورية، بموارد بشرية ومالية واعلامية، ودخل بعض رموزه أتون الحرب السورية منذ انطلاق شراراتها الأولى في حزيران 2011.
كذلك، فإن لبنان الرسمي على مستوى الرئاسات الثلاث لم يحسّن تطبيق النأي بالنفس إلا جزئياً، فصبّت مواقف رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان في دعوات التعقل والسلام والحوار في سوريا تارة، وفي مواقف مع هذا الطرف أو ذاك في الحرب السورية تارة أخرى، ما ألحق الضرر بالتركيبة اللبنانية وزاد من انقسام اللبنانيين. ولم يكن ثمة حكمة في أن يقاطع لبنان الرسمي الدولة السورية على أعلى المستويات، بل أن تستمر العلاقات والتواصل بين رئيسي الجمهورية ورئيسي الحكومة، وأن يلتقي لبنان الرسمي بمعارضين سوريين معتدلين يسعون للخير. وهذا كان أفضل لمصلحة لبنان من اتخاذ مواقف مؤذية.
الحاجة إلى لجم التحريض الإعلامي
خصّص الإعلام اللبناني من مرئي ومسموع تغطية يومية على مدار الساعة لنقل وقائع الحرب السورية، مستضيفاً «الخبراء» والنواب والمشايخ، مستعملاً كل انواع تشويه الحقيقة. فدخل العقل الباطني للبنانيين وأيقظ الغرائز المذهبية وزيّف الوعي وساهم مع كل حدث في الداخل السوري في إشعال المعارك بين اللبنانيين وتحريك الشارع. حتى باتت جولات العنف المتنقل عصّية على الدولة الغائبة إجمالاً. وتدّعي وسائل الإعلام أنّها تمارس دورها المهني، ناسية واجب التوعية والأخلاق والسلم الأهلي. وأصبح أمراء المحاور ومشايخ الفتن أبطال الشاشات والصحف، يعلنون أنّهم سوف يقتحمون ويقتلون ويكفّرون الجيش اللبناني، ويسمونه «بالجيش الصليبي».
الحاجة إلى تحصين دور الجيش اللبناني
تقتضي سياسة «النأي بالنفس» إذا جرى تطبيقها بأمانة، ضبط الحدود ومؤازرة رسمية على أعلى المستويات للجيش اللبناني ليقوم بدوره الوطني. ولكن الجيش تعرّض ويتعرّض للاستهداف مراراً في طرابلس وعكار وعرسال وغيرها، لمنعه من مراقبة الحدود وإشغاله في حرائق جانبية داخلية. وصدرت دعوات لطرد الجيش من عكار وطرابلس، ومُنعت القوى الأمنية من اتخاذ تدابير أمنية على المنافذ في القرى الحدودية. وهذا ليس جديداً في مناطق الشمال بل يعود هذا الوضع إلى معارك جبال الضنيّة عام 2001، عندما اغتيل ضباط الجيش وجرت محاولات دائمة لإقامة إمارة سلفية في شمال لبنان قبل الحرب السورية بعشر سنوات.
وكلّما حقّق الجيش تقدّماً وألقى القبض على الإرهابيين في صيدا وطرابلس والشمال، كانت تمارس الضغوط السياسية والإعلامية ويتدّخل السياسيون في عمل القضاء ويخرج شبان ومراهقون في الشوارع يحرقون الدواليب لاطلاق سراح هؤلاء. ورافقت كل ذلك تصريحات بعض رجال الدين تدفع إلى الفتنة لما يتضّمنه كلامهم من كلام تحريضي مباشر، ونشاط المشايخ وأمراء التكفير في شحن الشارع بالرسائل القصيرة على مواقع التواصل الاجتماعي تخوّن الجيش وتدعو الضباط والجنود إلى الانشقاق، فضلاً عن المواجهات الميدانية معه، حيث تعرّضت نقاط عدة للجيش لإطلاق نار ورمي قنابل وزرع عبوات وكأنّه العدو.
تغطّي الطبقة السياسية المسلحين وتعرّي الجيش، فلا يتورّع بعض الساسة عن مهاجمة الجيش والأجهزة الأمنية حتى من على منبر البرلمان اللبناني. وباتت المجموعات المسلحة في وضع يسمح لها بشنّ معركة منظمة وممنهجة ضد الجيش، متمتّعة بغطاء سياسي وديني ودعم مالي، لإفراغ المدن والمناطق من مؤسسات الدولة. هذا الشحن اليومي والتحريض ضد الجيش، رافقته تهديدات تطلقها دورياً «جبهة النصرة» وجماعات تحت مسميّات مذهبية عدّة. وبديهي أنّ تنامي التحريض على الجيش اللبناني قولاً وفعلاً، هدفه إرباكه وتعطيل دوره في الشمال والبقاع، في ظل صمت سياسي ضاعف من خطورة ما تشهده حدود لبنان، واضعاً جوهر الدولة اللبنانية على المحك.
* أستاذ جامعي ــ كندا
** صحافي ــ برلين