جرت العادة أن لا يكون للمواضيع غير المادية والمعيارية مكان في المسرح الدولي، بل من المتوقّع أن تكون مساحة للتنمّر والتندّر السياسي، وليس ذلك بغريب، لأنّ فهم جميع الفلسفات الكوزموبوليتانية والتفكير الأخلاقي، يمثّل بضاعة راكدة غير قابلة للترويج. عموماً، فإنّ تلك المواضيع في مقاييس الدراسات الأخلاقية، ركنت على جانب في الرفوف القديمة للتحليل والدراسة، وكيف إذا ما كان مفهوم الكرامة Dignity بالأصل هو مفهوم زئبقي؟ لهذا، يُرمى في ميدان الأبعاد الدينية، وفي الجدل القديم حول الأخلاق التي لن تصمد أمامها تنظيرات حالة الطبيعة البشرية، التي تحدّث عنها مثلاً توماس هوبز، والأنانية الغائية التي تحدّث عنها نيكولو ميكيافيلي.بعيداً عن أدبيات الخطاب السياسي، في سياق الدراسات اللفظية، باتت كلمة «كرامة» ترتبط بالشعارات القومية والسياقات اللفظية، لكن في الواقع ميّتة، كما يقول الشاعر العراقي أحمد مطر: «في مقلب القمامة، رأيت جثّة لها ملامح الأعراب تجمّعت من حولها النسور والذباب، وفوقها علامة تقول هذه جثة كانت تُسمى سابقاً كرامة». فهي قد أصبحت جثّة هامدة في عصرنا الراهن، رغم أنها جوهر إنساني من الصعب استلابه في الطبيعة البشرية.
كيف لهذه الرغبة أن تصمد أمام صعيد مواجهة السد العالي للمدرسة الواقعية، وثورة المصالح وتسونامي البرغماتية المنفلتة، وسجل السلوك السياسي ما بين القوة والاحتيال والمؤامرات السرية والشكّ والخوف وشهوة السلطة والكراهية؟ وكما يقول أنيس منصور بأنّ السياسة هي «فن السفالة الأنيق»، لكنّ الأحداث الأخيرة، مثل غزو الوباء وغياب السلطة الأخلاقية العالمية، وصعود الهويات الفرعية، وارتفاع سياسات الكراهية، دفعت العديد من المتخصّصين إلى إعادة النظر في مواضيع الموت والحياة والنزعات الإنسانونية وغيرها.
فالكرامة ترتبط بذات الإنسان، وهي «مجد يأتي نتيجة عقل مستقيم وجاد»، كما يقول أفلاطون. ونتيجة لأسباب عديدة، أُهملت على مستوى المراعاة والانتباه السياسي، رغم وجودها القديم في النصوص الدينية والتراثية، فضلاً عن الأدبيات القانونية التي حاولت وضع إطار مفاهيمي لكرامة الإنسان، وكما جاء في وثيقة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي أصدرتها الأمم المتحدة عام 1966، والتي تنصّ على أهمية الاعتراف بالكرامة المتأصّلة والمساواة غير القابلة للتصرّف في الشخص الإنساني. كذلك، يرى الفيلسوف الألماني هيغل، بأنّ التاريخ البشري عبارة صراع طويل من أجل الاعتراف، وهو إسّ الكرامة البشرية. وفي الإعلان العالمي لحقوق الانسان، عام 1948، تنص المادة الأولى، على أنه «يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق»، وهنا، نرى أنّ كلمة الكرامة تسبق كلمة الحقوق بكونها هي الأساس.
ثم إنّ هناك قضية محورية تاريخية لا يمكن فهمها أو استيعابها، من منظور الأرباح والخسائر؛ فمعركة الإمام الحسين بن علي في كربلاء، قبل أكثر من 1400 سنة، مع معسكر يزيد، هي معركة خاسرة من الناحية الواقعية والعسكرية، لكن رابحة تاريخياً. ويكفي أن نرى أحد أصحاب الحسين بن علي، وهو سعد بن عبد الله الحنفي يقول: «والله لو علمت أني أُقتل، ثم أحيا، ثم أُحرق حياً، ثم أذر، يفعل ذلك بي سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك؟ وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة، التي لا انقضاء لها أبداً»، فهي معركة كرامة، لا يمكن التنازل عن مبادئها رغم أنها قد تكون مكلفة في أكثر الأحيان.
في زيارة سريعة إلى سجل التاريخ نجد شعوباً حوّلت الإذلال المتعمّد تجاهها إلى محطّات كرامة وضّاءة وأصيلة في تاريخها


وفي زيارة سريعة إلى سجل التاريخ، نجد شعوباً حوّلت الإذلال المتعمّد تجاهها إلى محطّات كرامة وضّاءة وأصيلة في تاريخها، ومنها سجل الثورات الكبرى في التاريخ. فالثورة الفرنسية رفعت شعار كرامة الفرد والجماعة في أدبيّاتها، والثورة الإيرانية انطلقت من عقب الإذلال الأميركي لما حصل أيام مصدق ضد كرامة الإرادة الشعبية. كما أنّ السياق النفسي يكشف عن أنّ الإذلال يوقظ الرغبة بالحركة لاستعادة الكرامة والتخلّص من وزر الذل، عبر التعزيز الذاتي في أجندة الكرامة، التي لا تشمل فقط القيم السياسية والثقافية، بل حتى في أبعادها الاقتصادية. ومثال ذلك، دول الـ«بريكس» التي حوّلت عبارة «الدولة النامية» إلى «دول ناشئة وصاعدة»، بناءً على الرغبة الحقيقية والواعية في رفع راية الكرامة أمام الذل المتعمّد أو إهانات الماضي. ناهيك بارتباط قيَم الكرامة بمفاهيم الهوية والصراع العرقي والثقافي، وحتى في الحروب والبعد الأمني، مع رؤية الكثير بأنّ وضع معايير الكرامة في السياسة الخارجية، هي قضية أشبه ما تكون حمقاء ومثالية ويائسة في عالم فقدان المعايير وتيار الشعبوية. لكنّ التجربة تثبت أنّ أبعاد حسابات الكرامة وعوالمها المصاحبة، يمكن أن تشكّل عامل استقرار قصير نسبياً، لكن لاحقاً سوف تؤثّر على شرعية النظم السياسية عبر سرعة التحوّل في فهم المتغيّرات، فلا يمكن بالنهاية أن تعيش الشعوب بكرامة منتهَكة وتبقى في حالة غير مستقرّة، لأنّ فقدان الكرامة وخصوصاً في سياق الطابع القومي سيؤدي بالنتيجة إلى فقدان الهوية.
هذا العامل فضلاً عن تأثيره الأخلاقي، فهو معيار سوف يرسم قوة الدولة وهيبتها ومكانتها الاستراتيجية، بل يؤثر على هويتها وتفاعلها مع المجتمع الدولي، سواء في التقارب مع دولة معيّنة أم الابتعاد عنها. فالقضية، وفق وجهة نظري، لا تتعلّق فقط بقياسات الرأي العام، إنّما الارتباط الوثيق بالطابع القومي للشخصية وهويتها واتجاهاتها وميولها السياسية. فما حصل في ما يعرف بـ«الربيع العربي»، أكثر من الرغبة بمشروع التغيير السياسي، حيث كانت القضية الأساس هي الكرامة وتقدير الذات الإنسانية، سواء ما قدّمه البوعزيزي في تونس، أم ما حصل من عنصرية في الولايات المتحدة الأميركية، عقب مقتل جورج فلويد. ومن تقتصر عدسته على أنّ السياسة، وبالتالي السياسة الدولية، هي حلبة للصراع بين الأقوياء وصدام المصالح الاقتصادية، لا يمكن أن يرى هذه الفروع التي لا تقلّ أهمية في فهم ما يحصل في عالم اليوم، رغم أنّها تقع في سياق المعيارية المؤثرة. وهذا ما ورد في كتاب فرانسيس فوكوياما الأخير «الهوية: مطلب الكرامة وسياسة الغضب» Identity: the Demand for Dignity and the Politics of Resentment، حيث يؤكّد على فلسفة الكرامة النابعة من الذات الإنسانية رغم كونها متغيّرة، أو أنّها ليست فطرية وفق وجهة نظره، لكنّها سوف تشكّل حافزاً ودافعاً لاستعادة هذه الذات، كما حصل في مشروع جمهورية أفلاطون، عبر ربط هذا المفهوم بمفهوم الاعتراف بكرامة الفرد. ولهذا، ركّز في أطروحته، على أنّ الكرامة هي مشروع السعادة عبر مثلّث بثلاثة أضلاع، هي: «ثيموس» (thymos) الذي يمثل الجزء الموجود في ذات الفرد، الذي يتوق إلى الاعتراف بالكرامة، والضلع الثاني «أيزوثاميا» (isothymia) وهو مطلب احترام الفرد لكرامته المساوية لكرامة الآخرين، والضلع الأخير هو «ميكالوثاميا» (megalothymia) الذي يتمثّل في الاعتراف بأنّ الفرد البشري هو الأعلى رتبة وسمواً، مقتبِساً هذه الرمزيات من الفكر اليوناني القديم.
ويفسّر فوكوياما أنّ موقف الولايات المتحدة الأميركية والكيان الإسرائيلي تجاه القضية الفلسطينية، دافعٌ للحركات الإسلامية كي تؤكد هويتها الدينية ووجودها الفعلي. وهذه الحركات تطلب الاعتراف بالكرامة، التي يراها تمثل الرأسمال الاجتماعي.
بالمقابل، ناقش الكاتب الفرنسي برتران بديع، في كتابه «زمن المذلولين: باثولوجيا العلاقات الدولية»، أنّ الإذلال نقيض الكرامة باعتبارها باثولوجيا اجتماعية ترسم العلاقات في ما بين الدول، فتفاعل الذوات الدولية بشكل ممنهج في العلاقات الدولية دفعها إلى نظرة دونية للآخر والحطّ من قيمته. ويعترف بذلك منظّرو المنهج الواقعي، وعلى رأسهم هانز مورغان ثاو Hans J Morgan Thou، بأنّ الهيبة الدولية حتى وإن لم تكن مهمّة، فهي توازي الرغبة في الاعتراف الاجتماعي، وتشكّل قوة دينامية محتملة في تاريخ الدول، وصولاً إلى القوة العسكرية والدبلوماسية. ويضرب مثالاً على ذلك، تصرّف السفير السوفياتي، عام 1946، الذي انسحب من الاستعراض الاحتفالي في باريس، في ذكرى الانتصار على النازية، لأنّه أُجلس في الصف الثاني، وكان ممثلو القوى العظمى في الصف الأول، وتكرار تلك المشاهد بشكل متواتر في التاريخ والحاضر.
ولهذا، لا بدّ من ضرورة مراجعة صنّاع القرار بضرورة جعل كرامة الإنسان في قلب السياسة الخارجية لدولهم، إذا ما أرادوا عملية الاستدامة لأنظمتهم السياسية، على أن تكون فلسفة الكرامة قائمة على حق الفرد في أن تكون له قيمة واحترام ذاته ومبادئه وصيانتها. وبالنتيجة، لأنّ الديمقراطية قائمة على عنصرين: الكفاءة والشرعية، كما يرى المؤرّخ البلجيكي ديفيد فان ريبروك، فإنّ الكرامة هي أساس الأخيرة، التي تقوم على بناء العقل وحقوق البشرية والعدالة واحترام العاطفة الإنسانية في التعاطي مع قضايا العالم، حيث إنّ البوصلة الأخلاقية للإنسان يمكن أن تتأثر بشكل إيجابي بالأطر السلوكية لكونها مركزَ إلهامٍ حضاريٍّ وثقافيٍّ يشار إليه بالبنان.
ويمكن أن نرسم معالم الكرامة في تفاعلات السياسة الدولية، عبر منح الإنسان قيمة ودوراً أكبر في اتجاهاته وأفكاره، بكون الفرد أصبح فاعلاً مؤثراً في عالم اليوم الذي لم يقتصر فقط على دور الدولة. وبالتالي، عندما يشعر الفرد بأن منظومة بلده في السياسة الخارجية، لا تقدّم غير انتهاك لكرامته وإنسانيته وخصوصيته ومنظومة عقائده، سوف يتّجه إلى حالة فقدان الهوية والاغتراب عن منظومة دولته وتفاعله مع القضايا الاستراتيجية المهمة، مثل قضايا الأمن القومي. وإذا ما شعر بأنّ السياسة العامّة الداخلية أو الخارجية، تقدّم تنازلات لمشاعره وعواطفه الإنسانية والعقدية، سوف تكون نهاية الشرعية لتلك الأنظمة مع شعور بالعجز والإحباط.
وأمام العذابات النفسية والجسدية في الجسد الشرق أوسطي، لم يبق من خريطة الكرامة العربية إلا ما خطّ على جسد «حنظلة». ولهذا، سنبقى لن نرى وجه حنظلة الذي قال فيه ناجي العلي: «سترونه عندما تصبح الكرامة العربية غير مهدّدة».

* دبلوماسي عراقي وباحث أكاديمي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا