الاكتفاء بإدانة الدول العربية المنجرفة في تيار التطبيع مع إسرائيل، يعني أن نمنح أنفسنا إعفاء من النقد الذاتي، وبالتالي ألّا نحاول استخلاص الدروس الضرورية من هذا الحدث الفاصل في تاريخ النظام العربي. من الغريب أن تدين السلطة الفلسطينية التطبيع الخليجي الرسمي مع إسرائيل، مع أن هذا الحدث هو نتيجة طبيعية لسياسة السلطة الفلسطينية على مدى سنوات. أصرّت القيادة الفلسطينية على هذه السياسة، على الرغم من أنها لم تحقق فقرة واحدة من الاتفاقات والوعود، بل أنتجت في المقابل خسائر استراتيجية للقضية: استمرار الاستيطان وسرقة الأراضي الفلسطينية وتهجير السكان، إقدام الولايات المتحدة (التي يفترض أنها الوسيط في مفاوضات الحل النهائي وعضو المجموعة الرباعية!) على إعلان القدس عاصمة لدولة الاحتلال، نقل السفارة الأميركية الى القدس، تغلغل «التطبيع غير المعلن» في الدول العربية سياسياً واقتصادياً وإعلامياً (التطبيع غير المعلن ما هو إلا تمرين على التطبيع الرسمي)، تصاعد ـــ بل تطرف ـــ الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل في القضايا الاستراتيجية: الحدود، المستوطنات، عودة اللاجئين، السيادة. إن أيّاً من هذه التطورات المذكورة، التي تعني ازدراء أميركا وإسرائيل معاً لـ«اتفاقية أوسلو»، تكفي وحدها كي تنسحب منظمة التحرير الفلسطينية من هذه الاتفاقية، وتعود الى الوحدة الوطنية على أساس التحرير. ومع ذلك لم تكف جميعها لحمل القيادة الفلسطينية على فعل ذلك، وظلت هذه القيادة مصرة ـــ إصراراً مشبوهاً ـــ على اختيار موقف الضعف، وفرضه على شعبها، بل والتعاون مع الاحتلال في ملاحقة المقاومين واعتقالهم... وظلت متمسكة بالإدارة الأميركية الصهيونية، وسيطاً «نزيهاً» بينها وبين إسرائيل! فإذا حسبنا، إلى جانب هذا الخنوع من طرف القيادة الفلسطينية، جنونَ أنظمة الحكم العربية وسط الثورات والانقلابات والمؤامرات الداخلية من أجل كرسي الحكم، واستعدادها ـــ بالتالي ـــ لتقديم كل التنازلات المطلوبة للحصول على صك ضمان أميركي بالبقاء في الحكم، سنفهم أن الهرولة العربية الأخيرة للتطبيع مع إسرائيل ما هي سوى تحصيل حاصل.
قضيّة فلسطين كانت قويّة بالكفاح المسلّح والانتفاضة، وضعفت عندما صارت قيادتها عزلاء في ساحة المعركة


في الخطوات الخليجية الأخيرة، ليس الوضع الفلسطيني فقط هو الذي أصيب بالنكبة، وإنما أصيب أيضاً وضع العرب عموماً، والنظام العربي الرسمي خصوصاً. ذلك أن التزام أي دولة عربية بالحق الفلسطيني، التزاماً فعلياً لا صوتياً، كان لزمن طويل معياراً للاستقلال السياسي والسيادة. وهذا هو المعنى الخطير في قرارات التطبيع هذه. لقد سلّمت هذه الأنظمة سيادتها كلياً للحركة الصهيونية العالمية وخادمها المخلص دونالد ترامب.
من أهم دلالات الخطوات الخليجية الأخيرة، أنّها جاءت نتيجة لمسار طويل قطعه النظام العربي، ومنظمة التحرير الفلسطينية جزء من هذا النظام. لهذا لا يمكن للمنظمة أن تنجح في الاختباء وراء «إدانة» التطبيع الخليجي الرسمي. لقد حان وقت المحاسبة والكشف عن مسؤولية المؤسسة الفلسطينية نفسها، جنباً الى جنب مع بقية العناصر الدولية والإقليمية، عن وصول الوضع العربي الى القاع الحالي. إن الدور الذي قام به النظام العربي، على مدى عقود، في إضعاف القضية الفلسطينية، معروف وعلني... أما الدور الذي قامت به السياسات الفلسطينية في إضعاف القوة الشعبية العربية، فلا يزال مسكوتاً عنه: لكن العلاقة التفاعلية بين هذين الدورين هي التي صاغت هذا الحضيض الشامل الذي يعيشه العرب حالياً. لطالما كانت إنجازات النضال الفلسطيني، ولحظات قوته، منذ شرعنة الكولونيالية في فلسطين (1948)، وعلى امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، مصدر إلهام وتعضيد لكل الحراكات الشعبية في البلدان العربية، فكانت ترسّخ الأمل وتضمّ المزيد من الناس الى قضية التغيير. لقد كان تقدم القضية الفلسطينية، وحتى أصغر انتصاراتها، يعطي للجماهير في جميع بلداننا توكيداً ملموساً، ومثالاً حياً، لمبادئ الحرية والعدالة والثورة على الظلم: لم يكن فقط الأحرار في بلداننا العربية يعضدون قضية فلسطين، وإنما كانت فلسطين نفسها تعضد قضية الحرية في كل بلد عربي. فلقضية الحق الفلسطيني فضل عظيم على الوعي السياسي لشعوب منطقتنا، بل وكانت مثلاً يستلهمه الأحرار في جميع القارات، وهو ما جعل كثيرين من المناضلين الأجانب ينخرطون في نضال المنظمات الفلسطينية المسلحة. لكن هذا الدور الملهِم تعرّض للخذلان على يد المؤسسة الفلسطينية نفسها التي ائتُمنَتْ عليه، حين بدأت تنحرف عن الجوهر الأخلاقي للقضية، وبالتالي الجوهر الأخلاقي لصيغة الحل النهائي، وتغرق في أمراض النظام العربي وفي أمراضها الخاصة، سواء أطلقَتْ هي على ذلك براغماتية أو واقعية سياسية أو غير ذلك. إن سقوط المؤسسة الفلسطينية الى هذا الدرك، هو من أقوى عوامل ذبول الروحية الثورية لدى الأجيال العربية الحالية، مقارَنةً مع الأجيال التي كانت تهزّ شوارع المدن العربية دعماً لفلسطين، ويترك أبناؤها كل شيء وراءهم ليلتحقوا بالكفاح المسلح من أجل التحرير.
المسيرة العمليّة للقضية الفلسطينية أبلغ من أيّ تنظير: وهذه المسيرة تخبر ـــ ببساطة ـــ أن قضية فلسطين كانت قوية في جميع الأوقات التي كانت فيها مستندة إلى فعل قوي على الأرض، سواء بالكفاح المسلح أو بالكفاح الشعبي المدني (ثورة الحجارة)، وأنها أصبحت ضعيفة عندما اختارت قيادتها الرسميّة أن تبقى عزلاء في ساحة المعركة.

*صحافي عراقي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا