لا يدهش المراقب أو الباحث السياسي، اليوم، من ملاحظة وجود أعدادٍ كبيرة من التنظيمات التي تحسب أو تعلن عن نفسها على أنها من اليسار، بإطاره العام أو المتعارف عليه إعلامياً في كل بلدٍ عربي، من المحيط إلى الخليج. ولا يستغرب الباحث السياسي من هذه الحالة، إذا ما عرف أنّ الأغلبية فيها جاءت نتيجة انشطارات وانقسامات من الجسم الرئيس، أو الأول تاريخياً في ذلك البلد، أي الحزب الشيوعي، ومنه تناسلت التنظيمات الأخرى، التي احتفظت بالاسم، وأضافت إليه ما يميّزه عنه. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأغلب الأعم هذا، انطلق من أسباب أو حجج تبرّر له ما قام به، ولكن هناك في الوقت نفسه عوامل أخرى، ولا سيما عند من تخطّى الاسم أو كشف عن طلاق واضح معه. وهناك غيرها من القوى التي تحوّلت وتبنّت الماركسية منهجاً علمياً في برامجها، كما عمل قسم منها على التنافس مع القوى والأحزاب القائمة والتي هي يسارية تاريخياً، ولا يعني هنا صحة احتكارها للمصطلح والمفهوم عموماً، ولكن صفحات التاريخ سجل شاهد ولا يمكن إنكاره أو تغطيته بغربال، رغم التعدّد والتنوّع في أشكال التنظيم وحتى التركيب الطبقي والاجتماعي لأغلبها.إذا نظرنا إلى أي بلد، نرى أكثر من تنظيم أو جماعة تحمل اسم «الحزب الشيوعي»، وتضيف إليه مثلاً اللجنة المركزية، القيادة المركزية، المكتب السياسي، القاعدة، الكادر المتقدّم، التصحيح، الماركسي اللينيني، الثوري، العمّالي وأمثالها، أو تغيّر الاسم كاملاً وتحمل اسماً آخر، كحزب الشعب، الحزب الاشتراكي، الديمقراطي، الوطني، أو التقدمي، وغيرها الكثير. وتعلن تبنّيها للفكر الاشتراكي العلمي، الماركسي اللينيني، أو الماوي أو التروتسكي أو الألباني وغيرها. في كلّ الأحوال، هذه هي ملامح عامّة للصورة التي تعكس واقع حال اليسار عموماً. وهذه ليست حالة جديدة، أو مبتدعة، ولكنّها تعبّر عن وضع ثقافي وسياسي وعن صراع فردي تحت غطاء أيديولوجي، وعن وعي أو مستوى وعي لدى عناصر القيادات والإدارات المتنفّذة في كلّ حزب وتجمّع وتنظيم سياسي. مع الانتباه إلى طبيعة التركيب الطبقي لكل منها، ودور القوى الاجتماعية المهيمنة فيها وتأثيرها على الانعطفات الأيديولوجية والصراعات السياسية، وحتى على عدد المنتسبين والأعضاء والارتباط والرهانات الأخرى. وبالتأكيد، يُطرح سؤال عن «ما هو اليسار»؟ وكيف يتميّز عن غيره أو كيف يعتبر بصفته وعنوانه، ولا يختلط في إطار المفهوم والمصطلح؟ ولا بأس من التحديد والتوصيف، لسعة التنظيمات وتعدّدها ورفع مصطلح اليسار عليها أو بمعناه. وتبدأ من تسمية أو احتكار المصطلح للأحزاب الشيوعية، بعنوانها واسمها أو ببرامجها ومواقفها. ولكن ينبغي التوقّف عند الانشقاقات وتغيّر عناوينها، ووضع مصطلح اليسار أو اتخاذه اسماً لها، كما حصل في أكثر من بلد عربي. ولم تتميّز هذه المسميات عملياً وواقعياً عن مصادرها أو أمّهاتها أو اختلفت كلياً عنها. يُضاف إلى ذلك، أو لا بدّ من الإشارة، انطلاقاً من التجربة والدروس التاريخية في عمليات انشطار وانشقاق داخل الأحزاب، إلى تدخّل قوى خارجية كالسلطات الحاكمة (البرجوازية المنشأ والتركيب الطبقي والاجتماعي والأغلب منها متحالف مع الرأسمالية العالمية والإمبريالية بأشكال متعدّدة)، وأجهزة الأمن لديها (التي قد تكون مزدوجة، أو متعدّدة الولاءات والانتماء السياسي والأمني)، في تلك العمليات لإضعاف تلك الأحزاب وإبعادها عن المنافسة، حتى ولو شكلياً أو لفظياً، ومنعها من الانتشار والتمدّد والتثقيف الأيديولوجي المعادي للإمبريالية والاستعمار والرجعية. ما حصل مع أقدم الأحزاب الشيوعية في أكثر البلدان العربية التي تأسّست فيها وناضلت من أجل تقدّمها وتطوّرها، شاهد وإثبات، وحتى في منظمات عسكرية تقاوم وتناضل من أجل هدف التحرّر الوطني والحرية والاستقلال.
إذا نظرنا إلى أي بلد نرى أكثر من تنظيم أو جماعة تحمل اسم «الحزب الشيوعي» وتضيف إليه عبارات أخرى


عملياً، أضعفت الانشقاقات والانشطارات داخل الأحزاب الشيوعية خصوصاً، من فعاليتها ودورها وتنفيذها لبرنامجها الطبقي والاجتماعي والفكري أيضاً، وأشغلتها أو دفعتها للتحارب في ما بينها أكثر من تفرّغها وعملها شعبياً واجتماعياً، كما أبعدتها عن تطوير الصيرورة الثورية في بلدانها واضطرارها لتبرير تحالفاتها وقبولها بموقع أو دور ما، وبالتالي خضوعها للتنازلات الميدانية والسياسية، وحتى الفكرية التي تتطلّب منها أن تكون فيها القائد والموجِّه للحركة والعملية السياسية وقيادة التغيير الثوري.
تاريخياً، الأحزاب الشيوعية من أقدم التيارات السياسية والفكرية في الوطن العربي، وتدور برامجها والتوجّهات التي كانت تحرّكها كلّها في نهضة شعوبها وأوطانها وتقدّمها وعمرانها، ولكنّها لم تتمكّن من تنفيذها بسبب تأثّرها بالانقسامات والتدخّلات والاختراقات الكبيرة من أعدائها داخلياً، وتوزّع اهتماماتها وتضييع فرص كبيرة لها. إلّا أنّها قدّمت، رغم المآسي، دروساً في التضحية والاستشهاد في سبيل الشعب والوطن، حتى سُمي بعضها بـ«أحزاب الشهداء» الذين سقطوا في السجون والتعذيب والقمع السياسي، ونتيجة الصراعات الداخلية البينية، خلال مسيرة الكفاح الوطني والطبقي.
تركت هذه المعطيات والأحداث آثارها السلبية، وتعمّقت في النفوس، وظلّت تتردّد في العلاقات السياسية ـــــ حتى في ظروف تحالفات ومشاركات مختلفة ــــــ بين الموالاة أو المعارضة، بينما لم تجرِ غالبيتها مراجعات نقدية، أو تحمل مسؤولية ما في مسيرتها ومصير شعبها ووطنها، إلى الآن، كما تتعنّت بعض القيادات في محاكمة تاريخها أو مصالحته مع غيرها، القريب أو البعيد، المشترك أو الجاني، الضحية أو الجلاد. هي، في النهاية، قوى وطنية يُشهد لها، ولكنّها غير قادرة على فرض برامجها الثورية، وقيادة العملية الثورية في بلدها لوحدها، وحتى بتحالفاتها مع القوى الأخرى الأقرب لها سياسياً وفكرياً. وللأسف، شوّهت بعض الانشقاقات الصادرة عنها تاريخها، ولا سيما تلك التي تعاونت مع أعداء الفكر اليساري، أو تعاملت مع الإمبريالية وأدواتها في أكثر من بلد عربي، ما أعطى لبعضها الآخر العذر لتجنّب العمل الجبهوي أو المشترك في ما بينها. وتلك مسألة تلحّ، الآن، بعدما حصل ويجري في الوطن العربي عموماً، وفي كلّ بلد منه خصوصاً، سواء من هجمة إمبريالية عدوانية لفرض الهيمنة الاستعمارية وإنهاك البلدان والشعوب في صراعات داخلية وخارجية، وإبعادها عن تطوير نفسها وبناء عمرانها، ومن صفقات تصفية للقضايا الرئيسَة، كالقضية الفلسطينية، أو الحريات والديمقراطية وحكم القانون، في البلدان التي جرت فيها حراكات شعبية واسعة، اشتركت فيها قطاعات شبابية من الطبقات والفئات العمّالية والفلاحية والصغيرة والمتوسّطة، أو الفقيرة والمحرومة في غالبيتها. يعني كلّ ذلك ضرورة البحث عن سبل أو طرق أو حلول، تؤدي إلى التفكير الجاد والمخلص لبناء كتل سياسية واضحة، معبّرة عن هذه الطبقات والفئات. وهنا، أركِّز على اليسار الوطني الديمقراطي، تأسيساً على تجسيد كلّ مصطلح ومفهوم لكلٍّ من اليسار الحقيقي، والوطني المخلص، والديمقراطي العملي بقناعة، لا لفظياً أو على المودة. على أن يكون ذلك منطلق العمل السليم في التغيير والإصلاح والبناء والسير في صيرورة ثورية جديدة، تغلب على الأنانيات الذاتية وعلى تعنّت القيادات المزمنة وعلى الإصرار على احتكار التيار والاستفراد بالقرار والمصير، والخضوع عملياً لإرادات الأعداء في إضعاف هذه الكتلة أو التيار اليساري في كلّ بلد، وفي المجموع، أي في الوطن العربي.
* كاتب عراقي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا