يعلن معظم السياسيين في لبنان أنّ «اتفاق الطائف» هو المرجعية التي يستمدّ منها اللبنانيون وِفاقهم الوطني، بعد الحرب الأهلية، خصوصاً بعدما تحوّل إلى دستور الدولة اللبنانية. نجح «اتفاق الطائف» في إخراج لبنان من الحرب، لكنّ الظروف التي مرّ بها البلد، والمنطقة المحيطة، أدّت إلى تنفيذه بطريقة انتقائية أحياناً ومجتزأة أحياناً أخرى. واليوم، بعد 31 عاماً على إعلانه، يؤكد اللبنانيون ــــــ كلٌّ على طريقته ــــــ أنّ «اتفاق الطائف» في مأزق، وقد وصل إلى طريق مسدود: البعض يعلن تمسّكه به ويدعو إلى استكمال تنفيذه بطريقة شاملة وعملية ومتوازنة. فريق آخر يطالب بإجراء بعض التعديلات والتوضيحات، خصوصاً في ما يتعلّق بصلاحيات رئيس الجمهورية، حتى يتمكّن من لعب دور فاعل ووازن. وكان الرئيس ميشال سليمان قد أكّد، في بداية عهده، إصراره على إطلاق ورشة إصلاحية من أجل استكمال تنفيذ «اتفاق الطائف»، وتحقيق مبدأ التوازن بين مسؤوليات وصلاحيات رئيس الجمهورية. لكنّ هذه المحاولة لم تبصِر النور.
مانا نيستاني ــ إيران

وهناك جهاتٌ تطالب بتجاوزه وتغييره واستبداله بعقد جديد، عبر مؤتمر تأسيسيّ لم تأتِ ساعته بعد، ولم تنضج ظروف إنجاحه. وغالباً ما يتمّ الحوار حوله بالجملة والعموميات، من دون تحديد الفقرات المختلف عليها. للفائدة، نعيد التذكير بالبنود التي لم تنفَّذ بعد بالكامل، وهي التالية وفق التسلسل، كما وردت في النصّ الأصلي:

1 ـ في الإصلاح:
ــ الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، ركنٌ أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام.
ــ العمل على تحقيق عدالة اجتماعية شاملة، من خلال الإصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي.
ــ الدائرة الانتخابية هي المحافظة.
ــ مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثّل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية.

2 ـ إلغاء الطائفية السياسية:
إلغاء الطائفية السياسية هدفٌ وطني أساسي، يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية، وعلى مجلس النواب المنتخَب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق هذا الهدف، وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضمّ بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس الوزراء، شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مهمّة الهيئة، دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية، وتقديمها إلى مجلسَي النواب والوزراء، ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.
ويتمّ في المرحلة الانتقالية ما يلي:
إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي، واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامّة والقضاء والمؤسّسات العسكرية والأمنية والمؤسّسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلّة، وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها، وفي ما يعادل الفئة الأولى فيها، وتكون هذه الوظائف مناصَفة بين المسيحيين والمسلمين من دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة.

3 ـ اللامركزية الإدارية :
ــ توسيع صلاحيات المحافظين والقائمقامين وتمثيل جميع إدارات الدولة في المناطق الإدارية على أعلى مستوى ممكن، تسهيلاً لخدمة المواطنين وتلبية لحاجاتهم محلياً.
ــ اعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى (القضاء وما دون)، عن طريق انتخاب مجلس لكلّ قضاء يرأسه القائمقام، تأميناً للمشاركة المحلية.
ــ اعتماد خطة إنمائية موحّدة شاملة للبلاد، قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً، وتعزيز موارد البلديات والبلديات الموحّدة والاتحادات البلدية بالإمكانات المالية اللازمة.

4 ـ قانون الانتخابات النيابية:
تجري الانتخابات النيابية، وفقاً لقانون انتخاب جديد على أساس المحافظة، يراعي القواعد التي تضمن العيش المشترك بين اللبنانيين، وتؤمّن صحّة التمثيل السياسي لشتى فئات الشعب وأجياله وفعالية ذلك التمثيل، بعد إعادة النظر في التقسيم الإداري في إطار وحدة الأرض والشعب والمؤسّسات.

5 ـ التعليم
ــ إصلاح التعليم الرسمي والمهني والتقني، وتعزيزه وتطويره بما يلبّي ويلائم حاجات البلاد الإنمائية والإعمارية. وإصلاح أوضاع الجامعة اللبنانية وتقديم الدعم لها، وخصوصاً في كلّياتها التطبيقية.
ــ إعادة النظر في المناهج وتطويرها، بما يعزّز الانتماء والانصهار الوطنيين، والانفتاح الروحي والثقافي وتوحيد الكتاب في مادَّتي التاريخ والتربية الوطنية.

6 ــ العلاقات اللبنانية ـــــ السورية:
إنّ لبنان، الذي هو عربي الانتماء والهوية، تربطه علاقات أخوية صادقة بجميع الدول العربية، وتقوم بينه وبين سوريا علاقات مميّزة تستمدّ قوّتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخوية المشتركة، وهو مفهوم يرتكز عليه التنسيق والتعاون بين البلدين، وسوف تجسّده اتفاقات بينهما، في شتّى المجالات، بما يحقّق مصلحة البلدين الشقيقين في إطار سيادة واستقلال كلّ منهما. استناداً إلى ذلك، ولأنّ تثبيت قواعد الأمن يوفّر المناخ المطلوب لتنمية هذه الروابط المتميّزة، فإنّه يقتضي عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سوريا، وسوريا لأمن لبنان، في أيّ حال من الأحوال. وعليه، فإنّ لبنان لا يسمح بأن يكون ممرّاً أو مستقرّاً لأيّ قوة أو دولة أو تنظيم، يستهدف المساس بأمنه أو أمن سوريا. وإنّ سوريا الحريصة على أمن لبنان واستقلاله ووحدته ووفاق أبنائه، لا تسمح بأيّ عمل يهدّد أمنه واستقلاله وسيادته.

«الطائف» اليوم
بمراجعة سريعة لهذه البنود، يتبيّن لنا أنّ بعضها لم يُنفَّذ، وبعضها الآخر تجاوزه الزمن ولم يعد صالحاً، خصوصاً بعد خروج الجيش السوري من لبنان، وما نشهده من تحوّلات جذرية في المنطقة. ومن التناقضات البارزة التي نشهدها في هذه الأيام على المسرح السياسي اللبناني المفكَّك، أنّ بعض القوى تُعلن التزامها وتمسّكها بـ«اتفاق الطائف»، وتؤكّد في الوقت نفسه «أنّ أيّ تفكير في تطوير الدستور أو التوجّه نحو صيغةٍ جديدةٍ، هو أمرٌ مرفوضٌ رفضاً مطلقاً في ظلّ هيمنة سلاح حزب الله». لكنّ هذه القوى نفسها تطرح مسألتَي الحياد والمداورة، اللتين تتناقضان مع «اتفاق الطائف» ولا تتجرّأ على طرح تعديله.
أولاً، الحياد يناقض الدستور اللبناني المعمول به، حتى الآن، والذي يرتكز إلى «اتفاق الطائف» الذي جاء فيه عن العلاقات اللبنانية ــــــ السورية، بأنها «مميّزة تستمدّ قوّتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخوية المشتركة». مع العلم بأنّ هذا الفريق يمارس العكس، ويعمل على القطيعة والعداء مع سوريا. لذلك، يستوجب اعتماد سياسة الحياد، أولاً، تعديل الدستور وتغيير «اتفاق الطائف»، وإلّا تبديل مفهوم الحياد حتّى يتطابق مع مضمون «الطائف» والدستور، وما نتج عنهما من إنشاء مجلس أعلى سوري لبناني، ومعاهدات تطبيقية.
ثانياً، يتمسّك بعض هذا الفريق بالمداورة في الحكومة انتقائياً، لكنّه لا يطبّق ما نصّ عليه «اتفاق الطائف»، لجهة ما ورد فيه أنّ وظائف الفئة الأولى توزَّع «مناصفة بين المسيحيين والمسلمين من دون تخصيص أيّة وظيفة لأيّة طائفة». وهذا البند غير مطبّق، لأنّ بعض الطوائف تحتكر وظائف أساسية من زمان، ولا تعتمد المداورة أبداً. لذلك، ومن أجل مواجهة تناقضات المعايير واستنسابية التنفيذ، فضلاً عن التحدّيات الوجودية التي تهدّد لبنان وإعادة صياغة مستقبله، هل يتمّ التوافق اللبناني مجدّداً على تطبيق «اتفاق الطائف» بكامل بنوده، من دون انتقائية أو مقايضة؟ أم يتمّ الاتفاق على خريطة طريق لتجاوزه؟ ومَن هي الجهة، أو الجهات، التي سوف تتولّى رعايته؟ المدخل في كلّ الحالات، توافُق الطبقة السياسية الملتزمة بـ«اتفاق الطائف» على عقد مؤتمر وطني جدّي، للاتفاق على تنفيد «اتفاق الطائف»، يكون برنامج عمله المرحلي على الأقل ما يلي:
ــ توحيد قراءة «اتفاق الطائف» بين مختلف الاجتهادات المتباينة.
ــ شرح بنوده منعاً للتفسيرات المتناقضة وما أكثرها.
ــ وضع آلية لتنفيذه مع روزنامة زمنية لتطبيقه بالكامل.
ــ وضع التعديلات اللازمة استناداً إلى التجربة وضرورات التحديث والتطوير.
ختاماً، هل ما زال «اتفاق الطائف» هو الحل، أم هو المشكلة في زمن يصعب فيه إنتاج تسوية جديدة واتفاق جديد، لأنّ الظروف اللبنانية والإقليمية غير مؤاتية بعد للتغيير؟

* كاتب وناشر لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا