إنّ العودة إلى قراءة التاريخ والأدب الفلسطيني، منذ عام 1948 وإلى منتصف الستينات من القرن الماضي، وما كُتب في تلك المرحلة قبل انطلاقة العمل الفدائي، مسألة أكثر من ضرورية في أيامنا. لماذا؟ لأننا سنعثر فيها على كثير من الشواهد والرموز والرسائل والصور التي تشبه واقعنا الراهن. وسنقرأ قصصاً لا تنتهي عن «الوكالة» (1) وحصار اللاجئين وقصائد شعر عن سؤال الهوية وأغاني ومواويل تناجي أرضاً بعيدة مفقودة. سنرى رسومات الحنين إلى وطن سليب، وكتابات عن التعذيب وعسف الأنظمة، وكيف عبر ثلاثة رجال في الصحراء وتاهوا في رحلة موت مؤكّد وطرق بلا نهاية أو أُفق، كأنّ التيهَ قدرٌ مَحتوم على شعب تشرّد وصارت فلسطين أرضاً مستحيلة، مُجرّد الاقتراب منها شيء من العبث والجنون والمستحيل.
ثم ولد الفدائيون الجُدُد. وتغيّر الواقع. لقد عاش الشعب الفلسطيني فترات صعبة وقاسية، وجرّب مرحلة الجزر والتراجع والهزيمة و«الانقسام» كالتي يعيشها اليوم، أكثر من مرّة، كانت عادة تتبعها ولادة فلسطينية جديدة، ينهض شعب جديد من تحت الرماد، وفق قاعدة تقول: من لا يتجدّد يتبدّد، كما تُخبرنا الحكمة الصينية القديمة. الأمر ليس ترفاً، ولا حتى خياراً، هناك ثمن كبير سيدفعه الشعب اللاجئ على الجهتين، حين يصمت أو حين يثور ويطلق قدرته الكامنة على آخرها مثل زفرات النار وحمم البراكين، ينشر عدوى الثورة والعصيان في كلّ مكان ويذهب حيث لا يجرؤ الآخرون. ففي مرحلة المَدّ الثوري، يتجدّد الفلسطيني ويكتشف قدرته الكامنة والهائلة، فيؤكّد حضوره الكوني وجمالياته وتعدّده.
في الثورة، وليس في «الفزعات» ولا في فشّة الخلق... كان يولد المثقف الجديد أيضاً. يُقال إنه شعب المعجزات والرسالات وصاحب قصة الخلق والولادة، وهذه صنعة فلسطينية قديمة. ولا عجب، ويقال أيضاً إنّه شعب الأنبياء والأساطير. كم مرّة قاوم الاستعمار والحملات والجيوش والخيول التي استهدفته أو عبرت في وطنه؟ أربعون مرة؟! لكنّه كان دائماً يتجدّد.
غير أنّ ولادة الفلسطيني الجديد لا علاقة لها بالمعجزات ولا بالأساطير والأحُجيات. ففي العصر الحديث، وفي زمن الاستعمار والرأسمالية، تكون الثورة المتجدّدة للسكان الأصليين، هي الطريق الباقي والممثل الشرعي الوحيد، خصوصاً لشعب لم يعُد لديه ما يخسره بعدما جرى سَلخه بقوة السلاح عن أرضه ووطنه، من أجل بناء قاعدة متقدّمة للاستعمار في قلب وطنه العربي. وتكون الحداثة وممارسة النقد الثوري الصريح، واستيعاب طاقة الجيل الجديد، أسلحة ضرورية إذا أراد مواكبة العصر، وجسر الهوة بين زمن العدو وزمنه، كما تصبح قضية التغيير مسألة وجودية، وليست وجهة نظر أو مسألة فكرية.
وبين كلّ ثورة وانتفاضة، يعيش فترة جزر ويأتي جيلٌ أو جيلان. يبدو فيها الشعب من الخارج كأنه اغترب عن قضيته وغاب تماماً، إلّا أنّه كان في الحقيقة موجوداً يغلي تحت الصفيح والرماد في الأفران ـــــــ المخيمات ـــــــ أحزمة البؤس ـــــــ في حصار وداخل صمت طال كثيراً في مرجل الواقع، حيث وصلت درجة الغضب فيه إلى الانفجار الحتمي. ينفجر ويتحقّق الشرط اللازم للتجدّد في الوجود والانبعاث من جديد. غير أنّه، وبرغم استعداده العالي للتضحية، لم يحقّق النصر، وذلك لأنّ مَن يقوده مِن طبقات تأخذه دائماً إلى كارثة وهزيمة.
إنّ الركون إلى دور العدو وجرائمه وإلى مؤسّسة القمع، حتى تقوم بهذه المهمة في صناعة الفلسطيني الجديد، هو شكل من أشكال العبث والتواطؤ بل والمشاركة في الجريمة. فلا القمع ولا الصمت يصنع الثورة، بل وعي الجماهير لدورها وهيبتها وحقوقها، وتوافر حالة ثورية فلسطينية منظمة وفضاء ثوري وعناصر كثيرة، أهمّها وجود الطلائع الثورية من الأجيال الجديدة، وقوى شعبية لم تبِع نفسها، إضافة إلى حضور مثقف نقدي يبدأ بالتبشير بالثورة بالقول والفعل الصريح، ويقول للجماهير: ثمة طريق بديل وجديد... مِن هُنا.
وفي مرحلة الهزيمة، يسعى معسكر العدو إلى تشكيل فلسطيني «جديد» على مقاسه: طبلاً وهَيكلاً فارغاً بلا روح ولا هدف ولا هوية. هذه وصفة جاهزة جاء بها الجنرال الأميركي كييث دايتون (2)، فالمستعمر الصهيوني يبحث عن صورة الفلسطيني المهزوم في مواجهة الفلسطيني المُتمرّد. فإذا رضخ واستسلم اعتبره «ممثلاً شرعياً» و«مسالماً» و«حضارياً»، ودعاه إلى البيت الأبيض والمحافل الدولية.
ويريد المستعمر أن يرى فلسطينياً يكون شرطي أمن بلا عقيدة وطنية، كلب حراسة، بدل صورة الفدائي الثائر، يريده موظفاً مسخاً يعمل في خدمة وحراسة مشاريع الاحتلال والاستعمار، مقابل صورة مغايرة لفلسطيني آخر عَصيّ على الكسر والترويض. إنّ العدو، في الجوهر، يبحث عن فلسطيني تقليدي، ذكوري، رجعي وبائس، لا روح فيه ولا حياة، مثل روبوت يمتثل لأمر مشغّله، ويعمل بالبطارية والشاحن (الدولار)، ولديه الاستعداد لأن يلغي وجوده، يفقد القدرة على الرفض وعلى الإبداع والخلق. لقد صار أداة رخيصة وتقادمت، ويمكن للمستعمر أن يرميها ويستبدلها بأداة أخرى... جاهزة في الإمارات!
في الثورة والعصيان، يتجدّد الفلسطيني، ومعه يتجدّد مشروعه الثقافي والسياسي وكلّ شيء


حاول المستعمر خلق «فلسطيني» على مقاسه، في ثلاثينات القرن الماضي، حين أُسّست «فصائل السلام الفلسطينية»، بزعامة «الباشا» راغب الناشيشيبي، وكتائب مسلّحة عميلة تعمل في خدمة الجيش البريطاني وتستهدف الثوار. كانت بريطانيا تقيم لهم مقرات، وتسمّيها «المقاطعات»، وكان هناك فلسطيني آخر نقيض، حمل سلاحه وصعد إلى الجبال ووقف على الضفة الأخرى. قاوم حتى الطلقة الأخيرة.
تعمل كيانات الاستيطان الاستعماري في العالم، على إذابة وصهر وعي المستعمَرين، لا بل صهر وشطب الوجود كلّه للسكان الأصليين ومحو تراثهم وتاريخهم ورموزهم ومجتمعهم، وقد نجحت في الكثير من الموقع والأزمنة في تحقيق أهدافها. إنّ قدرة السكان الأصليين، أصحاب الأرض، على القتال وإدامة الصراع، هي المسألة التي تحول دون تحقيق المستعمِر لهدفه في حسم المعركة. فكلّ فعل تحرّري، كلّ بيان ثوري، كلمة، رصاصة، قصيدة، حجر، رسمة، تظاهرة، كلّ فعل متمرِّد يعني أنّ المعركة لم تُحسم بعد.
فالتناقض بين المستعمِر والمستعمَر، يظلّ يستعر في الحالة الفلسطينية، يخبو ويعلو، لا يذهب إلا ليعود مرة أخرى. ذلك أنّ الصراع القائم ليس صراعاً على حصة في أرض أو على حدود ولا من أجل «الاستقلال»، ولا بهدف إقامة «دولة»، أو تشكيل «حكومة»، وليس نزاعاً على ثروة، إنّه صراع وجود واشتباك تاريخي مفتوح تعبره الأجيال وراء الأجيال، صراعٌ بين مشاريع كبرى تصل إلى الحرب ومستوى السؤال الوجودي المعروف (تكون أو لا تكون)، هذا الصراع من طراز مختلف، أبعد من السياسة، أعمق من تقارير الأخبار اليومية، لا يخضع لحالة الطقس ومزاج الطبقات والأنظمة. إنّ كلّ الحلول مستحيلة في صراع جوهره من هذا النوع: نفي ونفي مضاد.
يُدرك الشعب الفلسطيني في حسّه وأعماقه، أن لا حلّ للصراع إلّا بالنصر. والنصر يعني السلام والعدل. ولا سلام ولا عدل إلّا إذا انتصر وزال كيان الاستعمار الصهيوني من وطنه. هذا هو الفرق الهائل والكبير بين من يبحث عن النصر ومن يبحث عن الحل. بين من يبحث عن وطن حُر وبين من يبحث عن كيان ودولة مسخ!
إنّ السلطوي الفلسطيني يدّعي دائماً أنه «عصري» و«جديد»، فيرتدي مساحيق «الوطنية» ويُكثر الحديث عن السلام ليبرّر استسلامه وخضوعه للعدو. الحقيقة أنّه ذليل أجير أمام الأمير النفطي، وفي نادي الخواجات. إنّ كل ثياب وعطور باريس لن تخفي عفونته، أمّا نقيضه فهو فلسطيني ثوري حديث وتعدديّ ونقديّ وشعبيّ.
الأوّل يبحث عن سيارة جديدة وساعة جديدة وقصر جديد، وعن خلاص فردي ومصالح طبقة عميلة؛ أما الثاني، فيبحث عن فكر جديد وعن خلاص جماعي. الأول ينتمي إلى عصابة ويطرب حين تناديه الجماهير «باشا»، ويختبئ خلف جهاز مخابرات أو نظام. والثاني، ينتمي إلى مصالح الطبقات الشعبية والمستقبل والوضوح. إنها المسافة الفاصلة بين السلطة والثورة، بين المسخ أحمد المجدلاني والقائد الشهيد غيفارا غزّة.
وستظل العلاقة مشحونة ومتوترة بين فلسطينيّ التسوية، وبين فلسطينيّ آخر يرفض التسوية، ويرى فيها استسلاماً. وهذا صراع داخلي، طبقي في جوهره، و جزء لا يتجزّأ من صراع أكبر بين الاحتلال وأدواته من جهة، وبين الطبقات الشعبية المسحوقة من جهة أخرى. ولكلّ طبقة مثقّفُها وصوتها ولسانها.
وجد الشعب الفلسطيني نفسه في «بوز المدفع» كما يُقال، أمام هجمة استعمارية استيطانية تستهدف هذه المرة اقتلاعه والسيطرة على المنطقة والعالم. من الطبيعي، إذن، أن يكون في «الخندق المتقدّم»، وعلى خطوط المواجهة الأولى، ضد قوى الإمبريالية والصهيونية والرجعية. إنّهم لم يتركوا له خيارات ولا طرقاً أخرى، فصار عليه أن «يختار» بين طريق الثورة والعبودية. إما التمرّد أو الخضوع. وكلّ ما بينهما في الوسط سيظلّ غير ذي صلة.
متى يولد الفلسطيني الجديد؟
في الثورة والعصيان، يتجدّد الفلسطيني، ومعه يتجدّد مشروعه الثقافي والسياسي وكلّ شيء. فما أحدثته الثورة الفلسطينية المسلّحة، منذ بداية الستينات وحتى عام 1974، وما حقّقته الانتفاضة الأولى، بين عامي 1987 ــــــ 1993، طال كلّ مناحي حياة الفلسطينيين ووجودهم، من الفكر إلى الأدب والفن والمسرح، وصولاً إلى معنى الهوية الوطنية. إنها فترات النهوض، حيث ينتقل فيها الفلسطيني من حيّز الصمت والانتظار إلى حيّز الصراخ والفعل والمبادرة والإبداع. وفي العصيان المسلّح بالحجر أو البندقية، يكتشف الشعب الفلسطيني قوّته المدهشة، ويكتشف العدو حقيقة فشله في حسم الصراع.
لقد كتب غسان كنفاني عن شخص أعمى استعاد وعيه فجأة، فوجد نفسه يقف أمام جدار على مفترق طرق. فأين يذهب؟ ليس مهماً، لقد استعاد الرؤية وهذا هو المهم. هذا شرط التجدّد في حيّزه الثقافي أولاً. الشرط اللازم، فلا طريق من دون رؤية، ولا رؤية من دون مواجهة الحقيقة أولاً. وطالما صار في وسعه أن يرى الجدار والطريق، إذن، سيقرّر الوجهة التي يسلكها ويتحمل المسؤولية عن قراراته، لقد تحرّر من أوهامه ومن الظلمة والأصنام، صار حراً طليقاً في وجوده، الحر يختار ويصبح من حقه أن يُخطئ ويصيب. أما العبيد والخدم فإنهم ذوات مستلَبة الوعي والإرادة، ضحايا بلا معنى، ولذلك يرسلونهم إلى صناديق الانتخابات ويطلقون عليها «اللعبة الديمقراطية» تحت الاحتلال. كانتخابات التشريعي أو الكنيست... لا فرق!
إنّ استلاب الوعي لا يحقّق للفلسطيني شرط تحرّره، وإعادة خلق نفسه ولا يسعفه في امتلاك الرؤية الصحيحة ومواجهة الحقيقة، وهذه كلّها شروط تسبق ـــــ أو تلازم ــــــ حركة التغيير بالإرادة الشعبية وحمل السلاح واكتشاف الذات، وتحديد الهدف ومعرفة الصديق والعدو.
وللفلسطيني الثوري الجديد هدف وطريق ورسالة. عليه حمل سلاحه وصليبه معاً، كما تصوّره ورسمه الشهيد ناجي العلي: المقاتل، الفدائي، المسيح، النبي، المبشّر، المتمرّد، الثائر، اليقظ، الناقد، القارئ، الجديد، وصاحب رسالة كونية؛ يكره العنصرية والاستغلال ويدعو إلى المساواة والعدالة. ومن دون أن يكون الفلسطيني الجديد نقيض الزواحف والسماسرة، ومن دون أن يتمثّل هذه الأخلاق ويمارس هذه القيَم الكبرى، فلن يتجدّد ولن يعرف طريق العودة، وسيظلّ يبحث عن خلاصه الفردي في صحارى التيه وفي خزّانات الصمت وقوارب الموت، ولن يصل إلى أيّ شيء.
لقد أغلقوا أمامه كلّ المنافذ والطرق، فاتّجه نحو الشمال. واستبدل مدن الملح بمدن الثلج، وكلاهما في الحقيقة طريق لم يختره، إنما وجد نفسه مدفوعاً إليه دفعاً، بالحصار والحروب والجوع، كي يظلّ مرشحاً للموت المجاني بلا هدف، فإذا استعاد وعيه تجدّد وتمرّد، وقرأ الرسالة والبوصلة، فتلازم في سلوكه الفكر والرصاص، وقال لنفسه: إذا كان لا بُدّ من صمود وتضحية وقتال، إذا كان لا بدّ من ثمن وموت، فليكن له معنى المجد والخلود في طريق التحرير والعودة إلى فلسطين.
* كاتب فلسطيني

هوامش:
الوكالة: المقصود وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا)
دايتون: الجنرال الأميركي الذي أشرف على بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بعد عام 2005

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا