في البدء ينبغي التأكيد على أن الفكر هو مجال حر،ّ هو تداول للأفكار والمبادئ التي قد تُترجم على أرض الواقع أو لا تُترجم. لكن في كلتا الحالتين تظلّ الأفكار متداولة، ويتم النقاش حولها كما نفعل حين نقرأ جمهورية أفلاطون مثلاً، وهي كُتبت منذ أكثر من ألفي سنة. لذلك لا نحكم على الأفكار بالنجاح أو الفشل، إنّما نستطيع أن نحكم على حزب بفشله في تعميم الأفكار التي يتبنّاها، أو فشله في تطبيقها. في مقالته «لا، مشروع سعاده لم يفشل» (راجع العدد الأخير من مجلة فينيق)، يبادر أحمد أصفهاني إلى تحميل الشعب مسؤولية الفشل. يكتب الصحافي اللبناني: «ماذا عن مسؤولية الشعب الذي خاطبه سعاده؟... الذي فشل بالفعل هو هذه الأجيال التي تغافلت عن الأخطار القومية المحدقة». ويشدّد على «أن المعضلة هي في غياب الوعي القومي وضياع الهوية القومية». لو كانت الهويّة القوميّة موجودة لم نكن بحاجة لفكر كفكر أنطون سعاده. الفكر القوميّ لم يكن موجوداً في منطقة الهلال الخصيب أو العالم العربي، كونه عاش لقرون تحت هوية دينيّة انتقلت إلى العثمانيين، وعمّموها على هذا العالم الذي حكموه لمدة خمسة قرون. حين باشر سعاده دعوته كان يعرف تمام المعرفة أنه يقدّم فكراً جديداً مغايراً لكلّ ما عرفته سوراقيا منذ القرن السابع الميلادي. وكان يعرف أنه تحدٍّ شبه مستحيل أن ينتقل المجتمع من أولوية الهوية الدينية إلى الهوية القوميّة، حيث تتساوى الأديان والطوائف أمام أولوية الولاء للوطن القومي بمدة قصيرة، لذلك تكلّم عن «أجيال لم تولد بعد». هذا لا يعني أن نتقاعس عن واجباتنا بالتبشير والتعليم والتفسير، وإقامة المنتديات الفكرية والحورات والمحاضرات والنقاشات، لبلورة المفاهيم وتوعية الرأي العام. هل قام بذلك الحزب السوري القومي الاجتماعي؟ هل قام المثقّفون السوريون القوميون الاجتماعيون بهذه المهمّة، أم تقوقعوا وبدأوا بمهاجمة الناس بدلاً من التحاور معهم؟لا وجود لشعب في المشرق العربي، لأنّ مدلول الشعب مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الدولة الوطنية/القومية. نحن نعيش حالة هويات طائفية وإثنية، ولم ندخل العالم الحديث المبنيّ على الهوية الوطنيّة لأسباب عديدة داخلية وخارجية. فأين دور الحزب بقياداته ومثقّفيه في نقل كيانات سوراقيا من حالة إلى أخرى؟
لا أستطيع أن ألوم الشعب كما لا أستطيع أن ألوم طلابي الجامعيين إذا فشلوا في امتحاناهم. حين يفشل الطلاب كنت ألوم دائماً الأستاذ، ففشلهم هو نتيجة فشله في إيصال الحقائق لهم، كما يراها بالطبع. كلّ الذين آمنوا بمبادئ الدولة الوطنية/القومية، وتقاعسوا عن تعليم أدرانهم، هم المسؤولون عن الفشل الذريع الذي نعاني منه اليوم. وإلقاء اللوم على «الشعب» الذي هو غير موجود أصلاً إلّا كطوائف ومذاهب وإثنيات، هو هروب من المسؤولية.
كان من الأفضل الاعتراف بأنّنا لم نحاول تغيير المجتمع، بل انهمكنا بالعمل على الوصول إلى السلطة كبقيّة الأحزاب السياسية، بالرغم من أن سعاده نعت حزبه «بالاجتماعي»، أي أنّ هدفه تغيير المجتمع.
* أستاذة جامعية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا