الأحداث الخطيرة والمقلقة التي شهدتها فرنسا، أدّت إلى ما يشبه المواجهة الحادّة بين الرئيس الفرنسي وحكومته من جهة، وردود الفعل الإسلاميّة على مختلف أشكالها من جهة أخرى. يكفي التوقّف عند الكميّة الهائلة من ردود الفعل الحادّة على مواقع التواصل الاجتماعي، كي نلمس حجم هذا الشرخ. هذا إضافة إلى ردود الفعل التي صدرت عن مثقّفين وأكاديميين وسياسيين وصحافيين... علينا التأمّل بكلّ ردود الفعل تلك، لمحاولة فهم السياق المباشر الذي سيساعد ربّما في فهم الحالة العامة التي تمرّ بها المجتمعات المأزومة، تلك التي أشار إليها الرئيس الفرنسي قبل الاعتداء الإرهابي على المدرّس صموئيل باتي، ناسياً أن يشمل المجتمعات الغربية (وأوّلها فرنسا) في توصيفه، مع أنّها بؤرة هذه الأزمة.من ضمن ردود الفعل، تم استحضار التاريخ، والتذكير بأمجاد الإسلام، والتوقّف عند حملة نابليون ومقتل الجنرال كليبر وانتهاء الحلم الفرنسي في إنشاء إمبراطورية في الشرق. إضافة إلى الاستشهاد بآيات قرآنية وتأويلها لتتطابق مع حالة ماكرون الشخصية، والانتقام الإلهي منه. هناك أيضاً استحضار التهويمات الإسلامويّة التي تحنّ للعودة إلى زمن الخلافة، وفي سياقها يأتي الاحتفال ببطولات السلطان عبد الحميد وقيامه ذات مرّة بطرد ممثل فرنسا وغيره من الدول الأوروبية! ولم يفُت الخطاب «المنتصر» أن يستعيد زمناً نُعِتت فيه دولة الخلافة بـ «الرجل المريض»! كثيرة هي ردود الفعل على الموقف الرسمي الفرنسي التي استحضرت التاريخ، وقد بدا جزء منها صائباً، فيما تاه جزء آخر. وجرى التوقّف عند العلاقة الاستعمارية التي أعادتها الأحداث المأسوية المتدافعة إلى دائرة الضوء. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى التضخيم والمبالغة في توظيف السياقات التاريخيّة، والإسقاطات التاريخية على تشنجّات الراهن، تواجهه على الضفّة الأخرى حالة سخط وغضب شعبيَّين مشرّعَين على أسوأ الاحتمالات. وفي خضم فارق التوقيت هذا، بدأت بعض الجماعات اليوم بالصحو على ماضٍ لم تُعِره ذلك الاهتمام في السابق. بل ولم تفكّك في السابق تبعاته على واقعها وحياتها، رغم أنه يُثقل كاهلها منذ عهود طويلة! بدءاً من سايكس بيكو وكل تبعاتها. هنا لا بدّ من التوقّف عند تبعات الاستعمار الفرنسي وانعكاساتها على مجتمعاتنا ودولنا وكياناتنا. وتنبغي العودة إلى تدخلات فرنسا الاستعلائية التي ما تزال مستمرّة حتى اليوم، كما في لبنان حيث جاءت تدخّلات الرئيس ماكرون لتعيد إلى الأذهان الإرث الاستعماري. حتى أن هذه السياسة الماكرونية لاقتها من الضفة الأخرى أصوات تحنّ إلى زمن الاستعمار ـــ اسمه في لبنان «الانتداب الفرنسي» ـــ وترى فيه الخلاص الوحيد الممكن لهذا البلد المعذّب! فيما أعرض الرسميّون والزعماء وأقطاب السياسة تماماً عن مفاتحة ماكرون بقضيّة المناضل جورج إبراهيم عبد الله الذي مرّت أخيراً الذكرى السادسة والثلاثون لاعتقاله في سجون فرنسا!
هناك جزء طاغ من الرأي العام تحرّكه النعرات والعصبيات الدينيّة، أكثر من القضايا الوطنيّة والقوميّة والاجتماعيّة. وهذا يحدّد في مجتمعاتنا معايير ما هو مُهين لشعوبنا، وما ليس مُهيناً. إنّها أولويات الإهانة المجزأة التي تعبّر عن شروخ الهويّة والوعي في منطقتنا العربية.
تقسيمات سايكس بيكو كانت فاتحة تمزق الهويات وتشتّتها في المنطقة، وحولت المشرق العربي إلى كيانات ليست حرة الإرادة، ولا سيّدة قراراتها ووجودها. كل الأزمات والتوترات والحروب الأهلية اللاحقة جاءت ترسّخ الهويات المأزومة والانتماءات المتضاربة والحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية غير المستقرة أساساً. هكذا نجد أن حملات الاستنكار على الرسوم المسيئة، جاءت في فلسطين أكبر حجماً من حركة الاحتجاج على نقل سفارة الاحتلال إلى القدس. ومن كلّ الاحتجاجات على رفض الانتهاكات اليومية بحق الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. هل اعتاد شعبنا على القتل والاعتقالات وتدمير المنازل ومصادرة الأراضي، فإذا به غاضب على رسوم مسيئة في فرنسا، فيما يشيح بوجهه عن معاناة الأسير ماهر الأخرس المضرب عن الطعام في سجون إسرائيل!
إن أزمة الرسوم المسيئة، من دون أن نتجاهل الفوقية الفرنسية ما بعد الاستعماريّة، تطرح علينا مرّة جديدة التحدي الأكبر: كيف نسلك دروب التقدّم والعقلانيّة والتغيير، كيف نواجه تحدّيات «الهوية المأزومة»، ونعالج انتماءاتنا المجزّأة، المشتتة؟ كيف نعيد الاعتبار إلى الهوية الجامعة التي تشمل كل هذه العناصر وتُدرجها تحتها! فأن تُختَصر هويتنا بالدين فقط هي أزمة فعلاً! لكنها نتيجة تراكم تاريخيّ وسياسيّ واجتماعيّ ضارب عميقاً في الزمن. انتقلت المنطقة من احتلال إلى احتلال، تنامت العصبيات المذهبية والإثنية على حساب الانتماء القومي الوطني والحضاري. بات الدين ملجأ للهوية، وتراجعت المشاريع القومية والتنويرية والنهضويّة. تسعى المجموعات في تشتتها وضياعها، بين قهر وخوف وتقوقع ولاعقلانية، إلى هويات بديلة لتحتمي بها. إن أزمتنا اليوم، ليست أزمة دين يختلف شكله باختلاف ثقافات الشعوب، بل هي أزمة هوية وأزمة شخصية غير مدركة لنفسها وغير واعية لمصيرها المشترك بين الجموع.
يمكن القول اليوم إن «الهويّات القاتلة» تبحث عن مرتكزاتها وانعكاساتها داخل الكيان الواحد. فإذا بمواقفنا في مواجهة المحتل مجزأة، كما تبدو ردود الفعل على كل القضايا الوجودية والاجتماعية والفكرية والمصيريّة،
انتقائية ومجزأة. فمنّا من يحمل الحجر لتحرير فلسطين سايكس بيكو، ومنّا من يحمل الحجر لتحرير فلسطين 67، ومنا من يحمل الحجر لتحرير الأقصى، ومنّا من يحمل الحجر لتوحيد العالم «العربي»، ومنّا من يحمل الحجر لنصرة أمة المليار مسلم، ومنا من لا يحمل الحجر أصلاً! بكلمات أخرى، إن تراكمات الهزيمة والخضوع، ساهمت في تكوين شخصية مُستلَبة، وذاكرة قصيرة الأمد، سهلة الاعتياد، وباحثة ممتازة عن البدائل السهلة... لنجد أنفسنا نحتمي بملجأ أيّ هوية من شأنها أن تجمع بعضاً منا في مواجهة البعض الآخر، كحاجة طبيعية يفرضها منطق الوجود. هوية تجعل من الشخص جزءاً من جماعة، ينتمي إليها ويدافع عنها وتدافع عنه. ولا مفرّ اليوم، في ظلّ تضارب الهويات وتشتتها، من هيمنة وعي غيبي يشدّ عصب «الأمة» ويرمّم هيكلها المكسور، في انتظار توافر الظروف الموضوعيّة لانبعاث هويّة أكثر شمولية وانفتاحاً وقدرة على الجمع والتوحيد واستعادة الحقوق.
* باحثة فلسطينية من القدس

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا