ليس لديّ صفة تؤهّلني الدخول إلى حلبة هذا النقاش المستعر بين أمّة محمد وبين الحكومة الفرنسية، سوى أنني كتبت كتاباً بالإنكليزية قبل بضع سنوات بعنوان صُوَر محمد: سِيَر الرسول في التراث الإسلامي عبر العصور، حاولت فيه أن أرصد التحوّلات التي طرأت على سيرته منذ البداية وحتى القرن العشرين، فكان لي شرف ومتعة التعرّف إلى العديد من المصادر، وما أحسب ما قرأته منها سوى غيض من فيض، آملاً أن يأتي من بعدي مَن يعدّل أو يجرح هذه الصور التاريخية التي رسمتها أو يقلبها رأساً على عقب.ما يهمّني، هنا، هو أوّلاً أن أستعرض بإيجاز موضوع الإساءة إلى النبي، ثم أنتقل إلى جريمة مدينة نيس، وأختتم ببعض التأمّلات حول مفهوم حرية التعبير.
أجمع فقهاء المسلمين، عبر العصور، «على أنّ من سبّ النبي قُتل» (النص من كتاب الإجماع لابن المنذر). وقد نقارن هذا الإجماع بما جاء أولاً في كتاب الله {فاصدعْ بما تُؤمَر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين} كما قد نقارنه، ثانياً، بمثال تاريخي يثير الاهتمام حول تصرّف بعض قضاة المسلمين في حالات الشتم. السؤال الآن هو الآتي: هل الكاريكاتور الذي أثار العاصفة سبٌّ أم استهزاء؟ بما أن القتل أمر عظيم الخطر، ولا ينبغي الاستهانة به في أي ظرف من الظروف، فقد نجد بين فقهاء المسلمين من ينحو نحو اعتبار هذا الكاريكاتور نوعاً من الاستهزاء الصادر عن قلّة أدب أو جهل أو بذاءة، اشتهرت بها تلك المجلّة، أعني «شارلي إبدو». هنا، قد يرى البعض أن لا داعي يدعو للانحدار والتصويب على مثل تلك البذاءات، لا سيما أنّ منصّات التواصل عند اليمين الغربي تزخر بأمثالها يومياً. بل قد نذكر قول الشاعر:
إذا كُل كلبٍ عوى القمته حجراً
لأصبح الصخر مثقالاً بدينار
ولدى تصفّحي للسِير النبوية المبكرة، تبيّن لي وجود كمٍّ كبيرٍ من الروايات التي حافظت عليها تلك المصادر عبر الزمن، والتي فيها من الاستهزاء والإساءة إلى النبي الكريم ما فيها. بالطبع، لم يكن في نيّة هؤلاء المؤلّفين الأجلّاء الإساءة إلى نبيّهم، بل الذي حملهم على إيراد تلك الروايات المسيئة، هو حرصهم الشديد على نقل كلّ ما وصلهم عن الرسول بغثه وسمينه، وبأمانة تامة. وجاء من بعدهم جيل آخر من كتّاب السير، فشذّب وحذف ونفى عن الرسول كلّ رواية تسيء إليه في المصادر السابقة. لكن لا نجد أنّ اللاحقين قد طالبوا بحرق أعمال السابقين، ولم يعمدوا إلى تكفيرهم، ولم يطلبوا من تلاميذهم عدم اللجوء إلى أعمالهم. فهل نأتي اليوم بابن إسحاق وابن سعد والبلاذري والطبري وغيرهم، ونطالب بنحرهم أو بحرق كتبهم في مكان عام؟
أمّا شتم الرسول، وكيف تعامل بعض قضاة المسلمين مع هذا الأمر الموجب للقتل، فالمثال الأبرز هو مثال قاضي قرطبة بين عامي 851 و859 ميلادية، إذ أقدم حوالى ثمانية وأربعون مسيحياً على المثول أمام قاضي قرطبة وشتموا الرسول علناً، مع علمهم الأكيد أن العقاب هو الموت. هؤلاء هم «شهداء قرطبة»، الذين رسمت الكنيسة البعض منهم قدّيسين في ما بعد. هل تناول القاضي سكّيناً وذبحهم فوراً؟ لم يألُ القاضي جهداً في التنقيب عن أسباب هذا التصرّف، واستجوابهم حول هذا الموضوع. هل كانوا يتمتّعون بكلّ قواهم العقلية؟ هل مسّهم الشيطان وأغراهم بهذا العمل؟ هل كانوا بالفعل ينوون الإساءة؟ هل من فرصة للتوبة أو العودة عن هذا الكلام؟ ومع إصرارهم الشديد على ما فعلوا، لم يجد القاضي بعد استنفاد فرص النجاة المتاحة لهم كافّة، سوى إصدار الأمر بإعدامهم. وهكذا نرى أنّ اللجوء إلى القتل في حالة الشتم، لا يتم إلا بعد بحث مستفيض حول أحوال الشاتم وما دفعه إلى الشتم وما نواياه الحقيقية، وبعد أن يُستتاب ويرفض التوبة بإصرار وتعمّد وتعقّل.
يبدو أنّ أوروبا بحاجة ماسّة إلى إعادة النظر في تعريفها لحرية التعبير


ونأتي إلى نيس حيث يدخل شاب «مسلم» إلى كنيسة ويطعن امرأتين ويحزّ رأس إحداهما، ثمّ يطعن رجلاً حتى الموت و يجرح آخرين. فظاعة هذا العمل متعدّدة الأوجه، فهي أولاً قتل أبرياء عزّل لا يعرفهم القاتل، ولا يعرف عن آرائهم شيئاً، وهي ثانياً قتل مؤمنات ومؤمنين في مكان عبادة، وهي ثالثاً وقبل كل ما عداه، جريمة بحقّ السيد المسيح الذي هو أقرب الأنبياء إلى نبيّنا، والذي تكنّ له أدبيات الإسلام محبّة لا تضاهيها سوى محبّة الرسول التي سنعود إليها أدناه. لذا فهذه ليست جريمة قتل أبرياء عن سابق تصميم فحسب، بل هي جريمة حضارية بمعنى أنها جريمة بحق حضارة الإسلام وتاريخه وتراثه واحترامه الكبير للديانات السماوية وسجلّه التاريخي في هذا المضمار. فلو هاجم هذا الإنسان معسكراً للجيش الإفرنسي مثلاً، بطلب الثأر لما فعلته وتفعله فرنسا الاستعمارية، لكان في الأمر نظر، أما جريمته تلك فهي جريمة خسيسة لا يرتكبها سوى الجبان الرعديد أو ذاك الذي يذبح الخراف المسكينة ولا يخشى صولتها عليه. ويقيني أنّ السواد الأعظم من فقهاء المسلمين وأصحاب العقل والنظر، لا يحسبون هذا المجرم المعتوه مسلماً إذ يخرجه عمل كهذا من أمة الإسلام فوراً.
هل يصح إذاً، أن ننسب هذه الجريمة إلى ما تسمّيه العديد من وسائل الإعلام الغربية «الإرهاب الإسلاموي»، أو إلى «الإسلامو - فاشية»: هذه التسميات «الملطّفة» التي لا تكاد تخفي عداءها الواضح للإسلام ذاته؟ ثم إذا كان لنا أن نتعامل بعد اليوم بهذه التسميات، فهل نقول عن المجرم الذي قتل المصلّين في نيوزيلندا، إنه ينتمي إلى المسيحو - فاشية؟ وماذا عن الذي قتل عشرات المصلّين في الحرم الإبراهيمي في الخليل: هل كان ينتمي إلى منظمة نسمّيها يهودو - فاشية؟ أما أن نحصر هذه التسمية المقزّزة بالإسلام وحده، فهذا ليس إلّا إمعاناً في الكراهية. ثمّ أليس من الغريب حقاً أن تحظى هذه الجرائم، خصوصاً إذا اقترفها «مسلم» فرد، بتغطية إعلامية غربية لا نظير لها، فيما يرزح شعب فلسطيني بكامله تحت نير احتلال وحشي تُرتكب فيه مثل تلك الجرائم الفردية، بل وأفظع منها، كلّ يوم فلا نسمع ولو صداً خافتاً لها في الغرب؟
نصل أخيراً إلى حرية التعبير. قبل عام أو أكثر بقليل، وقف إيمانويل ماكرون خطيباً في مكان عام في فرنسا، وإلى جانبه وقف مبتسماً بيبي نتنياهو المشهود له بنظافة الكف والصدق والابتعاد عن العنصرية، وخاطب ماكرون الجمهور قائلاً إنّ معاداة الصهيونية تعني معاداة السامية. وبما أنّ معاداة السامية، هي جريمة في القوانين الفرنسية والأوروبية، علينا أن نستنتج من هذا الكلام أنّ أيّ نقد قد نتوجّه به صوب أيّ فكرة صهيونية أو فرد صهيوني أو قانون صهيوني، بل أي قانون تسنّه دولة إسرائيل يُعتبر في نظره جريمة يطالها العقاب. لقد نجح السيد ماكرون في إقناع البرلمان الإفرنسي بسَنِّ قانون كهذا، لذا لم يكن كلامه مجرّد بادرة ودّ ولطف نحو ضيفه العزيز فحسب.
دعنا نتأمّل ما يعنيه هذا الأمر بالنسبة إلى حرية التعبير. أغلق ماكرون بتصريحه، ثم بقانونه هذا، باباً واسعاً من أبواب حرية التعبير، فإذا وقف أحدهم اليوم واستعاد ما قاله مثلاً الأسقف دزموند توتو (الذي قال «إنّ نظام الأبرتايد في إسرائيل» - والذي هو في صلب الفكر الصهيوني - «هو أسوأ من مثيله في أفريقيا الجنوبية»)، منعه ماكرون من الكلام وأحاله إلى المحكمة بجرم معاداة السامية.
يبدو لي أنّ أوروبا بحاجة ماسّة إلى إعادة النظر في تعريفها لحرية التعبير. ما لا يفهمه الكثيرون في أوروبا، وفي طليعتهم «خبراء الإسلام» التلفزيونيون الذين يزداد عددهم باطراد، يوماً بعد يوم، أنّ حب الرسول كما يقول المفكّر الكبير محمد إقبال «يسري في عروق أمّته كالدم». فهل نمنع مجلة «شارلي إبدو» أو غيرها من نفي المحرقة النازية، أو الشك في بعض جوانبها، وهي أمور يمنعها القانون الفرنسي تحديداً، وخلافاً لجميع أنواع الخطاب العنصري والتعصّب الأخرى، ثم نسمح لها بحرية السخرية من نبي يسري حبّه في عروق بليون ونصف من البشر؟ هذا ومثله من الأسئلة، يجب أن يتوقّف عندها كلّ من يهتم بحرية الرأي.
* أكاديمي فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا