لا بدّ في البداية، بالاستناد إلى الاقتصادي الهنغاري توماس سنتش في كتابه «الاقتصاد السياسي للتخلّف»، من ذكر مفصل بالغ الأهمية: إنّ عملية التصنيع الذي بادرت إليه بعض الدول النامية منذ حقبة الستينات، خصوصاً تلك الدول التي اعتمدت على القروض والمساعدات التقنية من الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، استندت بشكل رئيسي إلى أنّ الموقع الاحتكاري القوي لبلدان المراكز الصناعية المتطوّرة، في ما يخص الصناعات الثقيلة الرئيسية، مكّنها من أن تتنازل عن احتكارها لمجموعة من الصناعات التحويلية لصالح دول الأطراف. وعلاوة على أهمية هذه العملية في توسيع السوق الرأسمالية على الصعيد العالمي ككل، حافظت دول المركز الرأسمالي على نوع آخر من الاحتكار، أشد خطورة وفعالية، هو الاحتكار التقني، وبالتحديد في مجال الإلكترونيات والأتمتة والمواد المركّبة. والأهم من ذلك، مسألة الملكية الفكرية واحتكار القدرات العلمية والبحث العلمي. تنبع أهمية قراءة هذا العمل، وما يقابله من أعمال الاقتصاديين الماركسيين في القرن العشرين، مثل هاري ماغدوف وبول باران وبول سويزي ويوجين فارغا وسمير أمين وجندر فرانك وأوسكار لانغه وغيرهم، في أنّه يتحدّث عن التخلّف الهيكليّ والبنيويّ الذي تعاني منه بلدان الأطراف في مرحلة ما قبل الليبرالية الجديدة، عندما كان وجود الاتّحاد السوفياتي والكتلة الشرقية يُعطي زخماً أكبر للتنمية في تلك الدول. وسنشهد كيف تعمّقت الميول المحفّزة للتبادل غير المتكافئ لصالح المراكز الرأسمالية في الحقبة الجديدة، وكيف توطّدت أشكال الاحتكار والهيمنة على جميع الأصعدة.في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى سبعينيات القرن العشرين، والتي تُعرف بالحقبة الكينزية (نسبة إلى الاقتصادي البريطاني جون ماينرد كينز)، شكّلت الدولة الرأسمالية في المركز وسادة دعم ورافعة لشركاتها الاحتكارية الكبرى، التي قامت بترحيل الثروات والفوائض من الدول المتخلّفة، وأدارت هذه الدولة داخل حدودها القومية اقتصاد دولة الرفاه، ذاك الذي عزّزه الموقع الاحتكاري لها في دورة الاقتصاد الرأسمالي ككل، والموقع العسكري المهيمن للولايات المتحدة الأميركية في ما يخصّ زعزعة الاستقرار الأمني والسياسي لدول الأطراف التي حاولت التملّص من هذه الدائرة. تطوّرت عمليات النقل الجزئية والمبتسرة في هذه المرحلة لجانب من الصناعات التحويلية إلى دول الأطراف الرأسمالية، إلى عمليات نقل أكثر كثافة، تضمّنت جوانب أخرى من الصناعات الثقيلة، في المرحلة التي لحقتها، أي الليبرالية الجديدة (أخذت شكلها الأكمل بعد عام 1989)، ولكن رافق هذا تطوّر تقني متسارع، حافظت هذه الدول الغربية على احتكارها له، وجعلت وصول دول الأطراف بالعموم إلى التكنولوجيات الحديثة أقرب للمستحيل، وخصوصاً مع ضعف واستنزاف الكتلة الشرقية الاشتراكية، ومن ثمّ انحلالها. تجدر هنا الإشارة، إلى أنّ دورة التصنيع في دول الأطراف، في كلتا المرحلتين، معاقة وغير مكتملة. فهي غير قادرة على أن تكون قائمة بذاتها، سواء بما يخصّ التشغيل والتطوير والصيانة من الناحية التكنولوجية، أو بما يخصّ السوق، الذي يبقى بالنسبة إلى دول الأطراف مرتبطاً بأسواق المركز، نتيجة لضعف وضيق الأسواق المحلّية لهذه الدول وتدنّي مستوى الدخل لدى الشريحة الأعظم من المواطنين، وطبيعة عملية الإنتاج برمتها. فالتخلّف، هنا، دائرة جهنمية وحلقة مفرغة، في كلّ نقلة وفي كلّ تطوير يتطوّر معه الفقر والتهميش واستنزاف الثروة الوطنية.
في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية والتي تُعرف بالحقبة الكينزية شكّلت الدولة الرأسمالية في المركز وسادة دعم ورافعة لشركاتها الاحتكارية الكبرى


الصينيون خبروا أثر التأخّر التكنولوجي وحجم هذه المسألة في المراحل الأولى من ثورتهم ومسيرة تنميتهم الاقتصادية. إذ أنه، وبعد دعم مفتوح وشامل للصين من جانب الاتحاد السوفياتي طوال فترة الخمسينيات، توقّفت مطلع الستينيات، وبشكل مفاجئ وكامل وحدّي، كلّ المعونات الصناعية والتقنية السوفياتية، بقرار من الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي نيكيتا خروتشوف، ولأسباب سياسية تماماً. نتحدث، هنا، عن آلاف الخبراء السوفيات العاملين في مجالات الصناعات الوليدة التي كانت بالكامل سوفياتية المصدر. القرار أعاق، بشكل قاسٍ، التطوّر الصناعي الذي كانت الصين قد باشرت الانخراط فيه للتو، وأعاق عملية التطور الشاقة لبلد خارج للتو من حرب أهلية طاحنة. كان الاعتماد على النفس في المجال التكنولوجي هنا، شديد التعقيد والصعوبة، وترك أثراً مركّباً طوال فترة الستينيات والسبعينيات.
تزامن دخول الغرب، بدءاً من نهاية السبعينيات، في المرحلة النيوليبرالية، مع قرار الانفتاح الاقتصادي الذي اتّخذته القيادة الصينية بعد عام 1978. إنّ الركود والانسداد الذي أصاب الحقبة الكينزية ودولة الرفاه في الغرب، عزّز الحاجة في نقل استثمارات رأس المال الغربي إلى حيث تكون معدّلات ربح أعلى ويد عاملة رخيصة ومؤهّلة، فوجدت الاقتصادات الغربية المتعثرة في الصين بيئة استثمارات مناسبة. في حقبة التسعينيات، قامت العديد من الشركات الأميركية واليابانية والكورية بنقل جزء مهمّ من إنتاجها الصناعي إلى الصين، يذكر ديفيد هارفي في كتابه: «الوجيز في تاريخ النيوليبرالية» كمثال على ذلك، أنّ نقل اليابان جزء من نشاطها الإنتاجي إلى الصين أدّى إلى انخفاض العمالة الصناعية اليابانية، من 15.7 مليون عامل عام 1992، إلى 13.1 مليون عامل عام 2001. هذا النقل الكثيف للعمالة الصناعية إلى الصين، سيحوّلها إلى مصنع العالم.

القنص والتوطين
يتحدّث سمير أمين عن عمليات رأس المال الأجنبي (الغربي والشرق آسيوي) في الاستثمار وفي استيراد التكنولوجيا الحديثة إلى الصين. وقد قامت حكومة بيكين، من خلال الإجراءات والقوانين المتعلّقة بأساليب المشاركة المختلفة، بفرض نسبة مهمّة من المساهمة في الكثير من المشاريع التي كانت تُقام على أرض الصين. المساهمة عنت حيازة نسبة في العديد من المشاريع الغربية والكورية والتايوانية والتي قامت بها هونكونغ، وكذلك، وهو الأهم، فرض توطين التكنولوجيا وعدم احتكارها. هنا، أصبح الطريق معبّداً لاكتمال دورة الإنتاج، بعد استيعاب هذه التكنولوجيات وتكييفها، ومن ثم الانطلاق منها وتطويرها لاحقاً. وهذا ما فشلت أكثر دول الأطراف في الوصول إليه. هذا الاستيعاب لم يكن ليحصل، لولا البنية التحتية الصناعية والخدمية والعلميّة التعليميّة والمؤسّساتيّة التي أسّست لها المرحلة الماوية، والتي مكّنت الصين من أن تكون، لا كمتلقّ سلبي للتقنية فقط، إنما مشارك في استيعابها وتطويرها. لم تستفِد الصين من التوطين المباشر للتكنولوجيا الذي تم من خلال القوانين النافذة وبالتراضي بين الأطراف، أي بشكل «شرعي» - بحسب قوانين الدولية وقوانين منظمة التجارة العالمية - فقط، إنّما أكثر بشكل «غير شرعي»، أي عبر اقتناص التكنولوجيا وقرصنة جزء مهمّ منها من الشركات الكبرى متعدّدة الجنسيات التي أقامت مراكز بحثيّة ضخمة لها على الأرض الصينيّة، مستفيدة من المزايا الكبيرة التي تؤمّنها البنية التحتية العلمية الصينية، المادية منها والبشرية متدنية الأجر. وهذا ما تشتكي منه هذه الشركات، منذ التسعينيات وحتى اليوم، ولكن لا هي تنقل مراكز أبحاثها خارج الصين وتتخلّى عن المزايا المتاحة - بالرغم من أنّ بعضها فعل ذلك بالفعل «سامسونغ الكورية مثلاً» - ولا الحكومة الصينية تأخذ هذه الشكاوى على محمل الجد أو تتعامل معها بشكل فعّال.

اللا-ملكية الفكرية، ثقافة الـCopycat
خلال السنوات الخمس الماضية، كان انبثاق المناطق المخصّصة لتطوير التكنولوجيا العليا في الصين (بدأت في بيكين)، وهي المعادل الصيني لوادي السيليكون في الولايات المتحدة الأميركية. وبالعودة إلى ديفيد هارفي، ولكن بعد ما يقارب العقد على كتابه عن الليبرالية الجديدة، حيث يشرح في أحد أجزاء سلسلته الاقتصادية على شبكة الإنترنت والمعنونة: أهمية الصين في الاقتصاد العالمي The Significance of China in the Global Economy في شباط/ فبراير 2019، أنّ هذه المساحات المخصّصة لرواد الأعمال والابتكارات والشركات الناشئة والرائدة، تقوم على ثقافة مختلفة تماماً عن تلك الشائعة في بقية أنحاء العالم، تسمى ثقافة الكوبيكات، وتعني: إذا أتى أحد الأطراف المنخرطة في هذه العملية بفكرة جديدة أو ابتكار جديد، فإنّ الآخرين سيقومون «بسرقتها» فوراً، طبعاً هنا لا توجد سرقة فهي ببساطة متاحة. يجب هنا على صاحب الفكرة الجديدة التصرّف بسرعة قبل أن يقوم غيره باستغلالها. بحسب هارفي، يتّصف هذا الإجراء المفتوح بالديناميكية الإبداعية إلى أقصى الدرجات. هذا الجو الإبداعي هو ما ساهم بمضاعفة معدّل براءات الاختراع في ما يتعلّق بتكنولوجيا الجيل الخامس لشبكة الإنترنت، وبتطوير الحواسيب والهواتف المحمولة. طبعاً في وادي السيليكون الأميركي إذا ما سرق أحدهم فكرة - انتهك حقوق الملكية الفكرية - فستترتّب على ذلك تبعات قانونية جدية. يقتبس هارفي مقطعاً من الكاتب كال فو لي، عالم الكومبيوتر ورجل الأعمال التايواني المولود في أميركا، بعد أن يصف هذا الاقتباس بالمرعب: «رواد الأعمال في وادي السيليكون اكتسبوا سمعتهم كأكفأ العاملين والمطوّرين في أميركا. مؤسّسون وروّاد شبّان مليؤون بالشغف والحماس. قضوا ليالٍ من الجهد والعمل للخروج بمنتج جديد. لقد أمضيت عقوداً في البحث والتقصّي في كلا المجمعين الإبداعيين، وادي السيليكون في أميركا، وما يقابله من الجهد التقني الصيني والمجمعات المتعلّقة به. أؤكّد لكم أنّ وادي السيليكون يبدو خاملاً ورخواً مقارنةً بمنافسيه في الجهة الأخرى من الباسيفيك. إنّ نجاح رواد الأعمال الصينيين في ما يخصّ الإنترنت فائق السرعة وصل إلى ما هو عليه، من خلال الصمود في أكثر جو تنافسي قاسٍ على سطح الكوكب. وحيث السرعة أمر جوهري، يبدو المشهد التكنولوجي الصيني مثل حلبة المصارعة في أحد المدرجات الرومانية القديمة، حيث تكون المعركة حياةً أو موتاً، وحيث لا وازع لدى الخصوم في معركة البقاء».
هذا المشهد الجديد يبدأ بتمزيق واقع التخلّف التقني والاحتكار العلمي وبنية إنتاج العلم السياسية الطبقية، هو يخلق ثقافة تكنولوجيا فريدة تشكّل حافزاً للقفز بالأمتار في المجالات الرقمية الحديثة وإنترنت الأشياء. هنا، نلاحظ أنّ المنافسة لا تمنع أن يستفيد الجميع من الجميع، وبشكل فوري، وتحت سلطة دولة تعرف الحدّ المفيد بين المركزية الإدارية واللامركزية، بحيث ترعى الإبداع الرأسمالي الفردي بدافعه الربحي، ولكن توجهه في الوقت نفسه على أن يكون تحت سقف المجتمع والمنفعة العامة. وهذا أيضاً اختراق ثقافي ومفهومي للمنظومة المعرفية التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية القائمة على احتكار العلم والمنفعة وتسليع الإبداع ونزع إنسانيّته في ما يعرف بحقوق الملكية الفكرية.
* باحث سوري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا