ليس كلّ مَن يتلقّى عقوباتٍ أميركيّة هو بطل بالضرورة، لكن ليست العقوبات الأميركيّة اليوم - ولم تكن يوماً في تاريخها - تُنظَّم بناء على معايير الخير والشر، أو على معايير إنسانيّة. هذه دولة لم تكن سياساتها الخارجيّة نحو بلادنا، يوماً، إلّا بناءً على تقدير مصلحة أمنها القومي ومصلحة إسرائيل بعد إنشائها (ومصلحة تدفّق الإنتاج النفطي وإن كان هذا العامل تقلّص في الأهميّة في السنوات الماضية). ولا تجعل العقوبات الأميركيّة من متلقّيها نزيهاً أو حكيماً، أو لا يجب أن تفعل ذلك. ويمكن للعقوبات أن تكون محاسبةً أو عقوبةً، ليس على ما فعلَ سياسي ما، بل أيضاً على ما لم يفعله، أو ما لم يلتزم بفعله. هل كانت عقوبة النظام السعودي ضدّ نبيه برّي عندما ألغت زيارة رسميّة له قبل سنوات، عقوبة له عمّا فعله أم على ما لم يفعله من وجهة نظر النظام السعودي وعلاقته بنبيه برّي؟ وهل العقوبات في حدّ ذاتها تدخّل في نطاق أخلاقيّات السياسة الخارجيّة الأميركيّة، أم أنّ علينا ربط ذلك بما تبتغيه إسرائيل؟
ك. غييورغييف (الاتحاد السوفياتي - 1963)

نستطيع أن نوجز صنع السياسة الأميركيّة نحو بلادنا بالتالي: كان صنع السياسة الخارجيّة نحو الشرق الأوسط (حتى التسعينيّات) هو نتاج تجاذب وصراع بين اللوبي الإسرائيلي وبين فريق المستعربين المتنفّذين في أجهزة الحكم والاستخبارات (ولأفراد من مؤيّديهم في الكونغرس الأميركي). كان النصر غالباً حليف اللوبي الإسرائيلي، لكن ليس دائماً: في عام 1981 قدّمت إدارة ريغان طلب بيع صفقة «أواكس» كبرى إلى السعوديّة، وحدثت المواجهة الكبرى بين إدارة أميركيّة وبين اللوبي الإسرائيلي وكانت الخسارة، كما هو معروف، للوبي. كانت تلك أكبر ضربة للوبي في تاريخه، ولو لم يكن طرفها رونالد ريغان لما أمكن لرئيس أن يفوز فيها. لكنّ ريغان في سعيه لنيل موافقة الكونغرس كان صريحاً (كما كانت شهادة كيسنجر يومها) بأنّ الصفقة تدخل في مصلحة أمن إسرائيل (بالإضافة إلى تأكيده على فرض شروط صارمة على تشغيل الطائرات، ومنها الوجود المستمرّ لطاقم أميركي أثناء تشغيلها). أما في مرحلة بيل كلينتون، فقد تمّ ضرب قطاع المستعربين بالكامل، وأصبحوا فرادى في هذا الجهاز أو تلك الإدارة بعدما تولّى اللوبي الإسرائيلي أمر التعيينات الكبرى في أقسام الشرق الأوسط. مذاك، أصبع صنع السياسة الخارجيّة نحو الشرق الأوسط في يد اللوبي الإسرائيلي بالكامل، وأصبح المتخصّصون في شؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجيّة يحتاجون إلى رضى اللوبي من أجل الترقّي وتولّي المناصب الأرفع (لعب جيفري فيلتمان هذا الدور بنجاح مع اللوبي، وهو صديق لوليد جنبلاط الذي - كما هو معروف - يحب أغنية «موطني» تدليلاً على شدّة تعلّقه بفلسطين). وما تفعله وزارة الخزانة الأميركيّة بشأن العقوبات والمراقبة الماليّة في الشرق الأوسط، ليس إلّا تنفيذاً حرفيّاً لما يتمّ التوافق عليه بين وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة واللوبي الإسرائيلي في واشنطن. أي شرح للعقوبات من منظور آخر يقصّر في فهم منطلقات السياسة الخارجيّة. فديفيد هيل، مثلاً، ينتمي إلى السلك الخارجي، بينما أتى ديفيد شينكر إلى منصبه من «مؤسّسة واشنطن» (الذراع الفكريّة للوبي)، وعليه فإن شينكر (خلافاً للسلّم الوظيفي لوزارة الخارجيّة) يفوق هيل تأثيراً ونفوذاً، لقربه من مركز القرار الحقيقي.
العقوبات الأميركيّة تطوّرت عبر السنوات، من العقوبات والحصار على العراق إلى العقوبات الحاليّة، وهي خانقة. عصر التبادل المالي الإلكتروني ومراقبة الحكومة الأميركيّة للتحويلات بين الدول، حيث لم يعُد بالمستطاع تحويل مئة دولار من دون ملء استمارة، والإجابة عن أسئلة تفصيليّة. وكلّ هذا ليس بغرض محاربة الإرهاب، بل لتجفيف أيّ دعم أو تمويل، ولو خيري، لأيّ جهة تُناصِب العداء لإسرائيل (أو ضد منظّمات إرهابيّة مثل «القاعدة» أو «داعش»، وإن كانت «القاعدة» في سوريا خارج نطاق المحاسبة والمراقبة الأميركية، لأنّها تتمتّع بعلاقة ضمنيّة جيّدة مع الحكومة الأميركيّة). وهذه الخطة في العقوبات، تدرّجت بعد 11 أيلول/ سبتمبر، إلى درجة أنّ الحكومة الأميركيّة تلاحق وتقاضي وتعاقب أميركيّين أو غير أميركيّين، إذا كانت لهم أيّ صلة بمستشفى أو عيادة قريبة من «حماس» أو «حزب الله».
وفي لبنان، استنفدت أميركا كلّ خياراتها. هي أنشأت حركة 14 آذار (المُرشد الروحي والجسدي لها، كان جيفري فيلتمان، ولا يزال، بحكم قلّة خبرة ودراية ومهارة خلفائه في السفارة في بيروت، المُوجِّه المفضّل للكثيرين منهم، مثل جنبلاط ومروان حمادة ونجيب ميقاتي)، وهي أطلقت العنان لإسرائيل كي تُمعن في القتل والتدمير والتخريب في لبنان، على مدى ثلاثة وثلاثين يوماً في حرب تمّوز، ثم هي التي قرّرت وقف المساعدات الخليجيّة عن لبنان، لأنّ العقوبات الاقتصاديّة ضدّ حزب الله لم تعُد تكفي. تنتقل الحكومة الأميركيّة، وبإيعاز إسرائيلي، من عجز إلى آخر. لكنّ تجارب النظام المصري في عهد جمال عبد الناصر، وتجربة المقاومة الفلسطينيّة، تشير إلى أنّ انهيار المحاور والحركات المناهضة لإسرائيل تحدث من الداخل، ولأسباب ذاتيّة، وليس بسبب ضغط خارجي. كان يمكن لياسر عرفات أن يمتصّ صدمة وقف المساعدات الخليجيّة عنه، بعد عام 1990، لو أنه لم يبنِِ بيروقراطيّة مترهّلة فاسدة هائلة، أو لو أنّه كان يرضى بالعمل السرّي تحت الأرض. لكنّ ضربة العقوبات الخليجية زادت من صعوبات عرفات وقلّصت خياراته، بعدما كانت تقلّصت أكثر بعد الرحيل عن لبنان (والرحيل عن لبنان كان أيضاً بسبب عوامل داخليّة ذاتيّة، أكثر ممّا كان بسبب الاجتياح بحدّ ذاته).
استعملت الحكومة الأميركيّة كلّ أنواع العقوبات على لبنان، ومنعت قادة حزب الله من التمتّع بإجازات في كاليفورنيا أو هاواي، كما أنها منعت أولادهم من الدراسة الجامعيّة في أميركا، وجمّدت أرصدة (غير موجودة أصلاً) لقادة لحزب الله. وأميركا تصدر العقوبات تباعاً، وليس مرّة واحدة، لأهداف دعائيّة محض. ما معنى أن تختار هذا القائد هذا الشهر، وذاك القائد في ذاك الشهر، إلا للاستفادة غير المجانيّة من التغطية الإعلاميّة الوافرة، في صحافة لبنان (حيث أصبحت المحطات الثلاث مجرّد أبواق البروباغاندا الأميركيّة) وفي صحافة الخليج التي، منذ 11 أيلول / سبتمبر، لم تعد إلا ترجمة حرفيّة لتوجّهات اللوبي الإسرائيلي. والعقوبات هي أيضاً سلاح ممنوح من أميركا إلى أزلامها في الإعلام والسياسة في لبنان، وهم يهدّدون به تلميحاً وتصريحاً، لا بل إنّ الثاو الثاو من منتفضي لبنان يهلّلون للعقوبات ويبشّرون بالمزيد منها، وهم على قناعة أنّها لن توفّر فاسداً. طبعاً، لم يلاحظ الثاو الثاو أنّ السفارة الأميركيّة تغطّي وتحمي رياض سلامة، كما أنّ البطريرك الراعي غطّى وحمى رياض سلامة من المحاسبة (وإعلام تلقّي المال الأميركي بات يتعامل مع كلام الراعي مثلما تتعامل الكنيسة مع كلام القدّيسين). والتهويل بعقوبات ضدّ التيار قديمٌ، كما أنّ جيفري فيلتمان كان أوّل من بشّر بها ودعا إليها في شهادته أمام الكونغرس وفي كتاباته التي حذّر فيها من عقوبات ضدّ فاسدي أميركا (مثل السنيورة وجنبلاط وميقاتي)، في الوقت الذي بشّر فيه بعقوبات ضدّ باسيل والتيّار.
عرفت الحكومة الأميركيّة كيف تستخدم باسيل: لوّحت بالعقوبات ضدّه على مدى أكثر من سنة واستخرجت منه تنازلات مهمّة


إنّ الحزمة الجديدة من العقوبات، ليست إلّا نموذجاً من فصول أخرى من الحرب الأميركيّة ضدّ لبنان، بسبب قوّته ومنعته المستحدثة بفعل مقاومة إسرائيل. الحرب الأميركيّة ضدّ لبنان، ترافقت مع - وإن لم تفجّر - الانتفاضة ضدّ الوضع المعيشي. وهذه الحرب ليست إلّا جزءاً من الحرب التي تشنّها أميركا ضدّ الأنظمة التي تريد تطويعها حول العالم. وليس هناك من نقاش في أميركا أبداً، لا عند الجمهوريّين ولا عند الديمقوقراطيّين، بشأن لا إنسانيّة ووحشيّة وظلم العقوبات الأميركيّة التي لا تميّز بين حاكمٍ وبين الشعب العادي. لا تزال صفحات «الشرق الأوسط» تزهو بنقص المحروقات والطحين في سوريا، وباتت صور طوابير الخبز دليل نجاح عقوبات «قيصر» التي لا تعاقب إلّا بشار الأسد وزوجته فقط. والإعلام العربي يخدّر حواس الشعب العربي، ويجعل من تجويع أميركا لشعب عربي، دليل انتصار واهتمام أميركي بقضايا المنطقة.
العقوبة ضدّ علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، كانت واضحة في مغزاها: هي رسالة مباشرة إلى نبيه برّي وسليمان فرنجيّة. هي ليست عقوبة، بقدر ما هي رسالة توجيه وطلب الطاعة. والردّ من المرجَعيْن كان ضعيفاً وباهتاً، وأشبه برفع العتب فقط. والوزيران المعنيّان، خليل وفنيانوس، لم يردّا مباشرة، لا بل رفضا الردّ. الوزيران اتُّهما بالفساد والإرهاب معاً، لكنّ أيّاً منهما لم يجد ضرورة للدفاع عن النفس، مما منح الاتهامات الأميركيّة مصداقيّة لا تستحقّها، أو أوحى بأنّ الزعيمَيْن المعنيَّيْن ليسا في وارد التصعيد مع الإدارة الأميركيّة. لكنّ بيان حركة «أمل» كان الأغرب، إذ إنه نسي موضوع العقوبات وطرح (في البند الثاني من البيان) موضوع ترسيم الحدود والمفاوضات وذكّر أميركا باتفاقٍ في هذا الشأن. هنا، كان على حليف الحركة الأقرب، أي حزب الله، التنبّه إلى ما يمكن أن يستجدّ في موضوع المفاوضات. ولماذا أقحمت الحركة موضوع مفاوضات ترسيم الحدود في بيانٍ عن العقوبات؟ ولماذا أهمل الوزيران، ومرجعيّتهما، الردّ على الاتّهامات الأميركيّة؟ لكن بعد أيّام فقط من البيان، قرأ نبيه برّي (النادر الظهور أمام الإعلام) بياناً مكتوباً بالعربيّة، ومترجمّاً عن الإنكليزيّة (مع أنّ الدولة اللبنانيّة أو الأميركيّة للساعة لم تنشر النص الإنكليزي كما هو) عن انطلاق المفاوضات مع العدو. البيان يتضمّن لغة الحكومة الأميركيّة ومصطلحاتها، من دون أيّ اعتبار للمشاعر اللبنانيّة، أو للقانون اللبناني الذي يعتبر دولة إسرائيل دولة احتلال عدوّة. لا، قرأ برّي هكذا من دون اعتراض وصف دولة العدوّ بـ«حكومة إسرائيل»، وهذا الوصف لم يحدث رسميّاً من قبل إلّا مرّة واحدة، في زمن 17 أيّار. وحركة «أمل» تعتبر إسرائيل في أدبيّاتها «شرّاً مطلقاً»، ووصف «حكومة إسرائيل» المهذّب لا يوحي بالشرّ بتاتاً.
ولماذا يوضع ملف المفاوضات بيد شخص مُهدّد (مع أولاده - وتهديد الأولاد أقوى من تهديد الشخص المعني، خصوصاً المتقدّم في السن، لأنه يؤثّر على نمط حياة هؤلاء لو أنّ العقوبات الأميركيّة طالتهم) بعقوبات أميركيّة قاسية؟ ألا يعني توقيت إعلان برّي أنّ علاقة ما سرّية وغير معلنة ربطت بين العقوبات، وبين ما بدا أنه رضوخ منه لضغوطات أميركيّة؟ تعلم أميركا أنّ برّي لن يفكّ تحالفه مع حزب الله، وهي لهذا لم تحاول أن تدفع بهذا الاتجاه، ومن المشكوك فيه أنّها دفعت بـ«المردة» نحو فكّ التحالف مع حزب الله، لأنّ العلاقة عميقة. أي إنّ هدف عقوبات برّي وفرنجية لم يكن مثل هدف العقوبات ضد باسيل (ولهذا هي أدرجتها في خانة محاربة الفساد، وليس في خانة محاربة الإرهاب، لأن ليس من علاقة أمنيّة أو عسكريّة بين التيّار والحزب، كما بين الحزب والمردة و«أمل»). هدف عقوبات برّي وفرنجيّة، كان من أجل استخراج تنازلات وتحقيق رضوخ سياسي. هل العقوبات كانت ستلحق برّي مباشرة، لو أنّ إعلان العقوبات ضدّ علي حسن خليل لم تتبعه قراءة برّي الفرمان الأميركي عن مفاوضات الحدود؟ ألم يكن من باب الرضوخ أيضاً أنّ لبنان (أي بري وميشال عون) وافق على بدء المفاوضات في زمن إعلان التطبيع والتحالف العربي مع إسرائيل، ما سيضفي مسحة تطبيعيّة مشينة على مفاوضات الناقورة بصرف النظر عن المضمون، والمضمون بائس والعدوّ رفض حتى البحث بمطالب لبنانيّة لا يعتبرها عادلة، وبالرغم من وجود «الوسيط (الأميركي) النزيه والشريف»، بحسب وصف وزير الخارجيّة العوني شربل وهبة والذي وفق بيانه بحث موضوع ناغورنو كاراباخ مع السفيرة الأميركيّة في آخر لقاء بينهما (ويجتهد لبنان الرسمي الذليل، في عهد ميشال عون، للتوضيح في كلّ مرّة يلتقي فيها وزير خارجيّة لبناني مع السفيرة الأميركيّة، أنّ اللقاء لم يكن استدعاء، والمستشار القانوني لميشال عون سليم جريصاتي اتصل بالسفيرة الأميركيّة واعتذر منها بالنيابة عن قاضٍ لبناني شريف، لأنّه حاول التنطّح للدفاع عن كرامة وسيادة لبنان).
موضوع باسيل مختلف، لأنّ أميركا كانت تحاول على مرّ سنوات تفكيك هذا التحالف بين الحزب والتيّار، خصوصاً أنّ لها علاقات قديمة مع ميشال عون، الذي لم يجد غضاضة في سنوات غربته في التعاون مع اللوبي الإسرائيلي لدفع قضيّته في الكونغرس. والذين اعتمد عليهم ميشال عون أنفسهم، في الماضي، للعمل مع اللوبي الإسرائيلي، هم الذين كانوا أوّل من خذلوه، وربما كانوا وراء تسريب معلومات من داخل التيّار إلى الإدارة الصهيونيّة. لكنّ قدرة الحكومة الأميركيّة على التأثير على أصحاب المصالح ورجال الأعمال، خصوصاً إذا كانوا يقطنون في الغرب، هائلة. تستطيع أميركا أن تفرض على هؤلاء الاختيار بين الثروة وبين الأهواء السياسيّة. والاختيار يصبح أسهل عندما أدّى صعود جبران باسيل إلى إبعاد كثيرين عن قيادة «التيّار» وعقد اللواء له وحيداً.
لم تخفِ الإدارة الأميركيّة عن جبران باسيل نيّتها زعزعة تحالف التيّار مع الحزب. وثّق «ويكليكس» التدخّل الأميركي الصفيق في شؤون العلاقات مع الأحزاب، ووثّق أيضاً تطوّع لبنانيّين للإخبار عن خصومهم ولخدمة الأجندة الأميركيّة. مثال اتصال دريد ياغي بالسفارة الأميركيّة للإبلاغ عن رؤيته لسلاح يشكّل خطراً على إسرائيل في البقاع، أو عرض مروان حمادة عن شبكة اتصال هاتف المقاومة يعطي فكرة عن استعداد ورغبة خصوم باسيل، في داخل التيار أو خارجه، بمدّ الحكومة الأميركيّة بما تحتاج له من معلومات. لكن، كما في حالة العقوبات ضد خليل وفينانوس، فإنّ الحكومة الأميركيّة لم تجد ضرورة لتقديم أيّ دليل على فساد الأشخاص المعنيّين، لا بل هي قوّضت مصداقيّة عقوباتها بربط الفساد بالعلاقة مع حزب الله، فيصبح الفاسد الخصم لحزب الله نزيهاً، ويصبح النزيه المتحالف مع حزب الله فاسداً. وهذا كان ديدن الإدارات الأميركيّة مع ياسر عرفات، الذي لم يكن فاسداً أو ثرياً أو يهوى الرفاهية والنعيم، بالرغم من أنّه أسّس لنظام فساد هائل داخل «فتح» وداخل «منظمة التحرير». وكان يستعمل الإفساد للسيطرة على حركته، ولشراء النفوذ في كلّ تنظيم فلسطيني (لا يزال البعض يجهل أنّ نوّاباً في مجلس النواب اللبناني، كانوا يتلقّون مرتّبات من ياسر عرفات).
عرفت الحكومة الأميركيّة كيف تستخدم باسيل: لوّحت بالعقوبات ضدّه على مدى أكثر من سنة، واستخرجت منه تنازلات مهمّة. من ينسى مشهد باسيل مغتبطاً وهو يلتقي بديفيد هيل، بعدما كان الظنّ أنّه مُقاطَع من الإدارة الأميركيّة، أو لقاءات مع السفيرة الأميركيّة. لكنّ باسيل لم يصرّح عن غرض الاهتمام الأميركي به: كانت الحكومة تريد أن تحصل منه على تنازلات في قضيّة تهريب المجرم الفاخوري (وتمّ ذلك بمشاركة مباشرة أو ضمنيّة أو صمت من أطراف 8 آذار في الحكومة)، ثمّ في مسألة الحدود، حيث أعطى عون - باسيل أكثر ممّا قدّمه برّي. أي إنّ كليهما تطوّع لتقديم تنازلات رغبةً في منع العقوبات. لكنّ إنزال عقوبات ضدّ برّي ليس سهلاً: من يبقى من الأطراف الشيعية لتحاوِرها واشنطن؟ هي تستطيع أن تموِّل هذا وأن ترفع من شأن ذاك، وأن تدفع لظهور المفضّلين الشيعة لديها على المحطات اللبنانيّة التي باتت أشبه بالحصّالات، لكن تبقى حقائق مرّة: أن إبراهيم شمس الدين، مثلاً، نال 62 صوتاً فقط في الانتخابات النيابيّة الماضية. وهي تحتاج إلى إرسال إشارات ورسائل إلى الحزب عبر بري. لكنّ برّي تسرّع في تقديم تنازلات، ربما خوفاً من صدور العقوبات القاسية.
حاول باسيل الكثير لإرسال إشارات إيجابيّة إلى واشنطن. بقي على مدى أكثر من سنتَيْن، يرسل إشارات إيجابيّة واضحة. قرّر إعلان أنّ تياره لا يكنّ عقيدة عداء للدولة التي تحتل فلسطين وتحتلّ أيضاً أرضاً لبنانية. لكن لماذا لم يصارح حليفه في تفاهم مار مخايل بذلك، قبل التوقيع على التفاهم؟ لم يعُد باسيل يتحدّث عن دعم لمقاومة إسرائيل، بل بات يضع التفاهم في سياق منع الفتنة. وباسيل بات وحده بين سكّان هذه الأرض مِن الذين يتكلّمون عن مشروع السلام العربي. حتّى السعوديّة التي أطلقته تخلّت عنه، وإسرائيل هزئت منه ورفضته بمجرّد إعلانه، وطغاة الخليج يرتقون بعلاقتهم مع العدو إلى مرتبة التحالف، لكنّ باسيل - في تسويغ تملّقه للعدوّ وطمأنته المستمرّة له والإصرار على أنّه لا يكنّ عقيدة عداء ضدّه - يستعمل مشروع السلام العربي من أجل المجاهرة بالدفاع عن حقّ إسرائيل في الأمن (وهو بهذا يردّد لازمة صهيونيّة تلصق حق الأمن باليهود فقط وليس بالعرب)، وعن حقّها في الوجود. لكنّ هذه، بحسب مشروع السلام (المشين) مفترض أن تأتي بعد الانسحاب الإسرائيلي، لكنّ باسيل قدّم الهدية للعدوّ مسبقاً، وهو بهذا أصبح أكثر الأطراف اللبنانيّة مهادنةً للصهيونيّة: خطاب باسيل عن إسرائيل بات أسوأ من خطاب «القوات» و«الكتائب». ومحاولات باسيل لن تجدي نفعاً، لأنّ الحكومة الأميركيّة استخدمته واستغلّته مُسلِّطة عليه سيف العقوبات، ولمّا نالت الفاخوري وترفيع شأن مفاوضات الناقورة، رمته بالعقوبات.
لم تكن عقوبات أميركا، إن ضدّ الإرهاب أو ضدّ الفساد، مبدئيّة. زال السودان من قائمة الإرهاب، فجأة، مقابل التطبيع مع العدوّ، ولو كان بن لادن حيّاً واجتمع مع بنيامين نتنياهو، لكانت أميركا كرّمته في حفل مهيب في الكونغرس. وقبل أسبوع، اعتقلت السلطات الأميركية وزير دفاع مكسيكياً سابقاً، واتّهمته بالصلة بكارتيلات المخدّرات، لكنّها أفرجت عنه بعد أيّام. والفاسدون الذين يصبحون عرضة لعقوبات أميركا في لبنان، يستطيعون التلطّي بالانحياز الأميركي لتحوير الأنظار عن فساده. أي إنّ أميركا هي آخر من يمكن له تصنيف البشر والدول والجماعات. لكنّ باسيل لم يفهم ذلك بعد، وهو سيرفع دعوى في أميركا لتبرئة ساحته، كأنّ قضايا السياسة الخارجيّة، خصوصاً في ما يتعلّق بإسرائيل، تُحسم أو تُحلّ في المحاكم وبناء على قرار قاضٍ نزيه. وما يساعد أميركا، أنّ هناك في لبنان من يرحِّب بعقوباتها ومَن يجزم لك - خلافاً لأقطاب اللوبي الإسرائيلي - أنّ أميركا ستشمل في عقوباتها الجميع. نظرة هؤلاء لأميركا مُستقاة إما من محطة «الحرّة» أو من مجلّات سوبرمان.
* كاتب عربي
(حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا