«بطبيعة الحال، الخيار شيء مختلف عن التمنّي، حتى ولو بدا قريباً جداً منه. لا يكون هناك خيار حيال الأمور المستحيلة. ولو زعمنا أنّ خيارنا وقع عليها، فسنكون موضع سخرية الآخرين. خلافاً لذلك، يمكن أن نتمنّى شيئاً مستحيلاً، كالخلود مثلاً. (...) قد يكون موضوع الأمنية أشياء لا يمكن لنا بأي حال من الأحوال أن نحقّقها بأنفسنا (...)؛ خلافاً لذلك، لا يمكن أن يقع الخيار على أشياء كهذه، بل يقع على أشياء نحسب أننا قادرون على تحقيقها بأنفسنا» (أرسطو، في الأخلاق) [SPN].«وما نيل المطالب بالتمنّي ولكن تؤخَذ الدنيا غلابا» (من قصيدة للشاعر أحمد شوقي، تغنّيها أم كلثوم)
شيءٌ من المنطق قبل الشروع في السياسة، وإلّا فلن يكون ممكناً فهم ما سأقول في السطور التالية. إذا كان الممكن (أي غير المستحيل) هو القابل للوجود، فيكون له نصيبٌ من التحقّق في الواقع، فإنّ المستحيل (أي غير الممكن) هو ما ليس قابلاً للوجود، وليس له أيّ نصيب لكي يتحقق في الواقع. ولكن إذا كان المستحيل هو ما لا يمكن أن يوجد، فإن الجائز (المحتمَل improbable) هو ما يمكن أن يوجد، ولكن له نصيبٌ ضئيلٌ في أن يتحقّق في الواقع. وتلك هي ضبابية المحتمَل الذي على الرغم من إمكان وجوده قد لا يوجد أبداً، ولذا فهو أقرب إلى الأمنية منه إلى الخيار!
والحال، أنّ مسألة حياد لبنان، السياسية بداهةً، هي مسألة منطقيّة قبل أن تكون سياسية. وذلك لأننا قبل أن نريد لبناناً حيادياً، علينا أن نسائل أنفسنا عمّا إذا كان يمكن للبنان أن يكون حيادياً. فإذا كان يمكن له أن يكون كذلك، فهل يملك الوسائل لتحقيق ذلك، ما يطرح عندئذٍ مسألة الاحتمال. وفقاً للمنطق الأرسطي، هل «حياد» لبنان خيار في متناول اليد، أم مجرّد تمنٍّ لا سبيل إلى تحقيقه؟
في خضمّ الفوضى الضاربة أطنابها في المنطقة برمّتها، هل يكون «حياد» لبنان، في نظر اللبنانيين بطوائفهم واتجاهاتهم المختلفة، خياراً، وبالتالي قيمةً جامعة ومقبولة من الجميع؟ أم هو مجرّد أمنية يتمنّاها قسمٌ من اللبنانيين، عليه في هذه الحالة أن يتصدّى لقسم آخر من اللبنانيين لا يتمنّاها؟

العبرة السويسرية
قبل أن نتساءل عن حياد لبنان، لا بدّ من الذهاب إلى المثال السويسري، فسويسرا هي البلد النموذجي للحياد، وفي ضوء العبر التي يمكن أن نستخلصها من هذا البلد، تُطرَح مسألة حياد لبنان.
نجحت سويسرا، طوال حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648) في البقاء على الحياد. لكنّها لم تنجح في الحفاظ على هذا الحياد، إلّا بعدما كوّنت جيشاً من 36 ألف مقاتل، فأطلقت بذلك مفهوم «الحياد المسلّح» ودشّنت ما سوف يُسمّى - بعد الثورة الفرنسية - «جيشاً وطنياً». ولم يُعترَف بحياد سويسرا إلّا بعد انتهاء هذه الحرب، وبموجب اتفاقية وستفاليا (1648) التي وضعت حدّاً لحرب الثلاثين عاماً. ولم تعترف الدول الأوروبية الكبرى بحياد سويسرا، كما ورد في اتفاقية وستفاليا، بوصفه «عامل توازن وسلام»، إلّا في معاهد فيينا (1815) التي أنهت الحروب النابوليونية.
وعلى الرغم من أنّ نابوليون بونابرت فرض على السويسريين الانضمام إلى جيشه، أثناء حملته على روسيا (1812)، فإنّ سويسرا أعلنت حيادها وحرمة أراضيها مجدّداً، بعد هزيمة نابوليون في لايبزغ (1813)، واعترفت اتفاقية باريس (1815) بهذا الإعلان الذي أُقِرّ في العام نفسه في مؤتمر فيينا. وعندما وقعت سويسرا، أثناء الحرب العالمية الأولى، بين الكتلتَين المتصارعتَين في هذه الحرب، نجحت في تفعيل حيادها، كما نجحت مرة أخرى في تفعيل هذا الحياد أثناء الحرب العالمية الثانية. لكن عندما أعلن هتلر أنه سيجتاح سويسرا، سارعت الحكومة السويسرية إلى تحديث جيشها استعداداً لخوض الحرب. ومعلومٌ أنّ هتلر لم يُقْدِم على اجتياح سويسرا، لأسباب لا مجال لذكرها ها هنا، ونكتفي بالتشديد على أنّ سويسرا اتّخذت كلّ الاستعدادات والتدابير اللازمة لمجابهة الأخطار التي تتهدّدها.
ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من العبرة السويسرية؟ الدرس الأول، هو أنّ الحياد لا يصبح خياراً قابلاً للتحقيق سياسياً إلّا إذا كان المطالِبون بالحياد في البلد المعني، قد أفلحوا في جعل الحياد شعاراً وطنياً ومطلباً يُجمِع عليه جميع مواطني البلد، وفي هذه الحالة وحدها يتحوّل الحياد إلى نهج سياسي تنتهجه الدولة، يصبح خياراً سياسياً قابلاً للتحقيق. في الواقع، لبنان لم يتوافر له هذا الشرط. ربما كانت هناك رغبة في الحياد لدى الكثير من اللبنانيين (ومن جميع الطوائف)، لكنّها لم تصبح شعاراً وطنياً، وما زالت في حدود التمنّي.
التزام هذه الأمنية وتبنّيها شرطٌ لا بدّ منه، لكنه ليس كافياً. وذلك لأنّ الحياد لا يتوقف على النوايا الطيّبة، بل يلزمه، كما يُثبِت تاريخ سويسرا، إنشاء جيش قويّ لتعزيزه، و«إرادة مسلّحة» لحمايته وفرضه على الأعداء، سواء في الداخل أم في الخارج. وهذا الشرط أيضاً لم يتوافر للبنان.
وكما يُفيدنا تاريخ سويسرا، فإنّ «الإرادة الداخلية» وحدها لا تكفي لفرض حياد لبنان، بل لا بدّ أيضاً من موافقة جيرانه الأقربين (إقليمياً: إسرائيل وسوريا والمملكة العربية السعودية، وتركيا وإيران) والأبعدين (العالم). كذلك، هنالك شرط لا غنى عنه وهو تثبيت موافقة الجيران في اتفاقيات تنصّ على ذلك. وهذا الشرط لم يتوافر أيضاً للبنان.
أخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ حياد سويسرا لم يكن أبداً هدفاً في حدّ ذاته. وهو ليس في عداد أهداف الدستور الذي ينصّ على أنّ هدف الحياد هو الاستقلال، وليس الحياد من أجل الحياد (المادة 2 والمادة 173 من الدستور السويسري). ولمّا كان الاستقلال هو الهدف الأسمى، فإنّ الحياد لم يعُد سوى وسيلة لصون الاستقلال. وهذا أيضاً شرطٌ غير متوافر للبنان!
فإذا كان أيّ من تلك الشروط اللازمة لكي يتحقّق خيار الحياد، غير متوافر للبنان، فما النفع اليوم من الجهر عالياً وبالصوت القوي بما يُراد له أن يكون شعاراً وطنياً، وهو في واقع الأمر ليس أكثر من أمنية صادقة؟
بطبيعة الحال، أوّل ما يتبادر إلى الذهن هو أنه حين تُرفع راية الحياد، يكون المقصود بذلك «تحييد» مفاعيل وجود حزب الله في لبنان، فقد أعلن بطريرك الموارنة المونسنيور بشارة بطرس الراعي في عظته، بكل صراحة: «إننا نحثّ فخامة رئيس الجمهورية على العمل على رفع الحصار المفروض على الشرعية وعلى القرار الوطني الحر»، مشيراً بالاسم إلى حزب الله الذي يتّهمه بأنه «يخوض حروباً ويجرّ معه لبنان في سوريا واليمن...». «حياد لبنان الذي هو جزء من جوهره تمزق الآن».
بطبيعة الحال، ليس «تحرير» لبنان من غلبة حزب الله بالأمر الجديد. على العكس من ذلك، الجديد في الأمر هو عودته بقوة عندما ارتفع شعار نزع سلاح حزب الله، وللمرة الأولى، في نهاية شهر أيار/ مايو، بعد سبعة أشهر من التظاهرات. لا أدري ما إذا كان بالإمكان تقديم شرح مفصّل لذلك. ولكن يبدو لي أنه لكي أقدّم إجابة، يجب الخروج من النطاق اللبناني المحض إلى النطاق الأوسع الإقليمي والدولي، حيث يندرج تفعيل مطلب الحياد؛ فالراغبون في الحياد يأملون إدراج رغبتهم/ أمنيتهم في «تحييد» قوة حزب الله وتقليم أظافره، في إطار السعي الإقليمي/ الدولي الراغب في «تحييد» التأثير الإيراني في المنطقة وتقليم أظافر إيران. فـ«عسى» تتحقق أمنيتهم من خلال تحقيق الأمنية الإقليمية. الأمل ضعيف، بطبيعة الحال؛ ولكن هل هناك باب آخر يمكن أن يكون مفتوحاً أمامهم؟
حيادية غير معقولة ومتناقضة ولا يمكن للبنان أن ينالها، لأنه حتى لو أراد أن يكون «محايداً»، فإنه يجد نفسه غير محايد، ومُرغَماً على الاصطفاف مع أحد المحاور الإقليمية المتصارعة.

* مفكّر وأكاديمي لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا