من الغباء تكرار فعل الشيء نفسه مرّات ومرّات، وتوقُّع نتائج مختلفة أينشتاين

نعم، إنها مستحيلة، هي وحدة الفصائل الفلسطينية. مستحيلة لأنّ المهيْمن على تمثيل الشعب فلسطيني، كان قد حسم أمره، منذ ما قبل أوسلو، للسير في الركب الأميركي، فدخل من بوابة اتّفاقية «السلام» مع المحتل إلى سجنٍ بمُسَمّى سلطة. حكم على نفسه، حكماً مؤبّداً، بالبقاء مقيّداً، لا يستطيع التحرُّر من قيده إذا ما اكتشف خطأه. أما الآخرون، فقد أثبتت التجربة، الممتدة لعشرات السنين، أنهم عاجزون عن الحفاظ على كياناتهم من دون الاتّكاء على التيار المهيْمن، وأنهم مضطرون، ولو بعد تمنُّعٍ، لمجاراته والقبول بما كانوا قد رفضوه سابقاً. نمت هذه المعادلة في أواسط السبعينيات، وتكرّست «شرّاً لا بدّ منه» بعد توقيع أوسلو. ما يُؤسَف له، أنّ ظهور فصائل جديدة مثل «حماس»، وعلى الرغم من أنّها باتت تمثّل قطباً موازياً لـ«فتح»، لم يُسهم في تغيير هذه المعادلة، بل رسّخها. أمّا السبب الأهم لهذه الأزمة المستفحلة، فهو افتقار هذه المنظّمات لمقوّمات الاستقلالية، وعلى الأخص بسبب اعتمادها المالي على جهات خارجية، دولية وإقليمية. فسلطة رام الله غير قادرة على إدارة شؤونها، ولو بحدّها الأدنى، بدون المساعدة المالية الخارجية، ولا سلطة غزة كذلك؛ حتى إنّ الهواء والماء وقوت اليوم، يجب أن يمرّ بإذنٍ من هذا أو ذاك وبتمويلٍ من آخر. على الرغم من كلّ هذا، نشهد صراعاً على السلطة ولا أشد، وهذا شيءٌ باعثٌ للسخرية.
الوحدة الوطنية شرطٌ أساسيٌّ لتحصيل الحقوق الفلسطينية المشروعة. ويتمثّل تعبيرها السياسي في اتحاد القوى الفلسطينية الفاعلة، أو في التنسيق المنهجي في ما بينها كحدٍّ أدنى. لكنّ السؤال المُلح الآن، كما في السابق: ما العمل إذا فشلت هذه القوى في المهمة الوطنية المنوطة بها مرّات ومرّات؟ ما العمل إذا كان عمر أيّ اتفاق لا يدوم سوى أيام معدودة، وعمر الشقاق يدوم سنواتٍ وسنوات؟ ما العمل إذا كان كلّ اتفاق بينها يأتي لتثبيت التراجع «الرسمي» عن حقٍّ أو مبدأ؟ ما العمل إذا كان الزمن لا يُمهل، فإذا أضعت فرصة يأخذها غيرك، وإذا لم تعالج المرض في الوقت المناسب يصبح مزمناً في حال لم يقتلك؟ ما العمل إذا تحوّل من يتولّى حلّ مشكلاتنا إلى مشكلة لنا؟
انشغلت التنظيمات الفلسطينية، منذ نشأتها، بالوحدة الوطنية. لكن، وإلى الآن، لم تجد هذه التنظيمات الوقت لتحديد مفهوم هذه الوحدة، مكتفية باعتبار الحوار في ما بينها والتوصّل إلى اتفاق شرطَيْن كافيَيْن لإنجاز هذه الوحدة. يقول عبد الله حوراني في مقال له نُشِرَ في جريدة «البيان» الإماراتية، بتاريخ 09/07/1999، «إنّ مفهوم الوحدة الوطنية يعني اتفاق أو توافق مجموع القوى والفعاليات والشخصيات الوطنية والشعبية على برنامج وطني، يجري فيه تحديد استراتيجية العمل الوطني تجاه القضية الوطنية، والتكتيكات المتبعة، وآليّة التنفيذ، وفق كل مرحلة من المراحل، وتجاه كل ساحة من ساحات العمل، داخل الأرض المحتلّة، وعلى المستوى العربي، والإقليمي والدولي». توصّل الحوراني إلى هذا المفهوم الجيّد، بناءً على خبرته الطويلة في منظّمة التحرير، كعضو في لجنتها التنفيذية. على الرغم من أنّ المفهوم بحاجة إلى تطوير، إلّا أنّه يحتوي على قضيّتين رئيسيّتَين لم تحظيا بالاهتمام سابقاً، وهما: الاتفاق على آلية تنفيذ البرنامج الوطني، والتكتيكات الواجب اتّباعها. بالمناسبة، لا يمكن اعتبار البرنامج المرحلي الذي أقرّته المنظمة، في عام 1974، برنامجاً، لأنّه يخلو من هاتين المسألتين. الغريب أنّ القوى المشاركة في هذا البرنامج، وعلى الرغم من إدراكها لأهمية آليّة تنفيذه، وافقت على توكيل القيادة بالأمر، فتصرّفت الأخيرة على هواها.
الوحدة الوطنية الفلسطينية، سواءً من ناحية المفهوم أو شروطها السياسية والتنفيذية، بحاجة إلى دراسة معمّقة لا مجال لمعالجتها في هذا المقال، لذلك أكتفي بالإشارة إلى التالي:
- لا بدّ من النظر إلى صلاحيّة القوى المشاركة في الوحدة الوطنية. إذ لا يُعقل أن يكون طبيبٌ، مات على يديه عشرات المرضى، مديراً لمستشفى، ولا أن يكون الحرامي أمينَ صندوقٍ أو مستودع. لذلك، من المنطقي أن يُطرَح السؤال التالي: هل التنظيمات الفلسطينية، المُجرَّبة مرّاتٍ ومرّات، صالحة لإنجاز الوحدة المنشودة؟ لا بدّ من فحص ذلك، وبناء على الشيء مقتضاه.
- الوحدة الوطنية برنامجٌ، وكذلك عملية متواصلة، إنّها سيرورة؛ وبالتالي، لا بدّ من التركيز، بالإضافة إلى الأهداف السياسية، على الخطة التنفيذية الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف، وكذلك آليّات التقييم والتصويب لسدّ الثغرات غير المتوقّعة.
- شعوراً منها بالمسؤولية، بادرت بعض المجموعات للتصدّي للأزمة المستفحلة، فتمّ الإعلان حديثاً عن تشكيل المنبر اليساري الديموقراطي الفلسطيني، وكذلك المسار الفلسطيني البديل. لا شكّ في أنّ تشكيلهما وتشكيل مجموعات سابقة ولاحقة، في الداخل والخارج، ظاهرة صحّية، لكن لا بدّ من القطع كليّاً مع التجارب السلبية السابقة، والتركيز على بناء حالة شعبية فعّالة غير ملوّثة بنكهات الفصائل الماضوية. كما يُستحسن، توجيه الاهتمام نحو البناء التدريجي للتشكيلات السياسية الجديدة وللأطر الشعبية الفاعلة، لتكتسب القدرة على التأثير الإيجابي في مجمل الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. ومن الضروري التعاطي الدائم مع قضايا الحاضر بأفق مستقبلي حتى لا تضيع البوصلة.
الهزيمة اللاحقة بنا اليوم، ليست وليدة الساعة، هي قديمة ومتنامية منذ عشرات السنين، وأبطالها هم الناطقون باسمنا. نعرفُ أنّ القائد الشهم يقدِمُ على الاستقالة إذا خسر معركة، أمّا قادتنا فيرفعون شارة النصر بعد كلّ هزيمة، وما أكثرها. إنّها لوحة كئيبة للمشهد الفلسطيني، لكنّ حياة الشعوب لا تستقيم مع الكآبة، فلا بدّ من مخرج، والمخرج بيد القوى الحيّة وليست المنتهية الصلاحية. والشعب الفلسطيني حيوي، ويملك من الطاقات والخبرات ما يكفي لتصحيح المسار، شرط أن تُستثمَر بطريقة صحيحة من قبل أداة صالحة.
* كاتب وباحث فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا