مرّت إيران، في الفترة التي تلت هروب الشاه وانهيار نظامه في شباط / فبراير 1979، بموجة فوضى عارمة اجتاحت طول البلاد وعرضها، وخصوصاً المدن الكبرى، شيراز وأصفهان وتبريز، وبالذات العاصمة طهران. واستمرّت تلك الفترة الحرجة والحاسمة في تاريخ إيران الحديث، ما يقرب من ثلاث سنوات، إلى أن تمكّن نظام الثورة الإسلامية من ترسيخ أقدامه وتثبيت دعائم حكمه القائم إلى اليوم. فصحيح أنّ الثورة انتصرت وعاد قائدها الإمام الخميني مظفّراً إلى إيران، إلّا أنه لم تكن لديه هيكلية تنظيمية ولا كوادر مؤهّلة ومُهيَّأة لإدارة وحكم بلد كبير بحجم إيران. كان آية الله الخميني يعتمد أساساً على التأييد الذي يحظى به وشعبيّته الجارفة بين عامّة الناس، الذين اعتادوا سماع خطبه الداعية للثورة على الشاه ونظامه، وكانوا يستجيبون لها. كانت حالة فريدة من العلاقة المباشرة بين قائد شعبي ثوري وناسِه وجمهوره، مباشرة ومن دون وسطاء. فلم يكن غريباً، إذن، أن تمرّ البلاد بفترة من حالة اللاسُلطة، وتصبح ساحة مفتوحة على مصراعيها لكلّ أصحاب الأجندات الثورية والاتجاهات السياسية المختلفة والقوى الحزبية القديمة والمستجدّة، ناهيك ببقايا نظام الشاه وأنصاره، بالإضافة إلى أجهزة الاستخبارات الأجنبية وامتداداتها المحلية. وفي خضمّ ذلك الاضطراب العظيم، برز الإمام الخميني، بماضيه الذي لا تشوبه شائبة وشخصيّته الصلبة وإيمانه الذي لا يتزعزع، كقطب رحى قادر على استقطاب الجماهير والتأثير فيها وتوجيهها نحو أهدافه ومشروعه. في البداية، حاول آية الله الخميني الانفتاح على كلّ القوى والاتجاهات الإيرانية التي كانت معارضة للشاه، الليبيرالية - الوطنية والقومية - الاشتراكية واليسارية - الشيوعية، واعتبرهم جميعاً شركاء في الثورة والتغيير. ولكن، كما في كلّ الثورات الكبرى في التاريخ حين تنتصر، كانت حالة التعدّدية لا يمكن أن تستمر، وكان لا بدّ من الحسم. وأتى الأمر تلقائياً، وبدون أن يضطرّ الإمام الخميني إلى أن«يأمر» بذلك، بل كانت المبادرة من الطرف الآخر - الشريك في الثورة والوطن - ولم يكن للخميني سوى ردّ الفعل. كانت «مجاهدي خلق» المنظمة الأبرز في المعارضة الإيرانية لنظام الشاه، بعد التيار الإسلامي بقيادة آية الله الخميني. وهذه المنظمة كانت هجيناً من القومية الإيرانية ذات التوجّهات الاشتراكية وبصبغة إسلامية. كانت تنظيماً شرساً في الواقع، وذات قيادة حديدية شديدة التسلّط والفرديّة. وطبعاً، لم تكن رؤى الإمام الخميني ونظرته لمستقبل إيران تعجب «مجاهدي خلق» ولا تنال رضاها. وقد حاولت استغلال الفوضى الشاملة في البلد، لفرض رؤيتها وأخذ حصّة الأسد من الحكم الجديد مستغلّة صلابة تنظيمها وخبرتها في العمل السري أيام الشاه. ولكنّها اصطدمت بعقبةٍ كأْداء، وهي شعبية الإمام الخميني الجارفة وشخصيّته الكاريزمية، وتأثيره في الجماهير الذي لم تكن قادرة على مجاراته. والحق أنّ «مجاهدي خلق» حاولت سلمياً أن تجرّب حظها في النظام الجديد، فشاركت في الانتخابات الشعبية التي جرت لاختيار أعضاء مجلس الشورى (البرلمان) الجديد، وأيضاً مجلس خبراء الدستور، ولكنّها فشلت في الحالتين وخسر مرشّحوها أمام أنصار الإمام الخميني ومؤيّديه. حينها، قرّر مسعود رجوي، زعيم المنظمة، ورفاقه، انتهاج أسلوب جديد، وهو العنف المسلّح، عندما رأوا أنفسهم في الهامش وخارج نطاق التأثير في العهد الجديد.
قدّرت قيادة «مجاهدي خلق» أنّ بإمكانها استغلال عدم امتلاك آية الله الخميني لقوةٍ عسكريةٍ وأمنيةٍ حقيقيةٍ على الأرض، لإسقاطه والقضاء على مشروع «الحكومة الإسلامية» الذي كان يسعى إليه. كانت ترى اعتماده على رجال دين وفقهاء، ومعهم وطنيون وليبراليون، كلّهم سلميون وبدون خلفيّات عسكرية، فاعتبرت أنّ ذلك نقطة ضعف وقررت أنّ بإمكانها القضاء عليهم عن طريق حملة اغتيالات مركّزة تستهدف كبار أنصار الخميني ومساعديه الذين يعتمد عليهم في إدارته الجديدة. والأرجح أيضاً، أنّ «مجاهدي خلق» مدّت حبال الوصل مع أجهزة استخبارات غربية، أميركية وفرنسية بالتحديد، لها مصلحة في إسقاط النظام الجديد الذي يتشكّل في إيران.
وبدأ التنفيذ. فكانت المرحلة الأولى من المخطّط موجة واسعة من عمليات التفخيخ واشتباكات متفرّقة وعمليات مسلّحة هنا وهناك، وتفجير باصات وإحراق سيارات ودرّاجات نارية، وقتل موظّفين حكوميين وتجّار مؤيّدين للخميني؛ عنفٌ مسلّح يبثّ حالة من الاضطراب الشديد في طهران خصوصاً، والبلد عموماً. ثم انتقلوا إلى المرحلة الثانية والأخطر، وهي اغتيال جميع رموز الصف الأول من قيادات الجمهورية الإسلامية، الذين يعتمد عليهم الإمام الخميني في حكمه. باشرت «مجاهدي خلق» بتصفية كلّ من يشغل منصباً كبيراً (أو حتى صغيراً!) في النظام الجديد، منتخباً كان أو معيّناً. وكان من ضمن ضحايا موجة اغتيالات عام 1979، مرتضى مطهري، رئيس مجلس قيادة الثورة، ومحمد قرني، أول رئيس أركان بعد الثورة، وآية الله طباطبائي. ثمّ اتّبعوا ذلك باغتيال آية الله صدوقي، إمام جمعة يزد، وآية الله دستغيب، إمام جمعة شيراز، وآية الله مدني، إمام جمعة تبريز. سادت حالة من الرعب في صفوف معسكر الإمام الخميني، بسبب الخطر الشديد الذي صار محيطاً بهم، إلى درجة أنّ الشيخ هاشمي رفسنجاني كان لا يتنقل في طهران، إلّا وهو ممدّد داخل سيارة إسعاف إمعاناً في التخفّي (كما قال هو للصحافي المصري فهمي هويدي)!
قدّرت قيادة «مجاهدي خلق» أنّ بإمكانها استغلال عدم امتلاك آية الله الخميني لقوةٍ عسكريةٍ وأمنيةٍ حقيقيةٍ لإسقاطه


تابعت «مجاهدي خلق» نشاطها المميت، على مدار عام 1980، وما إن حلّ عام 1981، حتى وسّعت دائرة استهدافاتها إلى أبعد مدى. وفي حزيران / يونيو، أصدرت بيانها السياسي - العسكري، الذي أعلنت فيه العصيان المسلّح والحرب الشاملة ضدّ نظام الجمهورية الإسلامية. وفي يوم 27 من الشهر ذاته، نفّذت محاولة اغتيال لآية الله خامنئي (المرشد الحالي)، الذي كان حينذاك يتولّى منصب ممثّل الإمام الخميني في مجلس الدفاع الأعلى، بالإضافة إلى كونه إمام جمعة طهران. زرعت «مجاهدي خلق» قنبلة في المنبر وفجّرتها، في الوقت الذي كان يُلقي فيه السيد علي خامنئي خطبته في مسجد أبي ذر في طهران. نُقل آية الله خامنئي إلى المستشفى، وهو في حالة الخطر الشديد، بعدما تعرّض لإصابات بالغة، ولكنّه نجا من الموت (وإن بقيَت يده اليمنى مشلولة لغاية الآن، من آثار ذلك التفجير).
وفي اليوم التالي مباشرة، 28 حزيران / يونيو 1981، نفّذت «مجاهدي خلق» عمليّتها الكبرى. مذبحة حقيقية تعرّضت لها قيادات الصف الأول في نظام الجمهورية الإسلامية. تفجيرٌ هائل يدمّر مقرّ الحزب الجمهوري الإسلامي (كان الإمام الخميني وافق على تشكيله لينافس في سلسلة الانتخابات - كتعبير سياسي عن الثورة الإسلامية) بالكامل، أثناء اجتماع القيادة العليا له. الهدف الأبرز الذي كان مستهدفاً، هو آية الله محمد حسين بهشتي الذي كان يُعتبر أحد أعمدة الثورة وأكثر رجالها تأثيراً في إيران بعد الإمام الخميني، وكان رئيس الحزب ورئيس السلطة القضائية. وصل عدد القتلى في التفجير إلى 73 من القيادات المهمّة. وبالإضافة إلى آية الله بهشتي، ضمّت قائمة الضحايا محمد منتظري (من قادة ومؤسّسي الحرس الثوري وابن آية الله منتظري - نائب الإمام الخميني)، إضافة إلى أربعة وزراء في الحكومة (الصحة، الاتصالات، الطاقة والنقل)، وكذلك 17 من أعضاء مجلس الشورى (البرلمان). وأمّا الشيخ هاشمي رفسنجاني، فكُتبت له حياة جديدة حين غادر المبنى، قبل دقائق قليلة من الانفجار بسبب ظرفٍ خاص طارئ.
لا شك في أنّ تفجير 7 من شهر تير الإيراني (صار يعرف بـ«هفت تير» في أدبيات الثورة الإيرانية)، كان كارثة كبرى ألمّت بنظام الثورة الإسلامية. «اليوم مات نظام الخميني»، هكذا قال موسى خياباني الذي كلّفه مسعود رجوي بمهمّة التخطيط للعملية. توقّعات «مجاهدي خلق»، كانت أنها مسألة وقت فقط، قبل أن يتهاوى النظام الجديد، أيامٌ معدودات ويقطفون ثمار عملهم. إنها «الضربة القاضية وطعنة غُرست في قلب النظام لا يمكنه التعافي منها ولملمة أنقاضه»، أضاف خياباني في تقريره المرفوع إلى رجوي. ولكن ما أنقذ النظام حقاً، وأفشل مساعي «مجاهدي خلق»، كان الإمام الخميني بشخصيّته الهائلة وحضوره الطاغي لدى الجماهير، التي استجابت لندائه وخرجت بالملايين لتشييع ضحايا التفجير، في رسالة واضحة إلى رجوي وجماعته بأنّها لن تتخلّى عن الخميني.
لم تيأس «مجاهدي خلق»، بل سرعان ما أتبعت عملية «هفت تير» بعملية أخرى لا تقلّ عنها ضراوة. هذه المرة، المستهدف كان رئيس الجمهورية الذي لم يمضِ سوى شهر واحد على انتخابه، محمد علي رجائي. كان الرئيس يحضر اجتماعاً في مقرّ رئاسة الوزراء لمجلس الدفاع الأعلى، حين انفجرت قنبلة أسفرت عن مقتل مجموعة جديدة من قيادات الصف الأول في الثورة: الرئيس محمد علي رجائي، ومعه رئيس الوزراء محمد جواد باهنر، إضافة إلى رئيس شرطة الجمهورية الإسلامية العقيد وحيد دستجردي، كانوا أبرز ضحايا التفجير الجديد.
ورغم هذه الخسائر والضحايا والدماء، نجح نظام الثورة الإسلامية في تجاوز المرحلة الحرجة والخروج من عنق الزجاجة. وابتداءً من عام 1982، ضعفت قوّة «مجاهدي خلق»، وبدأ عناصرها وقياداتها يهربون إلى خارج إيران، بعدما قويت شوكة الحرس الثوري والأجهزة الأمنية الجديدة. لا يفلّ الحديد إلا الحديد، صار للخميني قوّة تدافع وتضرب بيد من حديد إذا لزم الأمر. انهزمت «مجاهدي خلق»، ولكنّ الثمن كان باهظاً، فعدا الضحايا الذين سقطوا كان التغيير في توجّه النظام من قبول التعدّدية والشراكة في الثورة والوطن، إلى الأحادية في نظام الجمهورية الإسلامية وولاية الفقيه، فلم يعد ثمة مكان في الأفق السياسي الإيراني لمن يعارض نظام الثورة الإسلامية، الذي أسّسه الخميني ورفاقه ودفعوا ثمنه ضريبة العرق والدم.
ولكن لم تتوقّف الاغتيالات بعد ذلك، بل استمرّت وإنّما تغيّرت في نوعيّتها وأهدافها. صار الاستهداف يصدر من جهات خارجية ويتوجّه في معظمه نحو الكوادر العلمية والتقنية، أو شخصيات عسكرية وأمنية رفيعة المستوى. وما بين عامَي 2010 و2012، تعرّض أربعة من كبار علماء البرنامج النووي الإيراني إلى الاغتيال، والشبهات كلّها تحوم حول الموساد الإسرائيلي الذي ليس بعيداً أنه يستعين بعناصر قديمة / جديدة من «مجاهدي خلق»، أو غيرها من أعداء النظام. إلى أن وصلنا إلى سنة 2020، التي بدأت باغتيال رمز إيران الكبير قاسم سليماني، وها هي تنتهي باغتيال محسن فخري زاده، أبي البرنامج النووي.
كما حصل في الماضي، سيحصل الآن وغداً: لن تتأثر قدرات إيران العسكرية والتكنولوجية، فذاك مستبعد تماماً في ظلّ المؤسّسيّة التي تعمل وفقها البرامج العلمية والاستراتيجية في إيران وضخامة حجمها. والكيان الصهيوني يعلم ذلك، ولكنّه يوجّه الضربات من باب إثبات الذات، قاصداً إحباط المعنويات وترهيب من يمكن ترهيبه من علماء إيران ومسؤوليها. لن تفلح إسرائيل في مسعاها، فكلّ شهيد يسقط في إيران يذكّر شعبها بالمظلوميّة، ويزيد من التفافه حول نظامه. ولا ننسى أنّ «الشهادة» هي في صميم روح الشعب الإيراني ووجدانه، من الحسين بن علي إلى... محسن فخري زاده!

* كاتب أردني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا