في 16 تشرين الثاني 1932 أسّس أنطون سعادة الحزب السوري القومي الاجتماعي... ثمانية وثمانون عاماً مضت على تأسيس الحزب حفلت بالتحديات والمصاعب والمحن، وتُوجت في الثامن من تموز 1949 بإعدام مؤسس الحزب وباعث نهضة الأمة أنطون سعادة.في كل محطة تاريخية صعبة مرّ بها الحزب، كان يخرج منها حزباً يستعيد حضوره ودوره متمسّكاً بعقيدته ومؤسساته. وبالرغم من أزمات الانقسامات التي عرفها، كان يتغلب عليها ويستأنف نشاطه. وبقي السوريون القوميون الاجتماعيون أشد تمسكاً بعقيدة الحزب ومؤسساته، مؤكدين أن الحزب هو فكرة وحركة ونهضة تثبت راهنيّتها في معترك الصراع والحياة. وإن ما يُروج عن تقادم الأحزاب العقائدية ومفاهيم الأمة والقومية، ولا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتصار منظومات العولمة والنظام الرأسمالي والليبرالي والاقتصاد الحر وانبهار كتّاب ومفكرين بهذه المفاهيم، لم يطرق باب الشك أبداً إيمان القوميين الاجتماعيين بعقيدتهم واعتبارها خشبة الخلاص والنهوض للأمة.
فهل هذا الاعتقاد الراسخ لدى القوميين الاجتماعيين، هو من المسلّمات غير القابلة للنقاش والحوار والتفاعل لتبيان صحة المعتقد الفكري الذي يؤمنون به؟
هذا التساؤل يُطرح أمام المفكرين والكتّاب القوميين المؤمنين بتعاليم سعادة وعقيدته، وإثبات مدى صحة المنطلقات والمرتكزات الفكرية والعلمية والفلسفية التي نهض عليها بنيان العقيدة السورية الاجتماعية ومؤسسات الحزب النهضة، وتبيان مقدار استجابتها للتحديات الراهنة، واعتبارها حلولاً إنقاذية لازمة، لحالة الأمة التي تواجه حقاً، مصيراً وجودياً، في معترك الحياة أو الموت، على كل المستويات، قومياً واجتماعياً، وعلى مستوى الهوية القومية، والدولة الحديثة، ومستوى وحدة المجتمع ومقوّمات هذه الوحدة، ومستوى الكيان الحضاري والتاريخي الذي ميّز الأمة، دوراً وحضوراً ومساهمة فاعلة عبر التاريخ.
قال أنطون سعادة: المبادئ للشعوب وليست الشعوب للمبادئ. هذا يعني أن المبادئ، عقيدة وغاية، حزباً ومؤسسات ووظائف، مقاصدها الأخيرة خدمة الشعب والنهوض به، وتقديم الحلول الناجعة لقضاياه وأزماته ومحنه، والارتقاء به في معراج التطور والتقدم والثبات في عالم تنازع الأمم وتضارب المصالح، وصراع البقاء. انطلاقاً من ذلك، أطل على واقع الأمة وواقع المجتمع، تسهيلاً للخلاصات، حول راهنية فكر سعادة وصوابية الحلول التي أرساها، مبادئ قومية ومفاهيم حضارية وقيماً نهضوية، حيث تزداد حاجات الأمة والمجتمع إليها، وتطلبها حاضراً كما ماضياً، ومستقبلاً كما حاضراً.

التحدّي القومي
ازداد واقع الأمة تمزّقاً وتفكيكاً، منذ معاهدة سايكس بيكو التآمرية على بلادنا عام 1916، وتلك المعاهدة التي اعتمدت نموذجاً استعمارياً لتقسيم بلادنا جغرافياً وسياسياً، وشكّلت حاضنة لتقسيم أشد فتكاً وضرراً، بحيث إن كيانات سايكس بيكو التي تجسّدت بدءاً من عام 1920، تخردقت ولم تقف عصبية الكيانية التي استولدتها من رحم التجزئة، عند حدود الكيان، بل وهنت، وتشظّت إلى حدّ بات الحفاظ على وحدة كل كيان إنجازاً نوعياً، ومكسباً قومياً وحدوياً!!
كما أسس وعد بلفور المشؤوم عام 1917 إلى انغراس كيان يهودي- صهيوني استيطاني عنصري أخذ يتمدد ويتوسّع على حساب كيانات التجزئة المستحدثة وبلغ مدى التوسع الاستيطاني، وهلهلة الكيانات المحيطة حداً يُظن أن الكيان الوحيد القابل للحياة في هذه المنطقة، هو الكيان اليهودي الصهيوني، وسائر الكيانات الباقية إلى تفكك واختزال!! ولنا في العراق «المفدرل» وفي لبنان المطوّف بالديمقراطية التوافقية الطوائفية وفي الشام المستهدفة لفرط وحدة الدولة المركزية والمحاصرة بمخطط «تتريك» متجدّد في الشمال، وبكيان كردي في الشرق، وكيان صهيوني غاصب في الجنوب أمثلة صارخة على هذا الواقع المرّ.
وعلى أرضية هذا الواقع، تُهمش المسألة الفلسطينية، مرحلة بعد مرحلة، وتتراجع من مرتبة القضية المركزية للأمة والعالم العربي، كما كانت عليه طوال القرن الماضي إلى قضية عادية مثل سائر القضايا التي تواجه أمتنا والعالم العربي، وأن التهميش لم يقتصر على اعتبارها مسألة قومية جامعة وحسب، بل بلغ حدّ أن المستوى الفلسطيني –الفلسطيني أخذت تتحكم به المصالح السلطوية وتنازع النفوذ بين القوى والفصائل وتبوء بالفشل كل مساعي التوحيد، وتكاد موضوعة الوحدة الوطنية الفلسطينية تصبح ضرباً من ضروب الخيال، في ذروة تصفية شاملة ونهائية للمسألة الفلسطينية تحت ضربات صفقة القرن بمندرجاتها على المستويين القومي والعربي.
كما تصطدم العلاقات اللبنانية - الشامية بجدارات القطيعة والعداء طوال السنوات الماضية، ويحكم طوق الحصار على لبنان والشام معاً، بقانون «قيصر» كعقاب اقتصادي وحرب بأدوات ناعمة لتقويض مناعة الأمة ومقاومتها.

التحدّي الاجتماعي
إن التحدي الاجتماعي والمجتمعي ليس شأناً أقل خطراً. إن الأمة، كهيئة اجتماعية واحدة، تكاد صورتها تختفي وتتلاشى أمام مدّ انحطاط المفاهيم والعصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية من العراق إلى لبنان مروراً بالشام، وصولاً إلى فلسطين وتغيب الروابط الجامعة وتكاد تضمحل ليحلّ بدلاً منها روابط تفكيكية، تنتعش في أحضانها دعوات للفيدرالية، والحكم الذاتي والحياد، واللامركزية الموسّعة إدارياً ومالياً مع ما تستبطنه من نزوع للانقسام والانفكاك عن الدولة الواحدة التي تتراجع بشكل مخيف ومقلق، ولم يبق منها إلا هيكل لمؤسسات فارغة، تتآكلها الزبائنية والفساد والمحسوبية والمحاصصة، والمفروزة طائفياً ومذهبياً (فدرالية طوائفية) ، ومؤسسات عسكرية وأمنية، هي في واقعها حارسة للنظام والأصح قولاً: حارسة لأمراء الطوائف ومغاوير المذاهب الذين يتقاسمون الدولة في السلم، كما تقاسموها في الحرب.
إن فكرة الدولة الواحدة الموحّدة، وعمادها المواطنة، رابطة وحيدة للحقوق والواجبات لجميع مواطنيها، دولة القانون والمؤسسات، الدولة الديمقراطية التي تصون الحريات العامة والمتحررة من منظومات الاستبداد والقمع، والمعطّلة للحوافز على كل مستوى؛ الدولة التي يحيا في رحابها أبناء المجتمع الواحد، أحراراً متساوين، لا رعايا، ولا أهل ذمة، ولا مواطنين قيد الدرس، أو مكتومي القيد عند أرباب السلطات والسلاطين، فكرة الدولة هذه غائبة كلياً. المفارقة المدهشة هي أن فلسفة زينون الرواقي ابن بلادنا طرحت نموذج «المواطن العالمي» قبل آلاف السنين في حين أن حجم التخلف الاجتماعي والسياسي والحقوقي يبلغ في زمننا الحاضر مستوى أننا نتوسل أن نحصل فيه على رتبة مواطن في بلادنا...

تحدّي التطبيع عربياً
إن التحدي المصيري أيضاً، لأمتنا، هو في هذا التطور المتصاعد خطراً الذي يزحف مع قطار التطبيع الذي يجتاح دول الخليج والعالم العربي، حيث نشهد تساقط معظم الأنظمة في شرك التطبيع الصهيوني، نظاماً بعد نظام. ويكاد العالم العربي أن يصبح عالماً عبرياً لا عربياً مكبّلاً بالمعاهدات والاتفاقات الاستسلامية التي حكمت أمة وادي النيل مصر(معاهدة كامب ديفيد) والسودان كما تتمدد إلى معظم دول الجزيرة العربية (معاهدة أبراهام) إضافة إلى اتفاقية وادي عربة مع الأردن واتفاق أوسلو مع السلطة الفلسطينية.
ويأخذ التطبيع مع دول الخليج العربي أبعاداً خطيرة ليس فقط على المستوى الدبلوماسي والاقتصادي بل على المستوى الثقافي والديني، وتتولى الفضائيات الإعلامية الخليجية، الترويج للعلاقات الإسلامية-اليهودية، و«تسييس» الرباط بين التوراة والقرآن، والتركيز على الوجود اليهودي-الإسلامي في الجزيرة العربية، ما يعبر عن اتجاه مصمّم لتعميد التطبيع والهرولة بغطاء ديني، يبرر التفريط والتنازل ويقدم صكّ براءة لاحتلال فلسطين والتخلي عن المقدّسات في إطار تنفيذ مندرجات صفقة القرن... فلا فلسطين وشعبها ولا القدس ومكانتها الروحية المقدسة ولا حق العودة ، ولا احتلال الجولان أو أجزاء من لبنان يقفون عائقاً أمام توطيد ركائز الحلف العبري-العربي الخليجي في مواجهة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بداعي الخوف من نفوذها وتمدده واعتبارها العدوّ، وليس من عدو سواه في المنطقة يستوجب تحشيد الأنظمة لصدّه.
ويكاد الدور العربي الوحيد للجامعة العربية كتكتل عربي إقليمي ينحصر بالتغطية على قرارات عدوانية تستهدف أمتنا ودولها من تغطية الحرب العدوانية على العراق إلى الحرب على الشام وصولاً إلى ليبيا وسواها من الدول العربية، كل ذلك دليل قاطع على أن هذه الجامعة فقدت دورها وهويتها وغايتها، ما يقتضي إعادة صياغة للعلاقات بين الدول العربية خارج هذه المنظومة الفاشلة. وليس من باب المصادفة أن تسمى معاهدات التطبيع باسم «ابراهام» للدلالة على البعد الديني الجامع.
في القرن الماضي أقدم الفاتيكان على ربط التوراة بالإنجيل والعهد القديم بالعهد الجديد، بحيث إن المؤمنين بالديانة المسيحية والعهد الجديد فُرض عليهم «تقديس» كتاب العهد القديم أي التوراة ليتم إيمانهم ويكتمل. وهذا ما تنبه لخطورته أنطون سعادة ودفعه إلى توجيه انتقاده الشهير إلى الفاتيكان عام 1946، في مقالة رؤوَية تاريخية «نفوذ اليهود في الفاتيكان» محذراً من تهويد الإيمان المسيحي وإعطاء صك براءة لاغتصاب فلسطين.
فهل نحن أمام مشهدية لتمدد النفوذ التوراتي إلى مملكة خادم الحرمين الشريفين والتّخلي عن أولى القبلتيْنِ.
وفي سياق هذا الانحراف والسقوط، إليكم ما يقوله تركي الفيصل، في رسالة موجهة إلى: «مؤتمر إسرائيل للسلام في تل أبيب»، في 7 تموز 2014: تخيلوا أني أستطيع ركوب الطائرة من الرياض إلى القدس، ويا لها من لذة أن أدعو الفلسطينيين والإسرائيليين...ليأتوا إلى زيارتي في الرياض، حيث يستطيعون التجول في بيت آبائي في الدرعية التي تشبه معاناتها التي نالتها من قهر إبراهيم باشا معاناة القدس على يد نبوخذ نصر والرومان»...بات في ثقافة الاستسلام والتطبيع والخيانة الموصوفة، تحرير نبوخذ نصر للقدس موضع إدانة وربما على الطريق ننتظر إدانة القائد صلاح الدين الأيوبي الذي حرّر بيت المقدس.
هذا واقع الأمة السورية والعالم العربي اليوم، والتحديات غير المسبوقة في صراعنا. ونسأل بكل موضوعية أليست الفكرة القومية، هوية وقيمة، القائمة على وحدة الأمة، هي الخطة المعاكسة لمعاهدة سايكس بيكو التآمرية والكيان الصهيوني الغاصب؟ لقد طرح الحزب السوري القومي الاجتماعي منذ سنوات مشروع: «مجلس التعاون المشرقي» متدرجاً لتحقيق التعاون والتنسيق على أكثر من مستوى بين دول الهلال الخصيب الذي يشكل مدماكاً صلباً في مواجهة مشروع إسرائيل الكبرى ويحقق مصالح شعبنا في هذه الدول، وهل من بديل عن هذا المشروع للخروج من متاهات الانعزال والتبعية؟؟
كذلك أليست القومية الاجتماعية هي ركيزة بناء عقيدة المواطنة والدولة المدنية الديمقراطية الحديثة وسبيل شعبنا في لبنان والشام والعراق للخلاص وهو الذي اكتوى من حراب الانقسامات الطائفية والمذهبية والعرقية، وتبدّدت قواه في حروب داخلية مدمرة لوحدته، لأمنه واستقراره، لثروته ومصدر رزقه، وتحولت مدن بلاده وقراه إلى رماد من شدة توهّج جمر الصراعات الداخلية، انتصاراً لأمير ، أو زعيم، أو مفت أو شيخ، أو توسلاً لأحلام دويلات طائفية ومذهبية، وإمارات دولة خلافة إسلامية مفترضة، ليس لها مكان في عالمنا المعاصر أو المستقبلي؟ وهل من حل إلا بالدولة المدنية وقاعدة الانتماء فيها وإليها رابطة المواطنة عقداً قومياً وسياسياً واجتماعياً وحيداً لانتماء المواطن لأمته ودولته ومجتمعه؟
وكي لا نقع في التباس، هل الحل إلا بالدولة المدنية القائمة على مبدأ فصل الدين عن الدولة واستئصال جرثومة الطائفية من مؤسسات الدولة من قانون الانتخاب والوظائف، كل الوظائف دون استثناء وعلى استحداث قانون موحد اختياري للأحوال الشخصية، نشداناً لحرية الاعتقاد، وحرية الاختيار أساساً لوحدة الحقوق المدنية والسياسية، وتمكيناً لبناء حياة اجتماعية مجتمعية واحدة تتجاوز الحواجز الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية ومستندة إلى وحدة التشريع القضائي والحقوقي الذي يصون حرية الفرد ويحترم قناعاته واختياراته؟
إن تعريف مصطلح الدولة المدنية وتحديد ماهيتها هو أمر ضروري كي لا يكون شعاراً فارغاً يُفسح في المجال لكل فئة أو طرف سياسي أو غيره أن يجتهد في تناوله لحساباتٍ خاصة تفرغه من مضمونه والغاية المرتجاة منه. ونجزم هنا أن مبادئ الإصلاح والتغيير الشامل، الحقيقي والعميق هي التي وضعها أنطون سعادة في مبادئ الحزب الإصلاحية وتعاقد القوميون الاجتماعيون عليها ويعملون بهديها.
القومية الاجتماعية هي المنهج لاستعادة هوية العالم العربي بالارتكاز على مفاهيم علميّة حضارية وتعاونية لرابطة العروبة. لا عروبة وهمية ، لا عروبة دينية، لا عروبة لغة أو دين أو مذهب، فاللّغة أو الدين قد يكونان عنصرين مقرّبين لا مقررين في تعزيز الهوية القومية. في العالم ، أمم قومية مكتملة الهوية، ولغاتها متعددة أو أديانها متعددة، أو لها معتقداتها خارج منظومة الأديان... لا بد من تفكير تجديد على مستوى النظرة إلى العروبة، وأن ربط العروبة بالإسلام يطرح على المؤمنين بها إعادة النظر بهذه المقولة. وقد ثبت أن النظرية القائلة بأن: «العروبة هي الجسد وروحه الإسلام» تفتقد إلى الأسس العلميّة والاجتماعيّة في نشوء الأمم والدّول، وأن كل محاولات التّوليف بينهما لم تنجح، وأن ما تشهده دول العالم العربي ومجتماعاتها من توتر ونفور وصراع وتمزق يقدم الدّليل القاطع على فشل هذه النّظرية.
تستغل الأنظمة العربية المستسلمة في هذه اللحظة التّاريخيّة شعار العروبة لتحرفه عن غاياته وأهدافه لنهضة العالم العربي والدفاع عن مصالحه، وهي الأنظمة التي ناصبت العروبة العداء الشامل وتآمرت عليها وارتمت في أحضان القوى الاستعمارية، حليفاً لها وحامياً لممالكها وإماراتها ومواقعها السلطوية طوال عهود سابقة اتخذت منها باباً لبناء جبهة عربية ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية وليس ضد العدو الصهيوني ورعاته الاستعماريين.
إن إنشاء الجبهة العربية التي تقف سداً منيعاً في وجه الإرادات الإنترنسيوية التي نصّت عليها غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي هو الغائب الأكبر في هذه الحقبة من التاريخ الذي نشهد فيه صعود إستراتيجيات الدول التاريخية في محيط أمتنا وعالمنا العربي، من الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى تركيا لوراثة «الدور العربي المفقود» ناهيك بالدور اليهودي الصهيوني للكيان الغاصب الذي يطمح أن لا يكون مجرد طرف في معادلة المنطقة بل أن يصبح قائداً مهيمناً على قرارها فارضاً كيانه على أنظمتها باعتباره يؤمن لها شروط الحماية والاستمرار والنفوذ.
كما يستغل شعار«الإسلام» سياسياً من قوى ومجموعات إرهابية متعصّبة متزمتة تعمل على إقامة دول إسلامية لتدمير هويتنا القومية ومصالح أمتنا وشعبنا وتحول الأرض التي يجب أن نقف عليها أمة واحدة، شعباً واحداً إلى أرض محروقة خدمة لمشروع إسرائيل الكبرى ومن يقف وراءها، وقد ثبت بالبرهان القاطع في العراق والشام ولبنان أن قوى هذا الإسلام السياسي ومجموعاته الإرهابية كانت حليفة للعدو وهي منتج من صناعة مراكز استخبارات معادية. والفارق كبير في مرحلة الصراع الدائرة بيننا وبين عدو المصير والوجود الكيان الصهيوني الغاصب، بين من يرفع أو يؤمن بشعار الإسلام السياسي الجهادي الذي يوجه سلاحه وقدراته ضد عدو الأمة على المستوى القومي، وإسلام سياسي يرتمي في أحضان العدو ومخططاته ويوجه سلاحه إلى صدر أبناء أمته ويصفي من يعارضه في المعتقد والرأي والاجتهاد ويدمر الإرث الحضاري في الأمة وكنوزها الشّاهدة على عظمتها في العراق والشام.
يجمعنا مع الإسلام الجهادي خط مقاومة، ونختلف معه على موضوع بناء الدولة المدنية اللاطائفية التي لا يقوم بنيانها أو تشريعاتها الدستورية أو قضاؤها على أساس ديني طائفي أو مذهبي بل على رابطة المواطنة الصّافية. القومية الاجتماعية ليست مجرد فكرة بل هي حقيقة راهنة تحتاج إليها الأمم والشعوب للتغلب على مشاكلها التي استعصت على إيجاد الحلول لها المفاهيم والنظريات القائمة عليها أنظمتها وتياراتها الفكرية.
ألا تفتش الولايات المتحدة الأميركية عن هوية أميركية جامعة لكل المواطنين الأميركيين، وقد استفحل تيار العنصرية يفسخ الولاء ويهدد الولايات المتحدة بالتفكك، ونستذكر كتاب المؤلف والمفكر الأميركي صامويل هانتنغتون الصادر عام 2014 «من نحن» وهو السؤال التاريخي الذي طرحه أنطون سعادة على نفسه وأمته «من نحن» عام 1932 قاصداً بلورة هوية قومية جامعة لأبناء أمته.
ألا تفتش الإدارات الأميركية المتعاقبة عن مصالحها القومية وسيطرتها الاقتصادية، تارة باسم «الحمائية الاقتصادية الأميركية» لضمان الصناعة الأميركية والإنتاج واليد العاملة وتخفيف البطالة وتقييد الهجرة، تنفيذاً لشعار أميركا أولاً الذي اعتمده دونالد ترامب وإدارته في سياساته أو تفتش تلك الإدارات عن مصالحها القومية وسيطرتها الاقتصادية باسم العولمة التي ميّزت سياسات الحزب الديمقراطي من خلال اعتماد الشركات العابرة للقارات للسيطرة على أسواق العالم ونهب موردها وثرواتها والتحكم بمصادر الطاقة.
ألا تواجه أوروبا سواء كاتحاد أوروبي أو أمم أوروبية مشاكل الهوية والعدالة الاجتماعية والهجرة والمواطنة وصعود تيارات في أكثر من دولة تدعو إلى الخروج من الاتحاد الأوربي، تمسكاً بما تراه مصالح قومية لها أو تلك التي تتمسك بصيغة الاتحاد تأميناً لمصالحها القومية.
أليس هذا العالم المعاصر بمشاكله واستحقاقاته بحاجة إلى عقيدة قومية اجتماعية موحّدة وجامعة تختلف تماماً في مضامينها الحضارية والاجتماعية عن نزعات القومية ـــ العنصرية أو القومية ــ الدينية أو القومية ــ اللغوية لتأمين مجتمع متماسك وموحّد ومتطور وحضاري؟
الفكرة القومية، هوية ومصالح، هي المحرك الحقيقي في عالمنا المعاصر...لماذا هي صالحة عالمياً وإنسانياً، وغير صالحة قومياً؟ القومية الاجتماعية حاجة أمتنا، وحاجة عالمنا العربي وحاجة إنسانية، بمفاهيمها العلمية الاجتماعية وآفاقها الحضارية.
أختم بنص للمفكر كمال يوسف الحاج في مقالته المنشورة في مجلة المجلة عام 1957: «سعادة ذلك المجهول»، خاطب فيه تلامذة أنطون سعادة قائلاً: «مهداة إلى الذين لستم منهم علّهم يدركون غور مداه».

*قيادي في الحزب القومي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا