بلغ لبنان أوجه في الوعي السياسيّ والتنوير في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، في موجة تحرّرية اجتاحت المدارس والجامعات، وأماكن العمل والترفيه، والصحف والمجلات، والكتب ووسائل الترفيه. ووصل الاختلاط المدني ذروته بعد 300 عام من تاريخ بيروت. وواكبت هذه الموجة أحزاب علمانية وتمدينية رأسها كمال جنبلاط حتى يوم اغتياله في 16 آذار 1977. ومن يومها أخذت موجة التنوير تتهاوى أمام ضربات الطبقة التقليدية اللبنانية بمعونة الشقيق والأشقاء قبل الأعداء، وبدا أنّ التاريخ ليس نهضوياً كما وصفه الفيلسوف كانط، بل يمكنه أن يتقهقر. احتوت سيرة كمال جنبلاط من 1950 إلى 1974 سلسلة من التحالفات الفاشلة مع أمراء حرب موارنة وآخرين في محاولة لإصلاح النظام السياسي والاقتصادي في لبنان. ولكنّه في أواخر الستينيات غيّر استراتيجيته من محاولة الإصلاح من داخل التركيبة التقليدية إلى مواجهة حاسمة عبر خلق تكتّل معارض من قوى اليسار اللبناني والمقاومة الفلسطينية ومن عدد من الشخصيات الإصلاحية التي لم تتمتّع بوزن سياسيّ أو اقتصاديّ تقليدي.
هنا استعادة لشخصية القائد والإنسان في ذكرى ميلاده (6 ديسمبر 1917).
(أرشيف - مروان طحطح)

كمال جنبلاط القائد
كانت شهرة جنبلاط أبعد من لبنان، حيث كانت علاقاته وثيقة بالدول العربية وبشخصيات عالمية، ونال «جائزة لينين للسلام» من الاتّحاد السوفياتي. وكان في تلك الفترة الشخصية اللبنانية الوحيدة المعروفة في معظم أنحاء العالم. ولكن صيغة نظام الحكم في لبنان حدّت من مقدرته على تنفيذ البرنامج الإصلاحي للحركة الوطنية، حتى اتّهمه خصومه أنّه يواصل الحرب و«يريد إلغاء الطائفية كي يصبح رئيساً للجمهورية» (!)
استقطب جنبلاط الدعم الفلسطيني واستوعب تحت عباءته تشكيلات اليسار والفئات الراديكالية والشخصيات المستقلّة في لبنان، ما عطّل دور أمراء الحرب والزعماء المسلمين من سنّة وشيعة الذين مالوا إلى دعم النظام اللبناني القائم وهاجموا جنبلاط، وخاصّة بعدما بدأت الحرب الأهلية في عام 1975.
وبرز انفصال كمال جنبلاط عن أمراء الحرب الآخرين في انتخابات 1968 البرلمانية. إذ إنّ القادة الموارنة (بيار الجميّل وكميل شمعون وريمون ادّه) انتظموا، لخوض الانتخابات، في «حلف ثلاثي» مناوئ لليسار والقومية العربية. وحذّر هذا الحلف من خطر المقاومة الفلسطينية على وجود لبنان وسيادته، ما أكسبه دعم الولايات المتحدة والدول الأوروبية. ولم تخلُ حملة «الحلف الثلاثي» الانتخابية من خطاب تهويل طائفيّ تقليديّ ومن إثارة خوف المسيحيين. حتى علّق كمال جنبلاط بأنّ «اليافطات الانتخابية في كسروان أعطت انطباعاً، أنّ جمال عبد الناصر يترشّح ضد مريم العذراء». وأضاف يومذاك: «هذا النوع من الحملات الانتخابية سيوصلنا إلى قبرص ثانية حيث سيحارب المسلمون والمسيحيون بعضهم البعض في لبنان، كما يحارب الآن الأتراك واليونانيون بعضهم البعض في جزيرة قبرص».
كان كمال جنبلاط أكثر نفوذاً في «الجمهورية اللبنانية» بعد الاستقلال عام 1943، من جدّه بشير جنبلاط في «إمارة جبل لبنان» في أوائل القرن التاسع عشر. وطيلة عمله السياسي، خصوصاً منذ أواسط الأربعينات مروراً بالخمسينات والستينات، أبقى كمال جنبلاط الزعامات المارونية والزعامات التقليدية في الطوائف الأخرى على أعصاب مشدودة بحملاته الكلامية. فكان كامل الطاقم السياسي اللبناني يأخذ حذره من «الزعيم الدرزي»، وبات هذا الطاقم في حال دفاع عن النفس تجاه انتقاداته اللاذعة. وفي بداية الحرب حتى رئيس الحكومة رشيد الصلح كان يسير في فلك طروحاته وينسّق خطواته مع كمال جنبلاط.
حتى ياسر عرفات، رئيس منظّمة التحرير الفلسطينية الزئبقي، لم يهرب من هالة كمال جنبلاط وشخصيته. ففي عام 1976، كان عرفات يرغب بالاتّفاق مع الرئيس السوري حافظ الأسد. فأقنعه جنبلاط بالمشاركة عسكرياً لمنع تقدّم الجيش السوري ضد قوى الحركة الوطنية. كما أقنعه بضرورة مساعدة مخيم تل الزعتر الفلسطيني الذي كانت تحاصره «الميليشيات الانعزاليّة» في نفس العام. فيما كان عرفات يعتبر «تل الزعتر» معقل الجبهات الفلسطينية الرافضة التي لا تخضع لحركة فتح التي يرأسها، عمل بمشيئة جنبلاط وأمر بهجوم على «محور المونتفردي» لتخفيف الضغط على تل الزعتر. وكان جنبلاط يوبّخ عرفات أحياناً حول بعض المسائل كمسألة شراء السلاح. فقد كانت منظّمة التحرير الفلسطينية تستورد السلاح باسم أحزاب الحركة الوطنية من بلغاريا ودول أخرى ثم تستبدله لدى وصوله إلى بيروت بأسلحة مستعملة وقديمة. وكان عرفات يعتذر بأنّ هذا ما تسلّمه، فكان جنبلاط يسخر منه بالقول: وهل الروس يكتبون على أسلحة الكلاشنكوف «أبو الجماجم» و«أبو الهول»؟ إشارة إلى الأسماء الحركية التي نقشها الفلسطينيون على الأسلحة القديمة.
كانت شهرة جنبلاط أبعد من لبنان حيث كانت علاقاته وثيقة بالدول العربيّة وبشخصيّات عالميّة


أمّا الرئيس السوري حافظ الأسد الذي أشاد بذكائه ودهائه وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر، فقد كانت له جولات حامية مع جنبلاط. وفي إحدى هذه المواجهات الكلامية بينهما في ربيع 1976 في دمشق، وجد حافظ الأسد في كمال جنبلاط ندّاً صعباً أطول صبراً منه على الجدل. إذ استغرق لقاؤهما ثماني ساعات ولم ترفّ عين جنبلاط أو ينصَع لكلام الرئيس السوري. فكان الأسد يطلب من جنبلاط دعم المبادرة السورية لوقف القتال في بيروت وجنبلاط يرفض ويقدّم الحجج والبراهين.
وحتى الرئيس المصري أنور السادات لقي درساً من كمال جنبلاط. إذ إنّ جنبلاط طلب من مصر إرسال قوّات مصرية لترجيح الميزان مع التدخل العسكري السوري في الأراضي اللبنانية عام 1976. وكان السادات على خصام مع الرئيس السوري حافظ الأسد، فألقى خطاباً حول لبنان وأطلق صيحته الشهيرة «إرفعوا أيديكم عن لبنان»، لكن ليس لدعم الحركة الوطنيّة التي يقودها جنبلاط، بل لدعم النظام اللبناني. فقد أخذ السادات يناشد بيار الجميّل وكميل شمعون وسليمان فرنجية التعاون لإنهاء الحرب، ويشيد بهم ويؤكّد أنّه «منح القادة الثلاثة ثقته ووصفهم بأنهم من سلالة عربية عريقة وأنّه يفهم حاجتهم ليعيشوا بعزّة وكرامة كعرب أقحاح في بلدهم». وأهمل السادات ذكر ريمون ادّه، وهو قطب ماروني هام في تلك الفترة وحليف كمال جنبلاط. وكان جنبلاط متّجهاً إلى مصر للقاء السادات، فطلب منه ريمون ادّه نقل رسالة طريفة إلى السادات: «قُل للرئيس السادات إن العميد ريمون إده سينزل نهار الجمعة إلى الجامع العمري الكبير في بيروت ويقتل ستة أو سبعة من المسلمين، لعلّه يصبح هو أيضاً سليل عائلة عربية عريقة».
وعندما التقى السادات في الاسكندرية، شرح جنبلاط الموقف في لبنان، وكان السادات يردّ عليه باستعلاء، فتضايق جنبلاط وقال للسادات: «بيسلّم عليك العميد ريمون ادّه»، وأبلغه رسالة ادّه. فضحك السادات وقال: «دمه خفيف والله! ده العميد لسّه عميد بسّ، ما رقيتوه لسّه؟». وهنا انتفض كمال جنبلاط الذي ضايقه هذر السادات وقال: «أنا لا أمزح، أنا عم احكي جدّ! إنت مين أذَنَك تصنّف الزعماء في لبنان؟ مين سمح لك تحكي هذا عربي وهذا مش عربي؟ مين قال لك هيدا بيقبل يكون عربي؟ هذا موضوع محلّي عندنا، نحن بنعرف بعضنا». وهنا انتفض حسني مبارك واقفاً، وكان حينها نائباً للرئيس، لكن السادات عالج الأمر وقال: «اقعد يا محمد اقعد... أنا ما بأصدش كده.. إحنا بنحاول نطوق الوضع في لبنان».

كمال جنبلاط الإنسان
هناك جوانب إنسانية مهمة من حياة كمال جنبلاط تملأ أكثر من كتاب. ومن اهتماماته يُعتبر كمال جنبلاط من الضليعين في الفقه الدرزي، أضاف إليه من أبحاثه واهتماماته في الفلسفات الهندية التي اعتبرها مصدراً من مصادر الدرزية. وسافر مرات عدة إلى الهند واستلهم حياة الرهبانية الهندوسية وفلسفتها الداعية إلى الزهد والتقشّف وكره حياة القصور واستغنى عن حياة النعمة ورغد العيش. وأدرك جنبلاط أن السعادة يمكن بلوغها بالتعالي عن كلّ الميول الشهوانية التي تحطّ من قيمة الإنسان. ومن ناحية أخرى فكمال جنبلاط يعتبر جذور المذهب الدرزي مستمدّة أيضاً من أساطنة الفلاسفة الإغريق كسقراط وأفلاطون، وأنّ المعرفة فضيلة تؤدّي إلى معرفة الخير والسعي إلى العرفان، في حين يؤدّي الجهل إلى التخبّط وربما السعي إلى الشر. ولذلك يُدعى رجل الدين الدرزي ليس شيخاً فحسب بل «شيخ عقل»، نسبة إلى أهمية العقل والتعقّل في الدرزية التي تصنّف المجتمع الى عقّال وجهّال.
في بلدة المختارة بنى جنبلاط لنفسه عرزالاً ينام فيه بعد الغذاء الذي كان يتألّف من الخضار والبقول والفاكهة. وكان كل نهار جمعة يمتنع عن الكلام ويصوم. كان جنبلاط يستيقظ باكراً بين الساعة الرابعة والرابعة والنصف صيفاً وحوالى الساعة الخامسة في أيام الشتاء. وكان أول ما يقوم به اقتطاع باقة من عشب القمح فيغسلها ويتناولها. وكان يتناول من هذا العشب مرات عدة أثناء النهار ويشرب فنجان زهورات، بعد ذلك يبدأ القراءة حتى السابعة أو السابعة والنصف. ثم يمارس تمارين رياضية ويوغا في حجرته. وعندما كان يرغب في كتابة مقال أو محاضرة، يقوم بذلك في حجرته بعد الرياضة. وبعدئذ يتناول فطوره المؤلف من الهندباء مع العسل، ثم يستحم ويحلق ذقنه ويرتدي ثيابه. كان غذاؤه اليومي يتألف من الخضار المسلوقة والدبس والطحينة والزيتون واللبنة الجبلية والفواكه، وكان يتناول هذا الطعام في معظم الأوقات حتى في اجتماعاته. أما طعام العشاء فكان مشابهاً للغذاء في أصنافه، يتناوله في الثامنة مساء، بعد ذلك يدخل إلى حجرته حيث يقرأ كتاباً ويصغي إلى الأخبار من راديو بجوار سريره ويأوي إلى الفراش حوالى التاسعة والنصف بعد أن يتلو من الصلاة ويشكر الله ويحمده. وكان شديد الحرص على أن تكون غرفته مظلمة تماماً خلال نومه. أما في أيام الجمعة من كل أسبوع فكان يصوم عن الطعام من الفجر حتى الغروب. وكان جنبلاط يحب المزاح مع الأصدقاء في مجالسه الخاصة وفي البيت وكان شديد الحرص على أن يرتب غرفته بنفسه. لم يكن يحب السينما والتلفزيون ولا الحفلات الاجتماعية ولم يقتنِ في منزله تلفزيوناً أصلاً، لكنّه كان يحب طاولة الزهر. وكان يصنع عدة أدوية من أعشاب طبيعية يقدمها للمرضى الذين يزورونه.
ويكتب صحافي من صحيفة السفير عن غذاء مع جنبلاط لدى زيارته عام 1974 في المختارة. ووصف الغذاء الذي مُدّ على الأرض وكان عبارة عن بضعة رؤوس من البندورة والبصل واللوبية بالزيت وشيء من اللبنة والحمص والبامية بالزيت. ويضيف الصحافي: لقد جلسنا على الأرض جنبلاط وأنا وخادمه محمد وسائقه فوزي. تناولنا الغذاء بشهية، وكان جنبلاط يتناول الطعام ببطء. وحينما توقفنا ورغبنا في الشرب منعنا من ذلك لأن رشف الماء قبل نصف ساعة بعد الأكل مضرّ للصحة وملبك للمعدة. وكان عليّ أن أقبل نصيحته مع إني كنت ظمآناً لشرب الماء ورحت أتسلى بالفاكهة بينما عاد هو إلى لف قدميه مثل غاندي وبدأ يراجع كتابه الشعري الجديد باللغة الفرنسية. وشرب الماء بعد مرور ثلاثة أرباع الساعة من الانتهاء من الأكل. والأكل يجب ألّا يحصل إلّا حين يجوع الإنسان. وأحب جنبلاط الخبز الأسمر والجبنة القروية وسائر الحبوب المتنوعة كالعدس والفول والحمص والبرغل. ولم يجعل من بطنه مقبرة للحيوانات.
وبلغ تقشف كمال جنبلاط في الماديات إلى حدّ إنشاده في ديوان «فرح»:
أموت أو لا أموت فلا أبالي
فهذا العمر من نسج الخيال
هي الأيام تجري في دمانا
أم الحق المكون ألف حالِ
عندما انطلق الرصاص على جسد كمال جنبلاط اهتز جبل الباروك كله، فما بعد 1977 غير ما قبله في تلخيص للشاعر شوقي بزيع:
«لما هَوَيْتَ هوى من بُرْجِهِ بَرَدى
وبانكسارِكَ كان النيل ينكسِرُ
والمشرقُ العربيُّ الحزنُ يغمُرُهُ
عليكَ، والمغربُ الأقصى به كَدَرُ
كأنما أمّةٌ في شخصكَ اجتمعتْ
وأنتَ وحدك في صحرائها المطَرُ»
* أستاذ جامعي - كندا

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا