أُثيرت مناقشات كثيرة حول صحّة قرار المحقّق العدلي، القاضي فادي صوّان، في قضية انفجار مرفأ بيروت في الادعاء على رئيس الحكومة حسّان دياب وعلى وزراء سابقين. إنّ بعض المدّعى عليهم هم أعضاء في المجلس النيابي يتمتّعون، بصفتهم هذه، بحرمة شخصية، حيث تحتاج المباشرة بملاحقتهم أثناء دورة انعقاد نيابية، كما هي الحال حين صدور قرار المحقق العدلي، إلى إذن المجلس النيابي لرفع الحصانة عنهم، لكون الجرم الملاحقين بسببه ليس جرماً مشهوداً. كما أنّ بعضهم أيضاً محامون، وبالتالي من الضروري الحصول على إذن نقابة المحامين قبل الادعاء عليهم. إلا أنّنا في هذا المقال، سوف نقتصر على بحث مدى شرعية ملاحقتهم بصفتهم رئيس حكومة ووزراء، بحسب النصوص الدستورية والقانونية المتعلقة بالمسألة. لكن قبل ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الادعاء على رئيس الجمهورية من قبل أيّ قاضٍ هو قضية محسومة بالنفي بموجب المادة 60 من الدستور اللبناني التي تنص على ما يلي: «لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفته إلّا عند خرقه الدستور أو في حال الخيانة العظمى. أما التبعة في ما يختص بالجرائم العادية، فهي خاضعة للقوانين العامة ولا يمكن اتهامه بسبب هذه الجرائم أو لعلّتي خرق الدستور والخيانة العظمى، إلّا من قبل مجلس النواب بموجب قرار يصدره بغالبية ثلثي مجموع أعضائه، ويحاكم أمام المجلس الأعلى المنصوص عليه في المادة الثمانين...». فعبارة «لا يمكن اتهامه... إلّا من قبل مجلس النواب»، قد حسمت مسألة اتهامه. والمادة واضحة أيضاً في إعطاء حصانة لرئيس الجمهورية في ممارسته لمهامه، فلا يُلاحَق إلّا بجريمتي خرق الدستور والخيانة العظمى، وهما جريمتان غير موصّفتين في القانون. كذلك، حدّدت المادة بوضوح أنّ التبعة عليه تخضع في ما يختص بالجرائم العادية للقوانين العامّة. وحصرت محاكمته في جميع الأحوال، بالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. وبالتالي، القضية واضحة عندما يتعلّق الأمر باتهام أو محاكمة رئيس الجمهورية.
الأمر مختلف عندما يكون الوزراء أو رئيسهم هم المعنيين بالاتهام أو المحاكمة. فقد أعطاهم الدستور امتيازاً وليس حصانة، إذ يحاكمون أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، إن كان الجرم خيانة عظمى أو إخلالاً بالواجبات المترتبة عليهم. ولكنّ مسألة اتهامهم هي مسألة ملتبسة. فنصّ المادة 70 من الدستور هو: «لمجلس النواب أن يتّهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم، ولا يجوز أن يصدر قرار الاتهام إلا بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس. ويحدّد قانون خاص شروط مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء الحقوقية». ونصّت المادة 71 على أن: «يحاكم رئيس مجلس الوزراء والوزير المتهم أمام المجلس الأعلى».
يتّضح من هاتين المادتين أنّ المشرع الدستوري لم يأتِ على ذكر الجرائم العادية التي يرتكبها رئيس مجلس الوزراء والوزراء، بل اكتفى بذكر جريمتين غير موصّفتين قانوناً لغاية اليوم وهما الخيانة العظمى والإخلال بالواجبات المترتّبة عليهم. فليس معلوماً ما هي بالتحديد الخيانة العظمى، وكذلك ما هي حدود الجرائم التي تدخل ضمن الإخلال بالواجبات الوظيفية. وإذا كان المشرع الدستوري، في الفقرة الأخيرة من المادة 70، قد طلب إصدار قانون خاص لتحديد شروط مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء الحقوقية، فإنّ هذا القانون لم يصدر لغاية اليوم. وبالتالي، فهذه المسؤولية غير محدّدة، واتهام الوزراء استناداً إليها ربّما يخالف في مكان ما مبدأً دستورياً شديد الأهمية، وهو مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات. ما هي حدود الواجبات الملقاة على عاتق الوزير والتي بسببها يملك امتيازات في الملاحقة والمحاكمة؟ هل الرشوة والسرقة والفساد هي ضمن الواجبات، حتى لو أنه استغل وظيفته للقيام بها؟ ألا تبقى هي جرائم جزائية بحتة لا علاقة لوظيفته بها؟
لا يملك رئيس الحكومة والوزراء حصانة بل امتيازاً يختلف عن الحصانة النيابية التي يحصل عليها النواب نتيجة الشرعية بعد انتخابهم من قبل الشعب


على كلّ، لقد حسمت المادة 71 مسألة محاكمة رئيس مجلس الوزراء والوزراء بسبب هاتين الجريمتين، وهي تتمّ حكماً أمام المجلس الأعلى المنصوص عليه في المادة 80. لكن الدستور لم يحسم مسألة الاتهام، فجاءت المادة 70 غامضة لجهة النص على أن «لمجلس النواب أن يتهم...». وتثير صياغة هذه المادة العديد من الأسئلة منها:
هل قصد المشرع أنّ صلاحية الاتهام ليست محصورة بمجلس النواب وبالتالي يمكن للجهتين، مجلس النواب أو القضاء الجزائي الاتهام؟ من هي الجهة التي لها الأولوية بالاتهام؟ هل تعود هذه الصلاحية إلى القضاء العدلي إذا تخلّف مجلس النواب عن صلاحيته تلك؟ ما هي المؤشرات الثابتة التي تؤكّد أنّ مجلس النواب قد تخلّى عن هذه الصلاحية؟ هل يستطيع مجلس النواب أن يسترد صلاحيته تلك بعد أن يكون القضاء قد وضع يده على القضية؟
في جريمة المرفأ، قام المحقّق العدلي القاضي صوّان بتوجيه رسالة إلى مجلس النواب يبلّغه فيها بأنّ التحقيقات التي أجراها وفّرت شبهات عن مسؤولية بعض الوزراء وتقصيرهم حيال وجود نيترات الأمونيوم في المرفأ. وطلب من المجلس اتخاذ ما يراه مناسباً بشأن مسؤولية بعض الوزراء عن إهمال أسهم في وقوع انفجار المرفأ. لكن نظراً إلى عدم تحرّك المجلس في هذا الإطار، ارتأى القاضي أنّ صلاحية الملاحقة أصبحت تعود إليه، وبالتالي قام بالادعاء على رئيس حكومة تصريف الأعمال وعلى ثلاثة وزراء. وبذلك، يكون القاضي ضمناً قد أراد القول إنّ الصلاحية تعود أساساً إلى مجلس النواب، لكن القضاء الجزائي يظلّ مع ذلك صالحاً لملاحقة الوزراء بهذه الجرائم، باعتباره صاحب الولاية الشاملة، وباعتبار أنّ المادة 70 من الدستور، وإن أعطت لمجلس النواب حقّ الاتهام، إلّا أنّها لم تحصر هذا الحق فيه. لأنّ عبارة «لمجلس النواب أن يتّهم الوزراء...»، الواردة في المادة 70 المذكورة، تعني أنّ لمجلس النواب الحق في اتهامهم، ولا تعني أنّ هذا الحق محصور فيه. فإذا تخلّف عن القيام بواجبه في هذا الشأن، على القضاء التحرك وملاحقة من يشتبه في تورطهم في الجرم.
لن نتطرّق في هذه الدراسة إلى صلاحية القضاة في مخاطبة مجلس النواب، وتوجيه الرسائل إليه وحثّه على القيام بواجبه، لكننا نتساءل: هل ما قام به المحقّق العدلي بملاحقة رئيس الحكومة والوزراء يخالف الدستور والقانون؟
لنعد إلى موقف الاجتهاد اللبناني الذي لم يكن ثابتاً لهذه الناحية. ففي السادس من أيار / مايو 1991، في قضية تتعلّق بملاحقة الوزير السابق جوزف الهاشم، أصدرت محكمة التمييز الجزائية القرار الرقم 31\91، الذي اعتبرت فيه أنّ الصلاحية تعود وفقاً للأحكام الدستورية حصراً للمجلس النيابي، مع العلم بأنّها رأت أنّ الأفعال الملاحق بسببها قد تشكّل جرماً جزائياً، إلّا أنّها تصنّف بمخالفات ناجمة عن إخلال بواجباته الوظيفية.
بينما في قضية الوزير السابق شاهي برسوميان، في قرارها الصادر بتاريخ 24\3\1999، أكّدت محكمة التمييز الجزائية صلاحية القضاء العدلي للنظر في دعوى وزير النفط السابق شاهي برسوميان، وفقاً لأحكام الدستور والقانون. وقد رأت المحكمة في قرارها أنه يتّضح من المقارنة ما بين المادة 60 والمواد 70، 71، و72 من الدستور أنّ الصلاحية المعطاة للمجلس النيابي باتهام رئيس الجمهورية هي «صلاحية حصرية نافية لغيرها»، في حين أنّ صلاحية اتهام الوزراء «ليست إلزامية بل ممكنة»، و«في حال استعمالها من قبل المجلس النيابي، باعتباره هيئة استثنائية للاتهام في هذا النطاق، فإنها تحجب صلاحية القضاء العادي الذي هو السلطة صاحبة الولاية الشاملة للنظر في كل الجرائم... وبالتالي يعود إلى هذا القضاء العادي الحق والصلاحية والصفة لمباشرة الدعوى العامة ومتابعتها، ليس فقط بالنسبة إلى جرائم الوزراء العادية، بل حتى بالنسبة إلى الجرائم المحددة في المادة 70 من الدستور، في حال لم يستعمل المجلس النيابي بالأفضلية صلاحيته...». مع الإشارة إلى أنّ محكمة التمييز قد اعتبرت الجرائم المسندة إلى المدعى عليه، وهي المنصوص عليها في المواد 360\457 و363 من قانون العقوبات، تدخل قانوناً ضمن فئة الجرائم المخلّة بالواجبات المترتبة على الوزير. ورأت أنّ هذا لا يتعارض مع مبدأ فصل السلطات، لكون الدستور يعطي هذا الحق لمجلس النواب بالأفضلية ولا يحصره به، إلّا إذا استعمله المجلس وباشره. من هنا، يتبيّن أنّ محكمة التمييز قضت في قرارها الصادر في تاريخ 24\3\1999 بالمنافسة في صلاحية الملاحقة بين مجلس النواب والقضاء العادي.
ما نلاحظه هنا، هو أنه إذا كان مجلس النواب قد سكت عام 1999 عن إعلان القضاء الجزائي صلاحيته لملاحقة الوزير السابق شاهي برسوميان، فهذا يعني أنه أقرّ لهذا القضاء بصلاحيته تلك وقبِل بالتفسير الذي أعطاه آنذاك للمادة 70، مع ضرورة ملاحظة أن محكمة التمييز قد اعتبرت الجرائم التي يُلاحق الوزير بسببها، هي جرائم تدخل ضمن الإخلال بالواجبات المترتبة عليه.
كما لا بدّ أن نتساءل عمّا إذا كان التبرير المنطقي لإعطاء مجلس النواب صلاحية ملاحقة الوزراء في هذه الجرائم هو أن هذه الجرائم تدخل ضمن ما يمكن أن نسميه «الجرائم السياسية»، وهو - أي مجلس النواب - هو صاحب الصلاحية في المراقبة السياسية لأعمال الحكومة وأعمال الوزراء، وإشهار المسؤولية السياسية بوجههم، وبالتالي من الأصح أن تعود الصلاحية إليه حصراً للملاحقة في هذه الجرائم «السياسية». والسؤال المشروع هنا، ما هي الحدود الدقيقة الفاصلة بين الواجبات الوظيفية والجرائم الجزائية؟ أليس الفرق هنا تماماً كالفرق بين الخطأ الشخصي للموظف وخطئه المرفقي؟ أليس القاضي هو الذي يحدّد الفرق بين هذين الخطأين (لموظف إداري ضمن السلطة التنفيذية) من دون أن يعتبر ذلك خرقاً لمبدأ فصل السلطات؟ لماذا لا تعتبر الرقابة على دستورية القوانين خرقاً لمبدأ فصل السلطات؟ لأنّ هذا هو الدور الأساسي للقاضي: مراقبة السلطات الأخرى وإشهار العقوبات المناسبة بوجهها. لماذا لا تعتبر الرقابة السياسية لمجلس النواب على أعمال الحكومة خرقاً لمبدأ فصل السلطات؟ لأنّ فصل السلطات ليس مطلقاً، حتى في أنظمة الفصل الجامد بين السلطات فلا بدّ لكل سلطة من أن تراقب السلطات الأخرى وتضع حدوداً لها.
أما القول إنّ عبارة «لمجلس النواب أن يتهم الوزراء...»، الواردة في المادة 70 من الدستور، إنّما تعني أنّ سلطة مجلس النواب في الاتهام هي سلطة استنسابية يمارسها في ضوء تقديره لأعمال الوزير وللظروف المحيطة بها ولا تعني عدم حصر حق الاتهام فيه، فهو قول مردود، لأنّ السلطة الاستنسابية والتقديرية هي حق طبيعي لأي سلطة اتهامية، لا حاجة للمشرع الدستوري إلى إعطاء هذا الحق أو الإشارة إليه.
يبقى سؤال مهم كان على المشرّع أن يقوم بالإجابة عنه. إذا عاد مجلس النواب وقرّر القيام هو بنفسه بالملاحقة، فهل يمكنه استرداد هذه الصلاحية من القضاء أم أنه يفقدها تماماً بمجرد مباشرة القاضي الجزائي هذه المهمة؟ برأينا أن القاضي صوان قد استدرك الأمر بإخبار المجلس بوجود شبهات، وبالتالي لا نظن أن إحجام المجلس عن القيام بدوره في المرة الأولى يعطيه الحق في استدراك الأمر بعد مباشرة صاحب الولاية الشاملة - أي القاضي العدلي - صلاحيّته في ملاحقة المشتبه فيهم بهذه الجرائم.
رئيس الحكومة والوزراء لا يملكون حصانة، بل امتيازاً يختلف عن الحصانة النيابية التي يحصل عليها النواب نتيجة الشرعية التي يكتسبونها بعد انتخابهم من قبل الشعب، ومن صفتهم التمثيلية لكونهم يمثلون «الأمة». وبانتظار أن يقوم المشرّع الدستوري بحسم مسألة الصلاحية، والمشرّع العادي بوضع قانون توصيف الجرائم التي تدخل ضمن واجبات الوزير، يبقى القضاء العدلي هو المؤتمن على العدالة والإنصاف.

* أستاذة القانون العام في الجامعة اللبنانية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا