تتندّر نُخَب لبنانية بالحماس الذي أبداه مسؤولون زمنيون وروحيون منذ بداية هذا العام للاحتفال بالمئوية الأولى لولادة «دولة لبنان الكبير»، عام 1920، على يد المستعمِر الفرنسي الذي أعلن نفسه، بالأمر الواقع، منتدَباً. صحيحٌ أنّ الجائحة الوبائية التي عصفتْ بلبنان والعالَم لم تُيَسِّر القيام بتلك «الاحتفالات»، إضافة إلى الأزمات البنْيَوية التي تهدّد وجود هذا الكيان، البائس حاضرُه سياسياً واقتصادياً ومالياً وأمنياً وتعليمياً وأخلاقياً، إلّا أنّ الأسئلة التي لا بُدّ من طرحها، هي: هل لبنان فعلاً دولة، بالمعنى المؤسّساتي التكاملي العميق للدولة الحديثة؟ هل هو نموذج يُحتذى كما روّجَتْ الزجليات اللبنانية الوهمية؟ وإِلامَ سيستمرّ التعامل مع الفشل اللبناني تعاملاً فولكلورياً بلغَ حدّ المأساة؟ متى سيحدّد لبنان تاريخَه ودوره وانتماءه؟ متى سيعلن هو، من موقعه القومي والإقليمي، خياراته الاستراتيجية؟ وهل سيبقى منتشياً بشعار «لبنان - الرسالة»، أو بميثاق 1943 وتعديلاته القيصرية في «الطائف»؟ هل ارتضى أن يبقى منتظِراً أذونات ما اصطُلِح على تسميته بـ«المجتمع الدولي»، متسوّلاً المساعدات الخارجية الضحلة بعد التسليم بشروطها السياسية وإحراجاتها المعنوية المُهينة؟لا شك في أنّ في لبنان منظومة فساد أخطبوطية مرعِبة. وهذا النظام المزعوم ميثاقياً هو المسؤول الأول عن تمادي تلك المنظومة وعن تكريسها بالتغاضي القاتل، بل بالشراكة المجرمة بحق الشعب والدولة، أولاً لأنّ هذا النظام قام بإحلال أعرافٍ طائفية - مذهبية - قَبَلية محلّ القوانين المرعية الإجراء في الدول الحديثة، وثانياً لأنّه استباح المصلحة الوطنية العليا والمال العام وحقوق الناس في الحياة الحرّة الكريمة، وبذَر الفساد على مساحة الكيان الذي زعموه كبيراً، بعدما قَزّموه إلى درجة التلاشي. وإذا كان الخارج الخبيث، في الأصل، قد فخّخَ تركيبتنا بصواعق مصالحه وبقايا جاهلياتنا، فلماذا لم نَبْنِ نحن الدولة المدنية على صخر المواطَنة؟ ولماذا سمحنا لكلّ تلك السلبيات، منذ قرنٍ كامل، بأن تستبدّ بأخلاقياتنا الوطنية وتَعبث بالأقداس؟
مسكينٌ بعضُ الشعب الذي لم يعِ بعد مصالحه الجماعية. مسكينٌ لأنّ فيه من لم يستوعب بعد أهمية المعادلة الردعية المثلّثة الأضلاع التي أرستْها مقاومةُ الأبطال، الشهداء منهم والأحياء، للاحتلال والإرهاب والوضاعة والذلّة... وقد استدعى ذلك القصورُ الإدراكي إيغالَ الخارج في شنّ حربٍ اقتصادية ونفسية غير مسبوقة، وفي بلبلة مفاهيم الداخل، لتأليب الناس بمن فيهم البيئة الحاضنة، على الظاهرة النبيلة التي حمت الشعب وصانت الأرض ورفعت راية الكرامة والرِفعة والانتصار، ولولاها لكان لبنان كلّه في مدار الاستتباع الحتمي والإملاءات.
وإذا كان للبنان أن ينهض من الهوّة السحيقة التي يكاد يسقط فيها، فلن يكون ذلك النهوض بالخضوع والخنوع والركوع، بل بالتماسك الداخلي المتين على عِدّة أُسُس، أهمّها انخراط الجميع في عملية استئصال الفساد من جذوره لا من فروعه فقط، وأن يصبح ذلك الاستئصال ثقافة عامّة وخاصّة، وممارسةً مقنّنة بالنص القانوني والوجدان الجمعي. على أن يكون ذلك النهوض مشدوداً إلى غدٍ مدروس، لا إلى إغاثة مشروطة ومؤتمرات موعودة، بل إلى رؤية سديدة وحوكمة رشيدة، في صلبهما الاستعادة الحُكمية للمال العام المُختَلَس، والضرب بيدٍ من حديد على كل من تُسَوِّل له نفسه المساس بحقوق الناس وإيداعاتهم وأتعابهم وعرق جباههم. يستلزم ذلك بالطبع التزام الأنظمة المرعية الإجراء وتقيُّد الجميع بها، مسؤولون ومواطنون، في إشارة فعلية لا شكلية إلى كوننا طلّاب عدالة، وإلى أنّنا شعب يستحقّ الحياة ويعنيه التمدُّن والتقدّم. قال الفيلسوف القِدّيس أوغسطين: «بلا عدالة، ليست الأمم سوى زمرة من اللصوص».
* أستاذ الفلسفة السياسية
والإجتماعية في الجامعة اللبنانية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا