الانزياحات في عملية الإنتاج التي تسبَّب بها الوباء ليست مؤقّتة، بقدر ما هي مرتبطة، على المدى البعيد، بجعل السلع والأسواق الجديدة المتمثّلة في اللقاحات والمنتجات الصحّية مدخلاً لمعاودة تحريك عملية الإنتاج ككل. إنتاج اللقاحات بهذا المعنى، سيستمرّ لفترة للتعويض عن فقدان الأجزاء الأساسية من الناتج الإجمالي العالمي، ومع استمراره على ضوء فعالية اللقاحات من عدمها، ستستعيد الصناعات التي خرجت من السوق قيمتها المضافة، وأهمُّها بالإضافة إلى قطاعات النقل والسياحة والخدمات، النفط. ارتفاع أسعار هذا الأخير إلى ما فوق حاجز الـ50 دولاراً للبرميل، يُعتبر مؤشّراً على قرب نهاية موجة الركود الكبيرة التي دخلها العالم إثر انتشار الوباء، وخصوصاً في الدول الصناعية. ولكنّ حصول ذلك لم يكن تلقائياً، أي إنّ المؤشّرات الاقتصادية الخاصّة بأسعار النفط والأسهم، لم تُظهر بوادر إيجابية بفضل ديناميات العرض والطلب وحدها، بل بتدخّل مباشر من الحكومات الرأسمالية وبنوكها المركزية، وبشكل لم يسبق له مثيل منذ أزمة عام 2008، إن لم نقل منذ حصول الكساد الكبير في عام 1929.
عن موقع gracg.com

دور رزم التحفيز
قبل محاولة استعادة الناتج الإجمالي العالمي عن طريق إنتاج اللقاحات، كانت الدول الرأسمالية التي نُكِبَت بالجائحة قد استعدّت لإنقاذ اقتصاداتها، عبر وضع خطط لإبقاء الأجزاء الأساسية من عملية الإنتاج قائمة، ولو بتقييد عمل السوق وتنافسيّتها لمصلحة نظام التحفيز الذي يقتضي تدخّلاً أكبر من الدول وبنوكها المركزية، ليس في عملية التبادل التجاري فحسب، بل في نظام الإنتاج نفسه. انهيار الأسواق بسبب أزمة الطلب التي تسبَّبَ بها الوباء، إثر إجراءات الإغلاق وتقييد حركة الرساميل والسلع واليد العاملة، دفعت بالحكومات إلى تغيير السياسة التي اتّبعتها في أزمة عام 2008، حين ذهبت معظم الأموال التي دفعتها البنوك المركزية لمصلحة البنوك وأسواق المال. هذه المرّة، وبسبب طبيعة الأزمة التي بدأت كأزمة طلب، قبل أن تتحوّل إلى أزمة فائض إنتاج، وخصوصاً في قطاع النفط، ذهبت معظم الرزم المالية التي أُقرِّت لمصلحة عملية الإنتاج مباشرةً. قطاع الصناعات الصغيرة والمتوسّطة كانت المستفيد الأكبر، لأنّه تحوَّل، منذ شيوع الطابع الحمائي للاقتصاد، وخصوصاً في الولايات المتحدة، إلى المساهم الأكبر في إنتاج القيمة، لمصلحة الطبقات العاملة والمتوسّطة. الحفاظ على اليد العاملة، هنا، كان هو الهمّ الأساسي، لأنّ الأرباح كانت قد تبخّرت وانتهى الأمر، وبالتالي فضّلت الحكومات والبنوك المركزية في هذه الدول التضحية بها لمصلحة الأجزاء من عملية الإنتاج التي ستعاود ضخّها مستقبلاً، حين تنتهي أزمة الطلب، وتعاود الاقتصادات الرأسمالية نشاطها، «كالمعتاد». إعانات البطالة التي سجّلت معدّلات قياسية - وخصوصاً في أميركا - تندرج أيضاً في الإطار نفسه. صحيح أنّها لم تُدفع لمعاودة تحريك عملية الإنتاج، مباشرةً، حين ينتهي الوباء، ولكنّها حدّت من الأضرار التي يمكن أن تصيبها جرّاء انهيار السلم الاجتماعي وشيوع أعمال الفوضى المرتبطة بتفكُّك الشبكات الحماية الاجتماعية في هذه الدولة أو تلك. التحكُّم بمعدّلات الفقر المتزايدة بهذا المعنى، عبر الإعانات وبنوك الطعام والدفوعات النقدية المباشرة إلى العائلات الفقيرة والعاملة، هو بمثابة استكمال لجهود الحفاظ على عملية الإنتاج، عبر صيانة الحلقات الأضعف فيها، والمعرَّضة أكثر من سواها لعوامل الانهيار، بدليل انتشار الوباء بمعدّلات أكبر بينها، لا سيّما في أوساط الطبقة العاملة من ذوي الأصول الأفريقية، في الولايات المتحدة.

مؤشّرات الاستجابة الاقتصادية
قبل البدء بإنتاج اللقاحات، وتنسيق عملية نقلها وتوزيعها وتخزينها، وبالتالي تحوِّلها إلى نظام إنتاج بديل، كانت المؤشّرات على التعافي من عدمها تبدأ من النقاشات السياسية الخاصّة برزم التحفيز. كلّما تأخّر إقرارُها، سواءً في الولايات المتحدة أو في ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية، تنخفض مؤشّرات الأسهم في البورصات العالمية، ويزداد الانهيار في أسعار النفط، ويبدأ التعويل على جهود مكافحة الوباء التي تقودها منظّمة الصحة العالمية، انطلاقاً من النموذج الصيني في احتواء الفيروس وتنسيق الردّ عليه عالمياً، بغية العودة سريعاً، مثله، إلى عملية الإنتاج والنموّ الاقتصادي. الحالة الأميركية كانت الأكثر تعقيداً، بسبب الاستقطاب السياسي الحاد الذي لم يقتصر على الخلاف حول طبيعة الرد على الوباء، قبل حسمها لاحقاً، لمصلحة الديموقراطيين والجناح المعتدل من الحزب الجمهوري، بل انتقل حتّى إلى مناقشات الكونغرس الخاصّة بإقرار رزمة تحفيز الاقتصاد وإنعاشه. كلُّ ذلك جعل من تدخُّل الدولة هناك لإنقاذ الاقتصاد الأقلّ تأثيراً وفاعلية، مقارنةً بنظيره في الاتحاد الأوروبي، أو حتى، بالنموذج الصيني للتدخُّل، وهي ليست فقط الدول الأكثر تضرُّراً من الجائحة على الصعيدَين الصحّي والاقتصادي، بل أيضاً، الأكثر قدرةً على الإنفاق، لتجاوزها، عبر تعديل نموذج الإنتاج الرأسمالي، لجعله متناسباً مع التحدّيات الجمّة التي فرضها الوباء على الاقتصادات الرأسمالية الرئيسية.
بدأت تظهر بنية لسوق اللقاحات تتلاءم مع خريطة انتشار الوباء وفقاً للتقسيم الجغرا-طبقي بين دول الشمال والجنوب


التعديل هنا يتجاوز رزم التحفيز الحالية، مع أنها الإطار الوحيد المتاح لإبقاء هياكل الإنتاج قائمة، إلى إيجاد آليات بديلة لمعاودة ضخّ الثروة في شرايين الاقتصاد العالمي، وبالتالي استعادة الأجزاء التي فُقدت من الناتج الإجمالي العالمي، ريثما تنتهي أزمة الطلب على السلع التقليدية بانتهاء الوباء. المؤشّر الخاصّ بأسعار النفط بدأ يستجيب لهذا التغيُّر على نحو واضح، حيث بدت القفزة إلى سعر 52 دولاراً للبرميل مرتبطة بدورة إنتاج اللقاحات، أكثر منها بإقرار رزم التحفيز من عدمها. وهو مؤشّر لا يتعلّق بأفضلية آلية أو دينامية رأسمالية على أخرى، بقدر ما يتّصل بجعل الطلب، والذي هو حصيلة عملية الإنتاج وشرطها في الآن معاً، مستداماً. لنقُل إنّ الغاية هنا هي استعادة الظرف الذي يتيح إنتاج أكبر كمّية ممكنة من السلع الجديدة في وقت قياسي، نظراً إلى قصر عمر إنتاج اللقاحات، بغية تعويض ما أمكن من خسائر، وفي شرط ليس فيه أسواق بالمعنى الفعلي للكلمة، وإنّما عملية مخاض لسوق جديدة لم تستقرّ آلياتها بعد، ولم يُعرَف ما إذا كانت السلع التي تورَّد إليها على شكل لقاحات وكمّامات ومواد تعقيم، قابلة للاستدامة أم لا. هذا، وفي حدود عمر دورة إنتاج اللقاحات القصيرة حُكماً، سيكون كافياً، على الأرجح، لثبات المؤشّرات الاقتصادية الإيجابية الخاصّة بأسعار النفط، وحتى الأسهم، بما يتجاوز رزم التحفيز نفسها، والتي هي بمثابة محفّز فقط للحفاظ على هياكل الإنتاج القائمة، وليست إنتاجاً بحدّ ذاتها، كما هي الحال مع دورة إنتاج اللقاحات.

بنية سوق اللقاحات
بدأت تظهر بنية لهذه السوق تتلاءم، ليس فقط مع تركّز إنتاج الثروة في الغرب، بل أيضاً مع خريطة انتشار الوباء وفقاً للتقسيم الجغرا-طبقي بين دول الشمال والجنوب. فالصين التي أبدت استجابة مبكّرة للرد على الوباء، تبدو بعد انحساره فيها لمصلحة دول الشمال الرأسمالية، خارج خريطة إنتاج اللقاحات التي تكاد تقتصر على الولايات المتحدة وألمانيا وروسيا. التحدّي الصيني أُنجز لجهة احتواء الوباء وتقديم نموذج عالمي لمكافحته، بما ينعكس إيجاباً على النموّ الاقتصادي وعملية الإنتاج التي بدأت تستعيد وتيرتها السابقة تدريجياً. ثمّة لقاح صيني انضمّ إلى سباق اللقاحات، ولكنّ الطلب عليه ليس كبيراً، بالمقارنة مع نظيريه الأميركي الألماني «فايزر»، الذي يُنتج وفقاً لأولويات تخصّ أوروبا والولايات المتحدة وحدهما، وبأسعار تتناسب مع مستوى الإنفاق والدخل في هذه الدول، والروسي «سبوتنيك 5» الذي يبدو في غياب دول الجنوب عن خريطة الإنتاج، الملاذ الوحيد لهذه الأسواق في مواجهة الاحتكار الغربي لإنتاجه. هذا الفرز يعكس بوضوح، حتى في غياب العامل الصيني أو قلّة تنافسيّته، طبيعة عملية الإنتاج الفعلية التي تُستبعد منها حين يتعلّق الأمر بإنتاج شروط الحياة نفسها، وليس السلع، أسواقٌ كانت تبدو حتى وقت قريب ملاذاً للإنتاج الرأسمالي الرخيص، لجهة تكلفة إنتاج السلع التجارية والعمالة نفسها التي تجري التضحية بها الآن، بذريعة الحفاظ على حياة نظيرتها، في أوروبا والولايات المتحدة. إلى درجة أنّ دولةً حليفة للغرب مثل أوكرانيا بدت أقرب، شعبياً، إلى روسيا في هذا «التقسيم الجديد» للإنتاج، إذ اشتكى رئيسها من استبعادها من خريطة التوريد الأميركية الألمانية للقاح «فايزر»، على الرغم من تقديمها طلباً بذلك، ما جعل المزاج الشعبي فيها، ولأوّل مرّة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، واستقلالها عن روسيا، يميل لمصلحة الأخيرة، أقلّه صحّياً، وفي ما يتعلّق بتفضيلات اختيار اللقاحات. وينطبق الأمر نفسه على الهند التي تربطها علاقات وثيقة بالولايات المتحدة، لجهة احتواء النفوذ الصيني في آسيا والمحيط الهادئ. ولكن حين يتعلّق الأمر بحاجتها إلى ملايين الجرعات للتخفيف من وطأة انتشار الوباء فيها، كونها الأكثر تضرُّراً منه بين دول آسيا مجتمعةً، لا تجد نفسها على خريطة أولويات هذا "الحليف"، بالنسبة إلى المرشّحين المحتملين لتلقّي لقاحه. ولذلك، لجأت مثل الأرجنتين ودول أخرى في الجنوب، إلى روسيا. ولكن الحالة الهندية تميّزت عن غيرها بالتنسيق مع روسيا، مباشرةً، لمعاودة إنتاج اللقاح، عبر خطّ إنتاج خاصّ بها يتمّ التوريد انطلاقاً منه، بعد المصادقة عليه روسياً، بغية الالتزام بالمواصفات المطلوبة للّقاح.

خاتمة
في الحالتين، ثمّة استبعاد، ليس فقط لدول الجنوب أو لحلفاء الغرب الأقلّ شأناً، بل أساساً للحالات التي لم يصل فيها الترسمل إلى حدٍّ يسمح لها بأن تكون على خريطة التعافي العالمي من الوباء، شأنها شأن الأسواق التي يُنتَج لها خصّيصاً لقاح «فايزر». اللقاح الروسي بهذا المعنى، يستكمل الجهد الصيني الذي برَزَ في بدايات الأزمة، ليس فقط في التنافس مع الغرب على الاستفادة من أزمة الوباء، تجارياً وجيوسياسياً، بل أيضاً في تقديم نموذج يعجز الغرب عن تقديمه، بسبب اعتماده على الربحية العالية. والمقصود بذلك، جعل بنية السوق الجديدة، ليس فقط تنافسية وفي متناول الأكثرية في العالم، بل أيضاً ضرورةً للحفاظ على الحياة نفسها، حين تصبح مرتبطةً بإنتاج سلعة، أياً كانت أهميتها و«نُدرتها»، وتحديداً حين يصبح الحصول عليها انتقائياً، أي بمثابة امتياز لدول الغرب الرأسمالية دون غيرها من الدول والشعوب التي يفتك بها الوباء.

* كاتب سوري