ودّعنا سنة الأسئلة الوجودية، واستقبلنا سنة جديدة أجوبتها غير جاهزة. مع نهاية السنة، يكثر عمل البصّارين والمنجّمين، وتبدأ المنافسة بين وسائل الإعلام ودور النشر للتسابق على ترويج التوقّعات. المشكلة ليست في نجومية العرّافين، بل في استعداد الناس للاستماع إلى خرافات متناقضة، ما يُؤكّد تراجع الوعي العلمي والثقافة العقلانية. كنت أعتقد أنّ التنجيم سمة شرقية لغرقه في الروحانيات، وأنّه مجهول في الغرب المعروف بعقلانيّته، لكنّ مفاجأتي كانت عظيمة عندما شاهدت في باريس، في عام 1983، مؤتمراً دولياً عن التبصير والتنجيم. وكانت مفاجأتي أكبر، عندما علمت أنّ الرئيس فرنسوا ميتران، الاشتراكي ووريث عصر التنوير، يستشير برّاجته كلّ صباح في قصر الرئاسة. هل فقد العالم عقله؟!
ودّعنا عام 2020 الحافل بالأحداث، واستقبلنا عاماً جديداً يُبشّر بتوقّعات مثيرة. هل توقّف التاريخ بانتظار المجهول؟ وهل نعيش في أيامٍ تضجّ بالأسئلة، والجواب كامنٌ في الآتي؟ نحيا في زمن اللايقين، وفي منطقةٍ صاخبةٍ بالأحداث والتحوّلات، والقوى الفاعلة فيها مُؤمنة بالماورائيات والتمنّيات والأوهام والتخيّلات والتوقّعات، منها الطريف ومنها الغريب، ومنها المستهجَن. كيف نصنع مستقبلنا؟ هل عِلْمُ الغيب يصنع الواقع؟ أم أنّ الإنسان له القدرة والوعي لتجسيد الإيمان في فعل الحدث، فيجمع العقيدة والبطولة ليغيّر مجرى التاريخ؟ عالمٌ بلا عقل، لكن كلّ سلطة تستغلّ الفوضى والضياع لتحقيق أغراضها.

أسئلة وجودية
ودّعنا عام 2020 من دون جواب عن أسئلةٍ صعبةٍ، منها: يُواجه الإنسان الأوبئة والكوارث وغضب الطبيعة والبيئة والأزمات الاقتصادية والسياسية والحضارية... فكيف يُحافظ على وجوده وحقّه في البقاء والاستقرار والأمان؟ هل تقع الحرب العالمية الثالثة، أم تُستبدل بحروبٍ إقليميّة أو حروبٍ باردةٍ أو ناعمة؟ كيف يحمي الإنسان أمنه؟
أمام التحديات الوجودية المصيرية، يقف الإنسان مع ذاته حائراً ضائعاً خائباً: يشكّ بإيمانه السابق بالمسلّمات والمناهج والأفكار الحاضرة في الوجود وما قبله وبعده. وفي الوقت نفسه، يُفتّش عن اليقين في قيمٍ ومُثلٍ وأخلاقٍ تُكَوّن إيمانه الآتي بمعنى الخلاص والفرح.

الأمان من الوباء والكوارث والفناء
وباء «كورونا» سيغيّر العلاقات والمفاهيم والأفكار السائدة في العالم، ولكن هل سيغيّر الإنسان سلوكه ووعيه وأولوياته وقيَمه؟ هذه التحدّيات والتحوّلات، سوف تُعيد الاعتبار إلى الإنسان أوّلاً. كان هاجسنا تغيير العالم، لكن الآن أصبح همّنا الأول المحافظة على العالم وعلى بيئة نظيفة تُوفّر الصحّة السليمة والتنمية المستدامة والأمان الوجودي. بعد «كورونا»، سيكون مطلبنا الأول هو بقاء الإنسان على قيد الحياة، ومن ثمّ نُدافع عن حقوقه. وجود الإنسان أوّلاً، ومن ثمّ نعمل من أجل تحسين وجوده. محور تفكيرنا هو الإنسان أولاً. وأولاً العمل للدفاع عن «الحق في الحياة»، لأنّ الإنسان هو مركز العالم، إذا انقرض تدخل الحياة في المجهول ويفقد الكون معناه. الكون موجود لأنّ الإنسان يُدركه، يعيه، يعرفه.
من المرجّح أن تتسبّب الأزمة الحالية في التعجيل بعملية تفكّك الاقتصاد العالمي ونهاية النظام الرأسمالي المتوحّش الفاشل


لأنّ «المصيبة تجمع»، تجتمع اليوم الدول الفقيرة والدول الغنية لمواجهة تحدّيات صعبة مشتركة، أهمّها استمرار الجنس البشري، ومُواجهة الكوارث الإنسانية والبيئية التي نجمت عن سياسة الإنسان تجاه نفسه وتجاه الطبيعة والآخر والمعنى. منها التغيّر البيئي والتلوّث، الفقر والجوع، مُحاربة الكراهية والعنصرية ومختلف حالات الإلغاء، الانعزالية، الجهل والأمّية، الحق في الأمان واحترام حق الاختلاف والتعدّد، مُكافحة التعصّب، الأوبئة والكوارث الطبيعية والأمراض والخوف والألم... في زمن الحروب والكوارث والـ«كورونا»، التحدّي الأكبر الذي يُواجه العالم اليوم، هو تحدّي الفناء والعمل من أجل البقاء على قيد الحياة، بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى. الكارثة البيئيّة التي ستهدّد بقاءنا على قيد الحياة في المستقبل، لا تقلّ خطورة عن الأسلحة النووية والكيميائيّة وسائر الحروب الفتّاكة.

الأمان الاقتصادي: نهاية الرأسمالية
المشاكل الاقتصادية تُغرق العالم بالأزمات العالمية، وبالمجاعة والفقر والتخلّف، فهل يمكن للإنسان أن يُواجه هذه الأخطار ويبقى على وجه هذه الأرض؟ قبل أن يُجيب عن سؤال: كيف نُطوّر حياتنا؟ عليه أن يُواجه سؤال: كيف نُبقي عليها؟ نستشعر، الآن، تأثيرات وتداعيات جائحة «كورونا» ومشتقّاتها على حياة الإنسان والمجتمع والدول. العالم، اليوم، يُواجه أزمة مزدوجة: وباءٌ قاتلٌ واقتصادٌ منهار. «كورونا» ليست مجرّد مرض يُهدّد الصحّة العامّة، بل هي تحدٍّ يُهدّد البشرية بتغيير العلاقات الدولية والإنسانية وسلوك الأفراد والقيم السائدة. دخل العالم في مواجهة أوبئة متعدّدة ومتنوعة، سنكتفي بحصرها بكارثتين: جائحة فيروس «كورونا» وجائحة الكساد الاقتصادي الناتج عن بنية النظام الرأسمالي المتوحّش، بالإضافة إلى العقبات المترتبة من الجائحة الأولى. مع الوباء الصحّي، انتشر خوف مالي كالفيروس لأنّنا لا نعرف على وجه اليقين ما هي الإجراءات التي يتعيّن علينا أن نتّخذها في الأسواق الاقتصادية. بعبارةٍ أُخرى، أصبحت كلّ عناصر الاقتصاد الرأسمالي في حالة سقوطٍ حُر غير مسبوقة. لم يحدث، حتى خلال فترة الكساد العظيم والحرب العالمية الثانية، أن أُغلِق النشاط الاقتصادي بشكلٍ شاملٍ، كما حدث أخيراً في العالم، خصوصاً في الصين والولايات المتحدة وأوروبا.
لقد أظهرت الأنظمة الرأسمالية عجزها الفاضح عن توفير مُتطلّبات الصحّة العامّة في بلدانها. ومن الواضح، أيضاً، أنّ المعالجات المالية والاقتصادية لم تكن سريعة بالقدر الكافي. وعلى هذا، فإنّنا ننتظر حدوث كسادٍ أعظم جديد، أسوأ من الأصلي.
من يُنقذ الحكومات والشركات والبنوك والأسواق الناشئة؟ من المرجّح أن تتسبّب الأزمة الحالية في التعجيل بعملية تفكّك الاقتصاد العالمي قريباً، ونهاية النظام الرأسمالي المتوحّش الفاشل. بعد انهيار عام 2008، نجحت النيوليبرالية، ولو متأخّرة، في انتشال الاقتصاد العالمي من الهاوية. ولكن هذه المرة قد لا تكون الرأسمالية قادرة على إنقاذ نفسها.

الأمن الوجودي وتحدّي الحروب
هل نحن على أبواب حربٍ عالميّة ثالثة؟ أهل التكفير يشنّون شكلاً من حرب إرهابٍ عالميّةٍ ضدّ كلّ مَن يُخالفهم الرأي. حركات المُقاوَمة تتحوّل إلى نوعٍ من الحرب العالميّة ضدّ المَظالِم والاحتلالات. حرب عالميّة من نوع آخر تندلع من أجل التكنولوجيا والبيئة والموارد الحياتيّة، ولا سيّما المياه. حروب عالميّة عِلميّة مُدمِّرة تُهدِّد بنهاية البشريّة. وفضلاً عن عولمة الإرهاب والمُقاومة، يرسم آخرون سيناريوات حربٍ عالميّة كلاسيكيّة متوقَّعة بين الولايات المتّحدة والصين وروسيا، ويتساءلون: هل يُمكن تفاديها؟
يُؤكِّد المُتشائمون أنّ العالم لا يزال زاخراً بالمشكلات، التي قد تنفجر بحروبٍ فتّاكة. لكنّ المُتفائلين يُركّزون على اجتثاث الفقر، والقضاء على الأميّة، وتعزيز السلام، ويُبشرون أنّ العالم سيصبح مكاناً أفضل ممّا نتصوّر.

الإيمان بالإنسان
بعيداً عن التشاؤم والتفاؤل، أصبح العالَم بحاجة إلى رؤية أكثر إنسانيّة وأخلاقيّة لبناء إنسان جديد يعترف بالآخر، ويضحّي من أجل الغير ويهزم الأنانيّة ويكون قادراً على إطلاق ثورة ثقافيّة لعالمٍ جديد. جائحة «كورونا» وأخواتها من الكوارث والحروب، ليست مجرّد وباءٍ، إنّها صدمة حضارية. إنّها صفعة تحدٍّ وجودي حرّضتني أكثر على النقد الذاتي ومراجعة المسلّمات التي آمنت بها والشك بالبديهيات الموروثة. وحرّضتني أكثر على التفكير والتأمّل والحلم. إنّها دعوة للتفتيش عن معنى الحياة والوجود. إنّها سؤالٌ مُتعدّدُ الأبعاد، وحالة مُتحرّكة، وتحوّلات مُستمرّة خارج الثابت والسكون. إنّها طريق الحرية إلى إنسانٍ يُبدع العالم الجديد بألوان الحق والخير والجمال، ويُحيي الانسجام مع الذات والآخر والطبيعة والمعنى.
هل نشهد موت الإنسان الفرداني الإلغائي للآخر العدواني الذي يزرع الحروب والتدمير والخراب، كما بشَّرنا فرنسيس فوكوياما في ما سمّاه «نهاية التاريخ»؟ أو أنّنا دخلنا مرحلةً تاريخيّة لإنقاذ الحضارة والإنسانيّة عبر ولادة إنسانٍ جديد يعمل على إيجاد سُبلٍ جديدة للتعاون والنهضة؟ على أن يكون الأساس هو إيثار الآخر وإنكار الذات.
ما زال الإنسان يعيش صراعاً بين الحرب والأمان، بين نزعته الداروينيّة العدوانيّة وتوقه إلى تجسيد الأخلاق والقيَم السامية في عالَمٍ جديد. هذه الحالة تشهد، أيضاً، سُرعتين مُتعاكستين: الأولى، تتّجه إلى الخراب والفناء ونهاية الحضارة؛ والثانية، تتطلّع إلى العلم والمعرفة والإبداع، من أجل بناء نظامٍ جديد يُحقّق الأمن (بدلاً من حروب القتل والإرهاب)، والأمان (بديلاً عن الأزمات)، والإيمان بالإنسان (طريقاً للخلاص).
هل مات الإنسان أم يُولد من جديد؟ سؤالٌ يستحقّ التأمّل والبحث في نهاية عامٍ صاخبٍ، وبداية الدخول في زمنٍ آتٍ واعدٍ.
* كاتب وناشر لبناني